لم يعد هناك الكثير ولا القليل لنشعر تجاهه بالمفاجأة!
لا تقف الصدمة عند الواقع فقط، بل إن الرجوع الى الماضي يصدم أكثر، لعل العمر والاطلاع يمنحان ما يمكن أن يخفف صدمات الحياة في أزمنتها وأمكنتها.
كنت أعدّ بحثا عن السينما وهزيمة عام 1967، حين صدمت بالأفلام السينمائية التي تم إنتاجها بين عامي 1967 و1973. وقتها، تساءلت، هل كان ذلك منسجما؟ وإذا كان كذلك، فكيف أقبل الجمهور على هكذا أفلام؟ ثم رحت أتقصى ما يمكن من إنتاجات في الأدب والفنون التي كانت أفضل حالا من السينما، وصولا إلى فكرة البحث بين ما يدور من أحداث تاريخية، وما يواكبها من إنتاجات ثقافية وفنية، بل وما يواكبها من سلوكيات تتعلق بجوانب الحياة.
واليوم، ونحن نتابع ما يتم من جرائم على ساحل البحر المتوسط، وفي الجبال الداخلية في فلسطين، وما يتم من نزاعات عربية تزهق الأرواح، أجد نفسي وأنا أتابع المشهد الثقافي والفني متذكرا ما كان من تاريخ قديم، منذ قرون، ومن تاريخ حديث خلال قرن ونصف تعرضت بلادنا العربية للاستعمار، لأعيد التساؤل مرة أخرى بشيء من التأثر، حيث ما زال الإنتاج الثقافي والإعلام يراوح مكانه، إلا باستثناءات محددة، حيث يبدو أن الوعي على الخلاص الوطني والقومي لم ينضج بعد، بل وبنطرة إلى الشاشات خلال ليلة واحدة، نستطيع قياس الأثر، وهنا فإننا لا نشعر بالصدمة اليوم؛ فقد أخذنا العبرة من التاريخ. في عام 1982، كنت ابن 15 عاما، أي فتى صغير حالم وجاد، وأرى كيف أن بيروت تقع تحت الاحتلال، والقدس تحت الاحتلال، والبصرة مهددة، وكنت مصدوما من شاشات التلفاز التي كانت تتابع برامجها بشكل اعتياديّ، بل وصدمت جدا بنبأ مجزرة صبرا وشاتيلا الذي تلاه استئناف برامج عادية.
ترى، كيف نفسّر ما كان ويكون؟ هل لذلك علاقة بالمنظومات القائمة؟
لا شك أن مهمة التفسير صعبة تاريخيا وسياسيا واجتماعيا ونفسيا. كذلك حين نقرأ في التاريخ العام، عربيا وعالميا، نفاجأ مثلا أنه في ظل سقوط البلاد تحت الاحتلال، كانت النخب السياسية منقسمة، لكن حدث هنا ما كنا نستغربه.
هي إذن دوائر؛ ففي دائرة الصعود، فإنه يواكبها صعود، وفي دائرة النزول، فلها ما يواكبها، تلك هي منظومة الفعل ومنظومة اللافعل.
واليوم، اليوم بمعنى غدا وبعد غد، بيننا "زرقاوات اليمامة"، ولكن بيننا من يكذّب العيون، فلا يشعر إلا وما يحدث هناك صار يحدث حوله.
لقد زادت الاستهانة بالمثل العربي: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، ولكن السؤال لا يتعلق بمصير آخرين بل بنا جميعا. وهنا تحضر الرسالة النبيلة الواعية التي يرفعها من هم من جنسها، لا يضيرهم من خالفهم، حتى يأتي اليوم الذي نصحو فيه جميعا؛ فلا المصير فرديا ولا ينبغي له، بل هو مصيرنا القومي والإنساني العالمي.
من هنا فإن دور الثقافة والفن في بلادنا، والذي يأخذ مداه من خلال وسائل الإعلام التي صارت تصل الى الناس جميعا وصغارا، هو دور له صفة القدسية.
الأجناس الأدبية والأشكال الفنية، يمارسها مثقفون وفنانون/ت، ممن يعيشون بيننا ويلمسون عن قرب ما نعيشه وما نطمح له من مستقبل.
أعلم أنه سيقول آخرون بأن الإبداعات تتلو الأحداث، ولكن لنا ما نقوله عن أن ما نعيشه يلزم اتخاذنا إجراءات جادة، فكما نتعرض للموت، فلا أقل من إجراء الحياة، والتي تعني المعنى الوجودي السامي لمعنى الإنسان.
إن تأمل تاريخ الأدب والفن، هو جزء من دراسة التاريخ العام، وهناك من يخصص له كتبا تخص طلبة كليات الفنون والآداب، وفي كلتا الحالتين نحن إزاء تحليل لما نبدعه خلال الفترات التاريخية التي عشناها، وكذلك لنا أن نجد من كان يرى ويبدع، ومن أعدّ العدة من جوانبها وصولا لتحقيق الفعل والإرادة.
إن تأمل أي حدث عظيم استعدنا فيه وجودنا، يحيلنا الى تلك الأرض الخصبة التي تم الزراعة فيها، لينمو كل ما هو جميل والى كل ما نفخر به. ان النصر منظومة تختلف عن منظومة الهزائم.
