الهند- باكستان- إيران.. كيف توزّع واشنطن صكوك الشرعية النووية؟
تاريخ النشر: 30th, April 2025 GMT
مريم السبلاني
منذ نشأة النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، سعت القوى الكبرى إلى فرض معايير محددة للشرعية في امتلاك السلاح النووي، فكانت معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) حجر الزاوية في ضبط التسلح العالمي، لكن مع مرور العقود، بدا واضحاً أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لا يتعامل مع هذا السلاح الفتاك بمنطق قانوني أو أخلاقي موحد، بل بمنطق المصالح، التحالفات، والخطاب السياسي الانتقائي.
رغم أن الهند فجّرت أول قنبلة نووية في عام 1974م فيما عُرف باختبار “بوذا المبتسم”، في تحدٍّ مباشر لمعاهدة حظر الانتشار التي لم توقّع عليها أصلاً، فإن رد الفعل الدولي لم يتجاوز حدود الإدانات الرمزية. وبحلول الألفية الجديدة، تحوّلت الهند من دولة نووية “مارقة” بنظر الغرب إلى حليف استراتيجي موثوق، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووي المدني مع الولايات المتحدة عام 2008م، هذا الاتفاق منح الهند شرعية شبه رسمية للوصول إلى تكنولوجيا نووية دولية، دون أن تلتزم بتخفيض ترسانتها النووية أو الانضمام لـNPT.
في حين كان جاء التبرير الغربي: الهند “أكبر ديمقراطية في تلك المنطقة”، وتلعب دوراً مهماً في موازنة نفوذ الصين. وهكذا، غُلّبت الجغرافيا السياسية على القانون الدولي.
باكستان من جهتها، دخلت النادي النووي من باب الردع المضاد بعد التجارب النووية الهندية. لكنها لم تصل إلى هذه القدرة عبر سباق علمي داخلي وحسب، بل عبر اختراق استخباراتي وعلمي نفّذه العالم الباكستاني عبدالقدير خان، الذي حصل على تصميمات الطرد المركزي من أوروبا، وأنشأ شبكة تهريب نووية خدمت لاحقاً إيران وليبيا وكوريا الشمالية.
فيما كان الرد الغربي عبارة عن عقوبات مؤقتة أعقبت التجربة النووية عام 1998م، سرعان ما رُفعت بعد أن أصبحت باكستان شريكاً ضرورياً في “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، ومع أن واشنطن والغرب يشككون في قدرة الدولة الباكستانية على تأمين ترسانتها النووية وسط تنامي “التطرف الداخلي” على حد تعبيرهم، اختاروا التغاضي الحذر بدل المواجهة، خشية تفجير توازن الردع مع الهند أو زعزعة استقرار جنوب آسيا.
أما إيران، فكانت مثالاً عن النفاق الغربي بأوضح صوره، على عكس الهند وباكستان، إيران وقّعت على معاهدة حظر الانتشار النووي، وخضعت لعقود من التفتيش المكثّف من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم يصرّح مسؤولوها مرة عن قرار إيراني ببناء سلاح نووي. ومع ذلك، فإن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، فرض على إيران أحد أقسى أنظمة العقوبات في التاريخ الحديث، مدّعياً أن برنامجها السلمي ليس سوى غطاء لطموحات عسكرية.
الاتفاق النووي الإيراني عام 2015م، كان فرصة لنزع فتيل الأزمة، لكنه انهار عملياً بعد انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب منه عام 2018م، في خطوة نالت مباركة إسرائيلية وعارضها الحلفاء الأوروبيون. لم تُجدِ التقارير الإيجابية من الوكالة الدولية نفعاً، ولا الانفتاح الجزئي الذي أبدته طهران مرات عديدة، وذلك، لأن إيران عدو استراتيجي لحلفاء واشنطن في المنطقة، خاصة كيان الاحتلال، ولذلك فامتلاكها أي قدرة نووية مرفوض تماماً.
إن هذا التعامل المزدوج يعيد صياغة مفهوم “الشرعية النووية” من أداة لضبط انتشار السلاح إلى أداة للهيمنة، فحين يُسمح لدولة كالهند بتطوير سلاح نووي وتُكافأ بالتكنولوجيا، ويُتسامح مع باكستان رغم سجلها في الانتشار، بينما تُخنق إيران اقتصادياً وسياسياً قبل حتى أن تُنتج قنبلة واحدة، لا يمكن الحديث عن نظام عالمي عادل، بل عن منظومة هيمنة بغطاء قانوني.
