مدخل شخصي: حين يتحول النقاش إلى طقس من التحقير
لم أكتب هذا المقال ردًّا على خصومة شخصية، أو دفاعًا عن أسلوبي في الكتابة، بل لأنني أرى أن الصمت هنا يُشبه التواطؤ مع ثقافة سامة ترفض التجديد، وتختزل المعرفة في قوالب بالية.
لقد واجهتُ على منبر "سودانيز أون لاين" – الذي يُفترض أن يكون فضاءً للحوار الحر – حالةً من السجال العقيم الذي لا يهدف إلى نقاش الأفكار، بل إلى تشويه المختلف وإذلاله.


لم يكن الهجوم موجّهًا ضد الذكاء الاصطناعي كأداة، بل ضدَّ فكرة التغيير ذاتها، وضدَّ كل من يجرؤ على تجاوز الخط الأحمر الذي يرسمه حرّاس المعرفة الوهميون.

أولًا: عبادة المطبوع.. حين يصير الورق صنمًا
يقدس بعض المثقفين السودانيين الورقَ كأنه وحيٌ مُنزَل، ويعتبرون كل معرفة لم تُسكب في قوالب الكتب والمجلات الورقية مجرد "هراء رقمي". لكنَّ السؤال الجوهري:
هل كان القدماء يرفضون الكتابة بحجة أن الذاكرة الشفوية أصدق؟!
الحقيقة أن تقديس الورق ليس سوى امتداد لرُهاب التغيير. فالمعرفة ليست حبيسة الورق أو الحبر، بل هي جوهرٌ يتشكل عبر أدوات العصر.
قد يتفوق كتابٌ رقمي واحد في إتاحة المعرفة لملايين الأشخاص على ما تفعله مكتبة ورقية مقفلة.
أما زعمهم أن الجهد الجسدي (كالانتقال للمكتبات ونسخ النصوص) هو مقياس لقيمة المعرفة، فهو انتحارٌ فكري. فالعبرة ليست في "كم عانيتُ لأكتب"، بل في "ماذا أضفتُ للعالم؟".
ثانيًا: الذكاء الاصطناعي.. مرآة تكشف عُري الانتهازيين
الغريب أن هجماتهم لم تركّز على مضمون مقالي، بل على أنني استخدمت الذكاء الاصطناعي في صياغته. وكأنهم يقولون: "لا يجوز لك أن تركض بسيارة، فالجري على الأقدام أشرف!".
هنا تكمن المفارقة--
هم يرفضون الأداة لأنها تُظهر أنهم لم يعودوا وسطاءً ضروريين بين الجمهور والمعرفة. فالذكاء الاصطناعي – كأداة – يمكّن أي شخص من تنظيم أفكاره، أو مراجعة نصوصه، أو حتى اكتشاف منابع معرفية لم يكن يصل إليها بدون سنوات من البحث.
هذا يُهدد امتيازات فئة اعتادت أن تكون "الوصيّة الوحيدة" على الثقافة. لكن الخوف الحقيقي ليس من التكنولوجيا، بل من أن يُكشف أنهم لم ينتجوا – طوال سنوات – سوى خطابٍ مكرورٍ لا يلامس أسئلة العصر.
ثالثًا: منطق العاجز.. لماذا يختارون التهرب من النقاش الجاد؟
لو دققنا في تعليقاتهم، لوجدناها مليئةً بالاتهامات الفضفاضة: "كسل"، "سطحية"، "تخريب الثقافة". لكننا لا نجد أبدًا تفنيدًا منطقيًا لفكرة محددة، أو إشارةً إلى خطأ منهجي في المقال. هذا لأنهم يتبنون إستراتيجية ميكيافيلية:
تحويل النقاش من صراع الأفكار إلى معركة شخصيات، حتى يهربوا من مواجهة الحقائق:
أن بعض "القديم" لم يعد صالحًا إلا للزينة.
أن العالم يتغير، وأن من لا يملك أدوات العصر سيُترك على قارعة الطريق.
أن الإبداع الحقيقي لا ينفصل عن القدرة على توظيف التكنولوجيا.
