بقلم : د. مظهر محمد صالح ..

واصل دونالد ترامب سيرهُ على الرصيف المؤدي الى شارع المال في مدينة نيويورك ليتوقف فجأة أمام شحاذ افترش الارض وهو يقلب الكثير من اللاشيء سوّى بضعة سنتات ودولارين غطتا تلك القطع النقدية المعدنية في كاس كوكا كولا فارغ . نظر ترامب الى ذلك الفقير بعين من الأسى محدثاً إياه: إنك أيها الرجل تمتلك صفر من الثروة وانا مدين بمبلغ 900 مليون دولار بعد ان فقدتُ ثروتي كلها فإنك بالمحصلة اغنى مني! اجابه الشحاذ مبتسماً انا حقاَ اغنى منك.

ولكن ماذا ان حصلت على المال ثم خسرته، حينها سأكون من الفاشلين، وربما قد اخسر صحتي وانا احاول ان اجمع الثروة، وقد لا اعرف إن كان الناس سيحبونني لشخصي ام من اجل اموالي؟ واخيراً، يمكن ان اتعرض الى السرقة وعندها سأخسر الثروة فضلاً عن خسارة مكاني الذي اشحذ فيه على رصيف شارع وول ستريت في مركز نيويورك مدينة الثروة والمضاربات المالية.
غادر ترامب ذلك الشحاذ وهو يسبق الخطى للالتقاء بصديق سيساعده على استعادة ثروته مجدداً ولكنه ظل يردد في سره بان التيارات الرئيسة السائدة في علم الاقتصاد مازالت تستخدم نماذج المنفعة المتوقعة ودور العوامل العقلانية عند استخدامها في التحليل الاقتصادي واختبار نماذج التحليل. هنا توقف ترامب وهو يُحدّث نفسه كرة اخرى قائلاً: ان العديد من تلك التحليلات لم تستطع ان تفسر كيف يمكن الحصول على الثروات التي تحققها الطفرات الاقتصادية وكيف تُشكل تلك الثروات مجدداً! مع ذلك، احتفظ بصورة “رجل الأعمال الناجح”، وهو ما يعكس مهارة في إدارة السمعة رغم الضغوط التي لاحقتني .
ففي عالمٍ يتسارع فيه الاقتصاد وتتصاعد فيه الفروقات الطبقية ، لا تُقاس قرارات البشر فقط بالأرقام أو بالمكاسب والخسائر، بل أيضًا بما يجري داخل أدمغتهم ،فكيف يؤثر المال أو غيابه على طريقة تفكيرنا؟
و هل يفكر الأغنياء بطريقة مختلفة عن الفقراء، أم أن البيئة والضغوط تغير من آلية عمل عقولنا ذاتها؟
انه علم الاقتصاد العصبي، الذي بات يجمع بين الاقتصاد، وعلم النفس، وعلوم الدماغ، اذ يقدّم اليوم أدوات جديدة لفهم دهاليز التفكير الطبقي، حيث لا تكون القرارات مجرد اختيارات عقلانية، بل نتاجًا لتفاعلات عصبية معقدة، محفوفة بالخوف، والأمل، والإجهاد، والحرمان أحيانًا.
ففي هذه الرحلة، نغوص معًا في أعماق الدماغ، لنفهم كيف يتخذ الفقير قرارًا ماليًا تحت ضغط الاحتياج، ولماذا يميل الغني للمخاطرة أحيانًا دون قلق. لنكتشف كيف يغيّر المال الطريقة التي نرى بها العالم، وكيف يعيد الفقر برمجة العقل على البقاء بدلًا من النمو.
ربما لم يدرك دونالد ترامب ظهور ما يسمى بعلم الاقتصاد العصبي Neuroeconomics
وهو من العلوم السلوكية التي تشكلت من خليط علوم الاعصاب وعلوم الاقتصاد كما نوهنا ، اذ حاول هذا العلم ايجاد مشتركات في التصرف ازاء تعظيم المنفعة ومقاييس الاستجابة العصبية والتي تركز جميعها على دور الدماغ في تدفق الدم ،فالدماغ يتكون حقاً من مقاطع وانظمة عديدة تتعامل جميعها في توجيه صنع القرار.
، فالعديد من القرارات تُتخذ في إطار ظروف محفوفة بالمخاطر، لذلك تتجه النزعة الانسانية إما صوب تحمل المخاطر بغية تعظيم المنفعة، او نحو تجنب المخاطر والتضحية بجانب من المنافع. فقد كشفت البحوث والدراسات في الولايات المتحدة الامريكية ان هنالك الكثير من الامور الاستثنائية والشاذة والانماط الشائعة من التصرفات التي غدت جميعها لا تتلائم ومبدأ تعظيم المنفعة والتي منها تلك النزعة المتجنبة للمخاطر risk aversion التي كان يمارسها شحاذ وول ستريت وهو يفترش الرصيف حين واجهه دونالد ترامب المجازف الذي بات مفلساً.