في الواقع، إن الاستمرار بمثل هذه السياسات يعني أمرين: فقدان الثقة في النظام الدولي، وخاصة في معاهدة NPT، التي باتت تبدو كمجرد أداة للسيطرة على بعض الدول دون غيرها، وتشجيع دول أخرى على السعي لامتلاك السلاح النووي خارج الأطر الرسمية، إدراكاً منها أن الردع الحقيقي لا يأتي من التوقيع على الاتفاقيات، بل من امتلاك القنبلة نفسها.
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية في آسيا والشرق الأوسط، ومع تخبّط السياسة الخارجية الأمريكية بين التحالفات والمصالح، يبدو أن العالم يتّجه إلى مرحلة تفكّك تدريجي للمنظومة النووية التقليدية، فكلما شعرت دولة أن الاتفاقيات لا تحميها، وأن الغرب يستخدم القانون كعصا انتقائية، كلما زادت فرص أن ترى في السلاح النووي الضمانة الوحيدة لوجودها.
في هذا السياق، لا يمكن قراءة البرنامج النووي الإيراني، ولا حتى الطموحات التركية أو السعودية المحتملة، خارج هذا الإطار، فحين يصبح النووي مسموحاً لدول معينة رغم خروقاتها، ومحرّماً على أخرى رغم التزامها، فإن قاعدة اللعبة تصبح “من يملك النفوذ، يملك النووي”.
*صحفية لبنانية
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
أين تقف باكستان من العدوان على إيران وما هي خياراتها المستقبلية؟
في خضم واحدة من أخطر جولات التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، تتسارع المتغيرات الإقليمية في مشهد يعيد رسم خريطة التحالفات والاصطفافات في الشرق الأوسط، وتجد باكستان نفسها في موقع بالغ الحساسية، لا يسمح بالحياد الصامت ولا بالانحياز المكشوف، وأمام خيارات صعبة تحكمها اصطفافات وتحالفات دولية ضاغطة، مع خطر اتساع رقعة التوترات الإقليمية وتعدد ساحات المواجهة، فهي ليست مجرد دولة مجاورة لإيران، بل قوة نووية في جنوب آسيا، ذات موقع جيوسياسي استثنائي، وتاريخ معقّد من التوازنات بين الشرق والغرب، والخليج وطهران، وواشنطن وبكين، وسط شبكة من التوازنات الطائفية، والمصالح الخليجية، والضغوط الغربية، وكل تحرك أو صمت منها في هذا التوقيت، قد يُقرأ باعتباره تموضعا جديدا في لحظة إقليمية محتدمة.
ومع تزايد احتمالات الانزلاق إلى صراع أوسع، كيف لباكستان أن تُوازن بين التضامن مع إيران، وتحاشي غضب الحلفاء الخليجيين والغربيين، وضمان أمنها الحدودي مع خصمها التقليدي الهند؟
هذا المقال يحاول أن يقرأ موقع باكستان من المواجهة الإيرانية- الإسرائيلية، من خلال خلفية علاقاتها بطهران، ومحددات موقفها الحالي، والسيناريوهات المحتملة لدورها إذا ما تجددت المواجهة العسكرية بين الطرفين في المستقبل، خصوصا بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية على خط الصراع بشكل مباشر من خلال ضربها المفاعلات النووية الإيرانية.
خلفية العلاقات الإيرانية- الباكستانية
رغم الاختلافات المذهبية والجغرافية، حافظت العلاقات الإيرانية الباكستانية على مستوى من التواصل والتنسيق منذ تأسيس باكستان عام 1947، خصوصا في فترات التهديدات الإقليمية المشتركة، وكانت إيران أول دولة تعترف رسميا بباكستان المستقلة، وبقيت لعقود حليفا إقليميا لها في وجه التحديات الشيوعية والهندية، وتعمقت العلاقة خلال فترة حكم الشاه محمد رضا بلهوي، حيث جمع البلدين تحالف مع الغرب، خاصة في إطار منظمة "السنتو" المدعومة من الولايات المتحدة، إذ دعمت إيران باكستان في حروبها مع الهند بالسلاح وقطع الغيار وقدّمت الإسناد الدبلوماسي والإعلامي تحت عنوان "الأخوة الإسلامية"، قبل أن تقطع الثورة الإسلامية في إيران 1979 هذا المسار، وتدشن فصلا جديدا من العلاقة الفاترة أو المتوترة.