رابعًا: معضلة المحافظين.. هل يمكن أن نعيش في ماضيٍ مُتخيّل؟
يدّعي البعض أنهم يدافعون عن "الأصالة"، لكنهم في الواقع يُعيدون إنتاج أسوأ ما في التراث: التعصب، والجمود، واحتكار الحقيقة.
لو كان أسلافنا يفكرون مثلهم، لرفضوا الكتابة بحجة أن الحكاية الشفوية أعمق، ولعتبروا الطباعة بدعة غربية، ولحارَبوا الراديو لأنه يقتل فن الإلقاء!
التاريخ يُثبت أن كل جيل يواجه تكنولوجيا جديدة بذات الحجج البالية-
القرن الخامس عشر: رجال الدين يحرمون المطبعة لأنها "تنشر للكفر".
القرن التاسع عشر: مثقفون عرب يهاجمون الرواية كونها "فنًا دخيلاً".
القرن الحادي والعشرين: البعض يهاجم الذكاء الاصطناعي لأنه "يقتل الإبداع".
الحقيقة أن الإبداع لا يموت، بل يتناسخ بأشكال جديدة.
خامسًا: نحو ثقافة جديدة.. هل نستطيع إعادة تعريف المثقف؟
المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي، بل في أن النظام الثقافي السوداني – مثل كثير من النظم العربية – لا يزال يعيش في عصر ما قبل الحداثة الرقمية. المثقف الحقيقي اليوم ليس من يكتب مقالًا طويلًا بلغةٍ معقّدة، بل من يستطيع-
تحويل الأفكار المعقدة إلى محتوى مرئي أو سمعي يصل لشرائح أوسع.
توظيف البيانات الضخمة لفهم تحولات المجتمع.
استخدام المنصات الرقمية لبناء حوارات عابرة للحدود.
الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن العقل البشري، بل هو "مِظلة" تزيد من قدرته على التحليق.
رسالتي إلى حراس المقابر الفكرية-
لن أقول لكم "تعلّموا البرمجة"، فهذا فوق طاقتكم. لكني أطالبكم بـ- الكف عن اختزال الثقافة في شكل واحد- المعرفة ليست حكرًا على الورق، ولا على لغةٍ أكاديمية جافّة.
التوقف عن لعبة الاتهامات الرخيصة- اختلفوا معنا بأفكاركم، لا بشتائمكم.
اعترفوا بأنكم جزء من المشكلة: تخلفنا الثقافي ليس بسبب التكنولوجيا، بل بسبب أولئك الذين يريدون أن يحبسوا العقل في زمنٍ انقضى.
وأخيرًا، تذكروا- الحضارات لا تبنيها عبادة الأطلال، بل الجرأة على تشييد قصور جديدة بفكر عميق يلامس احتياجات الحياة المعاصرة فوق أنقاض القديم.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

هاملت بالعربي يفتتح عروض المسرح الإقليمي بالإسماعيلية

افتتح فرع ثقافة الإسماعيلية، الأحد، أولى عروضه المسرحية بعنوان "هاملت بالعربي"، ضمن فعاليات المسرح بإقليم القناة وسيناء الثقافي، الذي تنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان، في إطار برنامج وزارة الثقافة لدعم الإبداع المسرحي في المحافظات.

أفيم العرض بإشراف الكاتب محمد ناصف نائب رئيس الهيئة، واستضافه قصر ثقافة الإسماعيلية، بحضور شيرين عبد الرحمن مدير عام ثقافة الإسماعيلية، ولجنة التحكيم التي ضمت المخرج جلال عثمان، والناقد محمد علام، ومهندس الديكور محمود جمال، ومقرر اللجنة ضياء السيد.

