جريدة الرؤية العمانية:
2025-08-12@16:38:23 GMT

أمتعة سرِّية

تاريخ النشر: 12th, August 2025 GMT

أمتعة سرِّية

 

 

 

ريتّا دار

[email protected]

 

لا أحد يمشي في هذه الحياة فارغ اليدين أو القلب، حتّى أولئك الّذين يبدون خفافًا كالنّسيم، يضحكون بصوت عالٍ ويملؤون المكان بهجة. كلّنا نحمل على أكتافنا حقائب غير مرئيّة مملوءة بحكايات ناقصة، دموع مؤجّلة، وأحلام وضعت على رفّ عال ونُسيَ مكانها.

نُولَد بلا شيء تقريبًا، ثمّ تبدأ الحياة بإضافة أوزان صغيرة في حقائبنا، أوّل حزن تسلّل إلى قلوبنا، أوّل خيانة من صديق، أوّل يد تتركنا وسط العاصفة.

هذه الأوزان تبدو تافهة في لحظتها، لكنّها حين تتراكم نجد أنفسنا نسير ببطء وكأنّنا نجرّ خلفنا قوافل الماضي.

بعضنا يفتح حقيبته أحيانًا، يفرغ منها القليل على طاولة صديق أو في جلسة صفاء، فيشعر قلبه أخفّ ولو مؤقّتًا. والبعض الآخر يغلقها بإحكام، يخشى أن يراها أحد، أو ربما يظنّ أنّ ما يحمله لا يهمّ أحدًا. لكنّّ حقائبنا البشريّة خطيرة، فهي تبدأ بالتّسرّب إلى حياتنا اليوميّة في صورة غضب بلا سبب، أو عزلة، أو حتّى ابتسامة مجاملة لا تصل للعينين.

كأنّها الصّندوق الأسود لحوادث القلب!!

المشكلة الأهمّ أنّنا لا نحمل حقائبنا فقط، بل ننظر للعالم من خلالها. فمن فقد الثّقة يومًا، سيرى في كلّ يد ممدودة احتمال خيانة. ومن جُرح بكلمة، سيبدأ بتحليل كلّ ما يُقال. نحن نُحمّل النّاس ما لم يرتكبوه؛ لأنّنا نسينا أنّ لكلّ واحد منهم حقيبته الخاصّة، المليئة بما لم يُحكَ بعد.

واليوم جئت لأطمئنكم.. لسنا مضطرين لأن نحمل هذه الحقائب للأبد. قد لا نستطيع أن نلقيها جانبًا بالكامل، لكن يمكننا أن نخفّف منها. المسامحة بداية الطّريق، ليس لأنّ الآخر يستحقّ، بل لأنّنا نحن نستحقّ أن نمشي بخفّة أكبر. الكتابة أيضًا لها مفعول السّحر، أو حتّى مجرّد الحديث مع صديق قديم. تسمية ما نحمله، كفيلة بأن تجعلنا نتنفّس أعمق.

هناك من يخفّف أحماله عبر السّفر، أو التّطوّع، أو الغرق بالعمل. حتّى الموسيقى أحيانًا تعمل كمفتاح صغير لفتح الحقيبة وإخراج ما يؤلمنا، قطعة قطعة.

فلنفعل كلّ ما يلزم لتحرير خطواتنا لنمضي بخفّة إلى تلك الطّرق الّتي تشبهنا.

وربّما أجمل ما يمكننا أن نقدّمه لأنفسنا ولغيرنا، هو أن نتذكّر أنّ كلّ شخص نراه -في الطّريق، أو العمل، أو حتّى على شاشة الهاتف- يحمل حقيبة غير مرئية. قد تكون أخفّ من حقيبتنا، وقد تكون أثقل بكثير.

نحن لا نملك رفاهية اختيار ما يوضع في حقائبنا، لكنّنا نملك أن نقرّر كيف نحملها. أحيانًا يكون الحلّ في أن نضعها جانبًا ولو لساعة، أو نشارك وزنها مع من نحبّ. وأحيانًا نكتشف، بعد سنوات، أنّ الحقيبة الّتي كانت تثقل كاهلنا، صارت اليوم مجرّد ذكرى علّمتنا كيف نمشي بثبات وتحمّل.