التحديات، أبقت الدولتان على ما يمكن تسميته بـ"خط ساخن ضروري" من التنسيق، خصوصا في الملفات الأمنية، مثل تأمين الحدود المشتركة في إقليم بلوشستان، الذي يُعد من أكثر المناطق هشاشة في العلاقة، إذ تتهم كل من طهران وإسلام آباد الأخرى بدعم جماعات متمردة تنشط على طرفي الحدود
انحازت باكستان ضمنيا للعراق خلال الحرب الإيرانية- العراقية (1980-1988)، بسبب تغير النظام السياسي في إيران إلى نظام ثوري معادٍ للولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج، واعتماده مبدأ تصدير الثورة وإثارة الحساسية المذهبية، فضلا عن مراعاة مصالح ملايين العمال الباكستانيين الذين كانوا يعملون في كل من العراق وباقي دول الخليج حينها، ما سبّب فتورا سياسيا مع طهران انعكس في تقارب إيران مع الهند وقلة حماسها في دعم باكستان في قضية كشمير، قبل أن تعود العلاقات إلى مسار أكثر مرونة في التسعينيات، خاصة مع التعاون في الملف الأفغاني، وإن بقيت محفوفة بالشكوك بسبب دعم باكستان لحركة طالبان، في مقابل دعم إيران لتحالف الشمال.
ورغم التحديات، أبقت الدولتان على ما يمكن تسميته بـ"خط ساخن ضروري" من التنسيق، خصوصا في الملفات الأمنية، مثل تأمين الحدود المشتركة في إقليم بلوشستان، الذي يُعد من أكثر المناطق هشاشة في العلاقة، إذ تتهم كل من طهران وإسلام آباد الأخرى بدعم جماعات متمردة تنشط على طرفي الحدود، وتستغل البيئة القبلية والمذهبية المعقّدة للمنطقة، إضافة للتواصل بما يتعلق بالملف الأفغاني، وبعض التبادلات التجارية المحدودة، والتي بلغ حجمها عام 2021 أقل من 400 مليون دولار، بسبب العقوبات الغربية.
الموقف الباكستاني من التصعيد
مع بدء الهجمات الإسرائيلية في 13 حزيران/ يونيو الجاري على إيران، كانت باكستان واحدة من أوائل الدول التي عبّرت عن رفضها العلني لهذا التصعيد، وإن جاء موقفها ضمن توازن دقيق بين التضامن المبدئي مع إيران، وتجنّب الانحياز العلني الذي قد يُفهم كاصطفاف ضمن محور معادٍ للغرب أو للخليج.
ففي مكالمة هاتفية مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، عبّر رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف عن "تضامن كامل" مع الشعب الإيراني، وأدان ما وصفه بـ"العدوان الإسرائيلي غير المبرر"، مؤكّدا أن باكستان "تقف إلى جانب إيران في مواجهة هذا التصعيد الذي يهدد استقرار المنطقة".
هذا الموقف انعكس أيضا في بيان رسمي للخارجية الباكستانية التي أدانت "الاستفزازات الخطيرة"، ووصفت التصعيد بأنه "انتهاك لسيادة الدول ومصدر تهديد للسلام الإقليمي والعالمي"، دون أن تُسمّي إسرائيل صراحة، في صيغة تعكس الحذر الدبلوماسي المعتاد لدى إسلام آباد.
غير أن الموقف الأبرز صدر عن وزير الدفاع خواجة محمد آصف، الذي صرّح في بداية الأزمة بأن باكستان "لن تتخلى عن إيران وستدعمها بكل ما أوتيت من قوة"، إلا أن هذه التصريحات أثارت جدلا واسعا ودفعته لاحقا لتوضيح أن "إيران لم تطلب دعما عسكريا من باكستان، ولا توجد نية حالية لأي تدخل مباشر"، وهو ما فُسِّر كمحاولة لاحتواء التصعيد الإعلامي وتخفيف حدة الرسالة لدى الأطراف الدولية.