والآن، الذي يعني أمس واليوم وغدا، لسنا محتاجين لمن يذكرنا بما تم التخطيط له، لجهل الهزائم عميقة والنهوض صعبا، بل نحن بحاجة لقادة فكر وتربية وثقافة يملكون إرادة التغيير بشغف ومسؤولية. ولما كان الخلاص ليس قطريا أبدا، وأن عبارة "انج سعد فقد هلك سعيدا" لن تعني نجاة سعد وأهله أبدا، بل سيكون "الحبل على الجرار"، ولن يتردد الغزاة عن فعل الشرور بأي بلد، في زمن أصبح التفاوض الاستعماري قائما على الاستسلام مقابل البقاء بذل، فهل سنقرأ عنترة "لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعزّ طعم الحنظل"، بانفعال؟ أم كأن الأمر لا يعنينا؟
واليوم، لا يليق بنا الكلام الكثير بل الوعي والفعل. وهنا لعل الثقافة تحضر بقوة، حين نتأمل الحضارات، وكيف أنه ما من حضارة ازدهرت من جوانبها إلا وكان البدء من الكلمة؛ فهذه حضارة اليونان قامت على الثقافة أولا، حتى أن حضارة الرومان التي استمرت 1200 عام، إنما اعتمدت على ثقافة اليونان. أما الحضارة العربية الإسلامية التي ننتسب لها بمحبة وفخر، فكان محركها العظيم فعل ثقافي في حواضر بلادنا. بل إن تأمل نهضتنا العربية الحديثة التي انطلقت آخر القرن التاسع عشر، إنما كان أساسها ثقافي في حواضر القاهرة وبيروت ويافا، وباقي العواصم ومراكز المدن العربية التي انتقل الفعل الثقافي لها في بلاد الشام والعراق وشمال أفريقيا والسعودية والخليج العربي. لكن حدث ما أثر سلبا على النمو الثقافي، والذي يمكن تخصيص مقال له يفسره.
والحق يقال، أن هناك اليوم ما يمكن أن يكون بدايات جادة، في حواضر عربية، على أمل الاستمرار من جهة، واكتساب الصفة العربية من جهة أخرى، والانفتاح على بلادنا الإسلامية علما وأدبا، والعالم خاصة الدول الصديقة، حتى لا يعد باحث بعد عقود ليكتشف ما وجدنا من أفلام لا معنى لها تم إنتاجها في مرحلة صعبة من تاريخنا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما کان
إقرأ أيضاً:
"حدوتة مدينتين: إيطاليا والإسكندرية".. إعادة إحياء الحوار الثقافي على ضفّتي المتوسط
القاهرة - الوكالات
بعد النجاح الكبير الذي حققته النسخة الأولى من معرض "حدوتة مدينتين"، التي جمعت بين أثينا والإسكندرية، تعود مؤسسة آرت دي إيجيبت التابعة لـكالتشرفيتور هذا العام بنسخة جديدة من هذا المشروع الثقافي الرائد، تجمع بين إيطاليا والإسكندرية، وذلك استمرارًا لمسيرة إعادة إحياء الروابط الثقافية والتاريخية بين مصر ودول البحر المتوسط، وتعزيزًا للحوار الفني العابر للحدود.
النسخة السابقة من المعرض، التي أُقيمت في متحف الأكروبوليس في أثينا ومكتبة الإسكندرية في عام 2024، كانت بمثابة جسر بصري وإنساني بين حضارتي اليونان ومصر، حيث عرضت أعمالًا لفنانين من البلدين، وشهدت فعاليات ثقافية وفكرية واسعة النطاق، بالتعاون مع أرشيف كفافي، ومتحف بيناكي، ومكتبة أوناسيس، وحققت أصداء إيجابية على المستوى الدولي.
هذا العام، ينطلق المعرض من مدينة ميلانو في إيطاليا، حيث يُقام في غاليري فوماجالي من ٣٠ يونيو حتى ٣١ يوليو ٢٠٢٥، وتتخلله فعاليات يومي ١ و٢ يوليو بالشراكة مع متحف MA*GA، أحد أبرز المتاحف المعنية بالفن المعاصر في شمال إيطاليا.
يشارك في المعرض مجموعة مختارة من الفنانين المصريين والإيطاليين، سيتم الإعلان عن أسمائهم قريبًا، ضمن رؤية فنية تعكس التنوع والتقاطع الحضاري والثقافي بين ضفتي المتوسط.
كما تُنظم النسخة الثانية من المعرض أيضًا في مدينة الإسكندرية خلال شهري أكتوبر ونوفمبر 2025، في عدد من المواقع الثقافية البارزة، لتعميق التبادل الفني وتعزيز الحوار الإبداعي بين البلدين.
وفي تعليقها على المعرض، قالت نادين عبد الغفار، مؤسسة آرت دي إيجيبت التابعة لكالتشرفيتور:
"أنا فخورة بإطلاق النسخة الثانية من 'حدوتة مدينتين' في ميلانو، المدينة التي لطالما شكّلت مركزًا للفن والحوار الحضاري. هذا المشروع هو امتداد لرؤيتنا في إعادة ربط المدن المتوسطية من خلال الفن والثقافة، وتقديم منصات تعكس التنوع والإبداع المشترك بين شعوب المنطقة. نؤمن بأن الفن قادر على تجاوز الحدود، وأن الإسكندرية ستظل دائمًا رمزًا لهذا التلاقي الحضاري. ونسعى لأن يتحول هذا المشروع إلى مبادرة سنوية، نعقد من خلالها شراكات ثقافية جديدة كل عام مع دولة متوسطية ساحلية مختلفة."
"حدوتة مدينتين" هو أكثر من مجرد معرض فني؛ إنه مبادرة ثقافية مستدامة تسعى إلى إعادة ربط المدن المتوسطية ببعضها البعض من خلال الفن، والتاريخ، والحوار الإنساني. ويؤكد هذا المشروع على دور الإسكندرية كجسر حضاري ومدينة تحتفي بالانفتاح الثقافي منذ نشأتها وحتى اليوم.