العرض مأخوذ عن رائعة شكسبير "هاملت"، برؤية عربية للكاتب السوري ممدوح عدوان، وإخراج أحمد طه، في معالجة درامية تعكس تساؤلات الإنسان العربي المعاصر وهمومه وصراعاته مع واقع مأزوم سريع التغير، في بحثه عن هوية واضحة في عالم مضطرب.

تصميم الديكور د. عمرو الأشرف، والملابس والإكسسوارات رامي شهاب، الموسيقى والألحان رفيق يوسف، التعبير الحركي مناضل عنتر، مختارات شعرية من أعمال أمل دنقل. تصميم الدعاية والبوستر محمد عطا، والإضاءة شادي عزت، مخرج منفذ محمد حامد، ومساعدو الإخراج حازم الحجازي، صافي جمال، أحمد هنيدي، صامويل أثناسيوس، وعلي جمعة.

شارك في بطولة العرض نخبة من فناني الإسماعيلية، منهم: عماد غراب، محمود مدحت، آية أبو ضيف، محمد صلاح، محمد الشبراوي، محمود نوح، كريم طارق، دانيال مجدي، بسمة حسين، عبد الرحمن عيسى، محمد حسام، ومحمد صديق.

تقدم العروض من خلال الإدارة المركزية للشئون الفنية برئاسة الفنان أحمد الشافعي، وإنتاج الإدارة العامة للمسرح برئاسة سمر الوزير، وتعرض بالتعاون مع إقليم القناة وسيناء الثقافي، بإدارة د. شعيب خلف، وفرع ثقافة الإسماعيلية.

وتتواصل العروض اليوم الاثنين بمسرحية "العائلة الحزينة"، تأليف طارق عمار، وإخراج أحمد كمال، والتي تناقش أزمات العلاقات الأسرية وتأثيرها النفسي والاجتماعي.

ويعرض غدا الثلاثاء 13 مايو العرض المسرحي "طرطوف"، وهو نص كلاسيكي للكاتب الفرنسي موليير، ويقدم برؤية إخراجية لمحمد عبد الخالق.

وتختتم العروض يوم الأربعاء 14 مايو بالعرض المسرحي "مسقط عرضي"، تأليف محمد هلال، وإخراج محمد سالم، والذي يناقش قضايا الهوية والانتماء بأسلوب تجريبي مبتكر.

طباعة شارك فرع ثقافة الإسماعيلية هاملت بالعربي سيناء الثقافي الهيئة العامة لقصور الثقافة اللواء خالد اللبان برنامج وزارة الثقافة

مقالات مشابهة

  • ثقافة القليوبية تنظم احتفالية تكريم الفنان الراحل محمد رخا ببيت سنديون
  • Fitbit تطلق 3 أدوات تجريبية جديدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتعزيز المتابعة الصحية
  • خطة النواب توصي بإدراج قصر ثقافة بلقاس ضمن احتياجات وزارة الثقافة بالموازنة الجديدة
  • إطلاق الدورة الخامسة لمسابقات الأسبوع العربي للبرمجة بعنوان “الذكاء الاصطناعي والبرمجة في خدمة الثقافة العربية”
  • مهرجان القاهرة للسينما الفرنكوفونية يطلق مسابقة جديدة لأفلام الذكاء الاصطناعي
  • طلب إحاطة بالبرلمان: مطالب بوقف إغلاق قصور الثقافة وإنقاذ الهوية المصرية من الانهيار
  • إضافة خاصية جديدة إلى تطبيق جيمني لتقليل تكلفة استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي
  • بواسطة الذكاء الاصطناعي.. «هونر» تطلق تقنية جديدة تحول الصور إلى فيديو
  • الثقافة الاستهلاكية بين الوعي المجتمعي والنمط السلوكي
  • هاملت بالعربي يفتتح عروض المسرح الإقليمي بالإسماعيلية