وفي تغريدة لافتة على منصة "إكس"، وجّه آصف انتقادات حادة لإسرائيل، واصفا إياها بـ"الدولة النووية غير الموقعة على معاهدة حظر الانتشار"، مشيرا إلى أن "الغرب يغض الطرف عن سلوك إسرائيل العدواني، ويواصل دعمه لها، في وقت يُحاسب فيه بقية العالم على أبسط تحركاته".
أمّا في مجلس الأمن الدولي فقد عبّرت باكستان عن دعمها الكامل لحقوق إيران في الدفاع عن نفسها استنادا إلى ميثاق الأمم المتحدة، كما أدانت الضربات الأمريكية على منشآت إيران النووية واعتبرتها خرقا لميثاق الأمم المتحدة، ودعت إلى مجلس الأمن لإدانته، وفي جلسة طارئة لمجلس الأمن بتاريخ 22-23 حزيران/ يونيو 2025، قدّمت باكستان، بالتعاون مع روسيا والصين، مشروع قرار يطالب بـوقف فوري وغير مشروط لأعمال القتال في الشرق الأوسط وتنفيذ حوار دبلوماسي لحل قضية إيران النووية.
ومع أن الخطاب الرسمي ظل في إطاره الدبلوماسي، فإن الشارع الباكستاني، خاصة في أوساط التيارات الإسلامية والشيعية، أظهر تضامنا واضحا مع إيران، ووصف الهجمات الإسرائيلية بأنها "استفزاز سافر"، و"عدوان على دولة إسلامية"، في سردية تتقاطع مع مفاهيم "العدو المشترك".
ولا يمكن تجاهل أن التعاطف الرمزي مع إيران لدى قطاعات واسعة من المجتمع الباكستاني، يُبقي الضغوط الداخلية حاضرة، حتى في حال امتنعت الحكومة عن اتخاذ مواقف حاسمة، كما أن الرأي العام الباكستاني يُظهر تعاطفا واسعا مع الموقف الإيراني، ويعتبر إسرائيل خصما مشتركا في سرديات "المقاومة الإسلامية".
رغم ذلك، فإن صانع القرار في إسلام آباد يدرك أن الانخراط العلني أو العسكري في أي محور قد يُكلّف البلاد كثيرا، فباكستان ترتبط بعلاقات استراتيجية واقتصادية عميقة مع السعودية والإمارات، وتعتمد على مساعدات دولية يمر كثير منها عبر بوابة واشنطن وصندوق النقد الدولي، وكلها أطراف تتحسّس من أي تقارب كبير مع طهران.
محددات الموقف الباكستاني
يتأثر موقف باكستان من التصعيد بين إيران وإسرائيل بعدة عوامل داخلية وخارجية، تجعل اتخاذ موقف واضح أمرا شديد الحساسية، ومخاطرة سياسية ودبلوماسية.
داخليا، تواجه باكستان أزمة اقتصادية خانقة، مع تضخم مرتفع، وتراجع احتياطي النقد الأجنبي، وزيادة الاعتماد على المساعدات الدولية، ما يجعلها في وضع لا يحتمل انخراطا في مغامرات إقليمية.
وتتعامل مع وضع اقتصادي هش إذ نما اقتصادها بنحو 2.7 في المئة خلال العام المالي المنتهي في حزيران/ يونيو 2025، دون الوصول للمعدلات المستهدفة، رغم دعم برامج صندوق النقد الدولي، وتنفيذ حزمة مساعدات قيمتها 7 مليارات دولار ضمن برنامج الصندوق في أيلول/ سبتمبر 2024، مع تطبيق شروط وصفها شريف سابقا بأنها "صارمة" من الصندوق، وذلك لاستكمال برنامج القرض الذي تبلغ مدته 37 شهرا، أضف إلى ذلك هشاشة الاستقرار السياسي، وتعدد مراكز القرار بين الحكومة المدنية والمؤسسة العسكرية، وهو ما يُضعف قدرة الدولة على الحسم في الملفات الكبرى.
أما الطائفية، فتشكّل عاملا ضاغطا لا يقل أهمية، فبينما تضم باكستان أقلية شيعية كبيرة تبلغ ما بين 10 إلى 15 في المئة من السكان وتتمتع بثقل اجتماعي وسياسي، تنتشر كذلك تيارات سلفية وديوبندية متشددة، بعضها يُبدي عداء واضحا لإيران، وهو ما يجعل أي انحياز لطهران محفوفا بتبعات داخلية شديدة الحساسية، قد تُشعل التوتر الطائفي في أكثر من إقليم.