في المرّة المُقبلة الّتي تجد فيها أحدهم يتأخّر عن موعد، أو ينسحب فجأة من حديث، أو يبدو شارد الذّهن، تذكّر أن تنظر إلى كتفيه. لن ترى شيئًا، لكنّها هناك، حقيبته الّتي لا أحد يعرف ثقلها سواه. وربما حين تدرك ذلك، ستجد في قلبك مساحة رحمة تُخفّف عنك وعمّن حولك ثقل الحياة وحقائبها.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

أمتعة سرِّية

 

 

 

ريتّا دار

[email protected]

 

لا أحد يمشي في هذه الحياة فارغ اليدين أو القلب، حتّى أولئك الّذين يبدون خفافًا كالنّسيم، يضحكون بصوت عالٍ ويملؤون المكان بهجة. كلّنا نحمل على أكتافنا حقائب غير مرئيّة مملوءة بحكايات ناقصة، دموع مؤجّلة، وأحلام وضعت على رفّ عال ونُسيَ مكانها.

نُولَد بلا شيء تقريبًا، ثمّ تبدأ الحياة بإضافة أوزان صغيرة في حقائبنا، أوّل حزن تسلّل إلى قلوبنا، أوّل خيانة من صديق، أوّل يد تتركنا وسط العاصفة. هذه الأوزان تبدو تافهة في لحظتها، لكنّها حين تتراكم نجد أنفسنا نسير ببطء وكأنّنا نجرّ خلفنا قوافل الماضي.

بعضنا يفتح حقيبته أحيانًا، يفرغ منها القليل على طاولة صديق أو في جلسة صفاء، فيشعر قلبه أخفّ ولو مؤقّتًا. والبعض الآخر يغلقها بإحكام، يخشى أن يراها أحد، أو ربما يظنّ أنّ ما يحمله لا يهمّ أحدًا. لكنّّ حقائبنا البشريّة خطيرة، فهي تبدأ بالتّسرّب إلى حياتنا اليوميّة في صورة غضب بلا سبب، أو عزلة، أو حتّى ابتسامة مجاملة لا تصل للعينين.

كأنّها الصّندوق الأسود لحوادث القلب!!

المشكلة الأهمّ أنّنا لا نحمل حقائبنا فقط، بل ننظر للعالم من خلالها. فمن فقد الثّقة يومًا، سيرى في كلّ يد ممدودة احتمال خيانة. ومن جُرح بكلمة، سيبدأ بتحليل كلّ ما يُقال. نحن نُحمّل النّاس ما لم يرتكبوه؛ لأنّنا نسينا أنّ لكلّ واحد منهم حقيبته الخاصّة، المليئة بما لم يُحكَ بعد.

واليوم جئت لأطمئنكم.. لسنا مضطرين لأن نحمل هذه الحقائب للأبد. قد لا نستطيع أن نلقيها جانبًا بالكامل، لكن يمكننا أن نخفّف منها. المسامحة بداية الطّريق، ليس لأنّ الآخر يستحقّ، بل لأنّنا نحن نستحقّ أن نمشي بخفّة أكبر. الكتابة أيضًا لها مفعول السّحر، أو حتّى مجرّد الحديث مع صديق قديم. تسمية ما نحمله، كفيلة بأن تجعلنا نتنفّس أعمق.

هناك من يخفّف أحماله عبر السّفر، أو التّطوّع، أو الغرق بالعمل. حتّى الموسيقى أحيانًا تعمل كمفتاح صغير لفتح الحقيبة وإخراج ما يؤلمنا، قطعة قطعة.

فلنفعل كلّ ما يلزم لتحرير خطواتنا لنمضي بخفّة إلى تلك الطّرق الّتي تشبهنا.

وربّما أجمل ما يمكننا أن نقدّمه لأنفسنا ولغيرنا، هو أن نتذكّر أنّ كلّ شخص نراه -في الطّريق، أو العمل، أو حتّى على شاشة الهاتف- يحمل حقيبة غير مرئية. قد تكون أخفّ من حقيبتنا، وقد تكون أثقل بكثير.

نحن لا نملك رفاهية اختيار ما يوضع في حقائبنا، لكنّنا نملك أن نقرّر كيف نحملها. أحيانًا يكون الحلّ في أن نضعها جانبًا ولو لساعة، أو نشارك وزنها مع من نحبّ. وأحيانًا نكتشف، بعد سنوات، أنّ الحقيبة الّتي كانت تثقل كاهلنا، صارت اليوم مجرّد ذكرى علّمتنا كيف نمشي بثبات وتحمّل.

في المرّة المُقبلة الّتي تجد فيها أحدهم يتأخّر عن موعد، أو ينسحب فجأة من حديث، أو يبدو شارد الذّهن، تذكّر أن تنظر إلى كتفيه. لن ترى شيئًا، لكنّها هناك، حقيبته الّتي لا أحد يعرف ثقلها سواه. وربما حين تدرك ذلك، ستجد في قلبك مساحة رحمة تُخفّف عنك وعمّن حولك ثقل الحياة وحقائبها.

مقالات مشابهة