وقد أدّت هذه التوازنات إلى تصاعد خطابات الكراهية والهجمات الطائفية ضد الشيعة في عدد من المناطق، ما جعل إيران تُعبّر مرارا عن قلقها من استهداف المكوّن الشيعي، بينما تعتبر باكستان هذه الانتقادات تدخّلا غير مقبولا في شؤونها الداخلية.
وعلى الرغم من وجود محطات إيجابية في العلاقة، فإن هذه الاختلافات المذهبية ظلت عنصرا مُستترا في التوتر السياسي، ورافعة لتحريك حساسيات داخلية في لحظات الأزمات، خاصة عندما تتقاطع مع ضغوط خارجية.
خارجيا، تعتمد باكستان بشكل كبير على التحويلات المالية من ملايين المغتربين في الخليج، فضلا عن استثمارات ودعم مالي مباشر من السعودية والإمارات، وتبدي هذه العواصم مواقف أكثر قربا -ضمنيا- من إسرائيل في الصراع، وهو ما يُفسّر حرص باكستان على عدم إغضابها أو إعطاء إشارات خاطئة عن تموضع إسلام آباد.
وبينما يُعد التعاون الأمني مع إيران ضروريا لتأمين الحدود في إقليم بلوشستان، فإن العلاقة تبقى مركّبة، ولا تخلو من الشكوك المتبادلة، لا سيما مع استمرار نشاط جماعات مسلحة تتهم كل عاصمة الأخرى بدعمها.
أما واشنطن، فتُمثل عقدة أخرى في الحسابات الباكستانية؛ إذ تخشى إسلام آباد أن يُفسّر أي تقارب مفرط مع طهران كخروج عن الخط الأحمر الأمريكي، خصوصا في ظل استمرار العقوبات الغربية على إيران، واعتماد باكستان على مؤسسات مالية دولية تخضع لتأثير أمريكي مباشر.
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل دور المؤسسة العسكرية، التي تُمسك بمفاصل القرار الاستراتيجي، وهي تميل تقليديا إلى الحذر والحياد البراغماتي، وتُفضّل تجنّب أي اصطفاف قد يُضعف موقع باكستان في توازنات القوى، سواء مع إيران أو مع الهند، أو في ملفات أمنية حساسة مثل أفغانستان. هكذا، يتشكل الموقف الباكستاني ليس فقط بناء على منطق السياسة الخارجية، بل انطلاقا من شبكة مصالح داخلية وموازنات إقليمية معقّدة، تحكمها حسابات دقيقة، لا تتحمل المغامرة.
سيناريوهات تصاعد الصراع
في ظل المعادلات الدقيقة التي تحكم موقف باكستان من التصعيد، يضع أي انزلاق للأزمة نحو مواجهة إقليمية مفتوحة إسلام آباد أمام خيارات شائكة تتجاوز الشعارات السياسية إلى حسابات البقاء الاستراتيجي، فالدولة التي تحاول تثبيت الحياد، قد لا تتمكن من مواصلة هذا التوازن إذا تطوّر الصراع إلى مرحلة شاملة، إذ قد تجد باكستان نفسها مضطرة إلى التدخل بشكل أكثر فاعلية، في حال برز تهديد جدي بانهيار شامل للدولة الإيرانية، وذلك في ظل إدراك مشترك لدى موسكو وأنقرة وبكين وإسلام آباد لأهمية منع انهيار إيران وتداعياته الكارثية على استقرار المنطقة، كما أن ظهور نظام موالٍ للصهيونية في طهران سيضع باكستان في موقع جيوسياسي بالغ الخطورة، فستكون عندها محاصرة بين وجود صهيوني نشط في الشرق (الهند) وآخر في الغرب (إيران).
من جهة أخرى وفي سيناريو أقل سوءا، إذا تصاعدت الضغوط الشعبية في الداخل أو وجدت باكستان نفسها في ظرف أمني جديد، مثل تصعيد حدودي مع الهند مدعوما بشكل واضح من قبل إسرائيل، أو نشاط إسرائيلي مفاجئ في بلوشستان فقد تميل إلى التماهي المحدود مع إيران، من خلال تبنّي خطاب أكثر حدة تجاه إسرائيل، أو تقديم دعم رمزي، خاصة مع المشاركة والدعم الإسرائيلي الواضح والكبير للهند خلال المواجهة العسكرية الأخيرة في نيسان/ أبريل 2025.
بينما تبقى الهند خصما استراتيجيا لباكستان، فإن مزيدا من التقارب الهندي الإسرائيلي في الإقليم قد يدفع باكستان إلى إعادة تقييم علاقتها مع إيران من زاوية وظيفية، باعتبارها ورقة ضغط موازية في مواجهة المحور الهندي الإسرائيلي
ورغم أن هذا السيناريو قد يُرضي الداخل، إلا أنه يحمل في طياته مخاطر اضطراب العلاقات مع الخليج وأمريكا، بل وحتى تأجيج الصراعات الطائفية داخليا، ودفعها نحو مزيد من التدهور من خلال تنشيط جماعات مسلحة على حدودها الغربية والشرقية، أو استهداف مشاريعها الحيوية من أطراف ترى في موقفها تخاذلا أو انحيازا، في هذه الحالة، ستُضطر إسلام آباد إلى الانخراط في عمليات أمنية مكثفة، وربما التعاون مع أطراف دولية لضبط المشهد، مما يُحمّلها أثمانا أمنية وسياسية باهظة.
مستقبل العلاقة الإيرانية الباكستانية
رغم أن العلاقة بين طهران وإسلام آباد لم تصل يوما إلى مستوى التحالف، فإنها لطالما قامت على مبدأ "إدارة الخلاف"، والتعاون المتقطع في ملفات أمنية وجغرافية، مثل تأمين الحدود ومراقبة الحركات المسلحة في إقليم بلوشستان، لكن التصعيد الإيراني الإسرائيلي يُعيد اختبار هذه العلاقة على أسس جديدة، وقراءتها ليس بوصفها ملفا ثنائيا منفصلا، بل كجزء من خارطة التوازنات الإقليمية المتشابكة، فبالنسبة لطهران، تمثل باكستان جارا لا يمكن الاستغناء عنه، خاصة في ظل تراجع علاقاتها مع دول الخليج، وتصاعد التوتر مع القوى الغربية، ومن جانبها، تسعى إسلام آباد إلى الحفاظ على الحد الأدنى من التنسيق مع إيران، دون الانخراط في تحالف يمكن أن يُغضب شركاءها الآخرين أو يُعرضها لعقوبات غربية.
وبينما تبقى الهند خصما استراتيجيا لباكستان، فإن مزيدا من التقارب الهندي الإسرائيلي في الإقليم قد يدفع باكستان إلى إعادة تقييم علاقتها مع إيران من زاوية وظيفية، باعتبارها ورقة ضغط موازية في مواجهة المحور الهندي الإسرائيلي، خاصة مع تزايد العداء الباكستاني لإسرائيل -كما أسلفنا- بسبب مشاركتها ودعمها للهند في المواجهة العسكرية الأخيرة، وتوريدها للتكنولوجيا العسكرية لعدوها اللدود، والتعاون بدءا من الأمن والدفاع وصولا إلى السياحة والدبلوماسية، مع تبادل الزيارات على أعلى المستويات.
في النهاية، لا شك أن وقف إطلاق النار سيمكن باكستان من الاستمرار في تبني خطاب دبلوماسي محايد، يركز على الدعوة إلى التهدئة، ويقدّم تضامنا معنويا مع إيران دون أي التزام عملي، وهو خيار يسمح لها بالحفاظ على علاقاتها مع طهران، دون الإضرار بعلاقاتها الاستراتيجية مع الخليج أو استفزاز واشنطن، وسيمكن باكستان من التعامل مع هذا التصعيد على قاعدة دقيقة، قائمة على إظهار الدعم المعنوي لإيران دون تجاوز الخطوط الحمراء الدولية والخليجية، في سياسة تُراعي الداخل والخارج، وتحاول تجنب إشعال أي جبهة إضافية في بيئة إقليمية شديدة الاشتعال. وستبقى العلاقة بين طهران وإسلام آباد في المدى المنظور محكومة بالتوترات الإقليمية، ومقيدة بسقف التعاون الأمني والبراغماتية السياسية، دون أن تتطور إلى شراكة حقيقية، ودون أن تنكسر بالكامل، إلا إذا فُرضت عليها تحولات إقليمية جذرية.