مر ترامب بتجارب خسارة مالية وتجارية كبيرة قبل أن يصبح رئيسًا للولايات المتحدة، وهي تجارب كثيرًا ما تُستخدم كمثال على التقلبات في عالم المال والقرارات عالية المخاطر، وحتى في بعض الأحيان كمادة لدراسة السلوك الاقتصادي من منظور علم الاقتصاد العصبي وان تلك الإفلاسات كانت نتيجة قرارات استثمارية محفوفة بالمخاطر في قطاع الكازينوهات والعقارات. كما عد ترامب انموذجًا لما يسمى بـ “القرارات عالية المخاطرة عالية العائد High-risk, high-reward”.
فمن المحتمل أن يكون لديه ميل عصبي للمخاطرة، وقدرة على تجاهل الخوف من الفشل، وهو ما يترافق مع نشاط منخفض نسبيًا في مناطق الدماغ المرتبطة بالخوف أو الحذر، مثل اللوزة الدماغية (amygdala).
وهكذا يوضح لنا علم الاقتصاد العصبي بان ثمة مناطق متعددة في الدماغ تختلف في درجة تحسسها إزاء موضوع تحديد المخاطر او حالة اللايقين ازاء التصرفات الانسانية المتعلقة باتخاذ القرار الاقتصادي، والتي تتوقف على شكل وتركيب وطبيعة القشرة الخارجية لمقدمة العقل البشري. فبالوقت الذي يركز فيه الفقراء على احتمالات الخسارة مهما كانت ضئيلة يركز الاغنياء على احتمالات الربح مهما كانت ضئيلة ايضاً. فكل فريق ينظر الى القدح المملوء نصفه بالماء. فالفقراء يعتقدون ان عليهم معرفة كل شيء مقدماً وضرورة الحصول على المعلومة عند كل ردة فعل وهو امر لا يتيسر حصوله لارتفاع تكاليفه ، في حين يبقى الاغنياء وحدهم من يمتلك المحفظة المعلوماتية لاتخاذ قراراتهم المعظِمة لمنافعهم utility maximisation وهي حكراً في متناول ايديهم وشبكة اعصابهم في تعظيم ثروتهم مهما كان تركيب قشرة ادمغتهم التي وعدنا بها علم الاقتصاد العصبي!.
فاذا كان الاقتصاد التقليدي يفترض أن الأفراد عقلانيون ويعملون دائمًا على تعظيم منفعتهم ، فان الاقتصاد العصبي يُظهر أن اتخاذ القرار ليس دائمًا عقلانياً، بل يتأثر بالعواطف، والحدس، والتحيزات، والنشاط العصبي.
ختاما، يبقى علم الاقتصاد العصبي (Neuroeconomics) كما ذكرنا هو حقل متعدد التخصصات يدمج بين علم الاقتصاد، وعلم الأعصاب، وعلم النفس المعرفي، بهدف فهم كيفية اتخاذ الأفراد للقرارات الاقتصادية.
اذ يهتم هذا العلم بدراسة العمليات العصبية والذهنية التي تقف وراء السلوك الاقتصادي، مثل اتخاذ القرار، والمخاطرة، والمكافأة، والتفضيلات الشخصية ،ما يقتضي من صناع القرار في عالم الاسواق الحرة تصميم حملاتهم التسويقية الفعالة بناءً على فهم كيف سيستجيب الدماغ للإعلانات والدعاية ،كذلك تطوير سياساتهم لتأخذ في الاعتبار التحيزات المعرفية لدى الناس.فضلاً عن تحسين استراتيجيات التفاوض أو الاستثمار بناءً على فهم أعمق لآليات اتخاذ القرار. انه عالم اقتصادي شديد التعقيد والصراع والتفكير والتفاوت في بناء الثروات او نهبها …!!!

د.مظهر محمد صالح

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات اتخاذ القرار

إقرأ أيضاً:

قاضية توقف قرار إدارة ترامب منع هارفارد من قبول الطلاب الأجانب

أوقفت قاضية أميركية اليوم الجمعة قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب منع جامعة هارفارد من قبول الطلاب الأجانب.

وكانت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم أصدرت أمس الخميس قرارا بإنهاء اعتماد برنامج هارفارد للطلاب وتبادل الزوار اعتبارا من العام الدراسي 2025-2026.

واتهمت نويم هارفارد "بالتحريض على العنف ومعاداة السامية والتنسيق مع الحزب الشيوعي الصيني".

لكن قاضية المحكمة الجزئية في بوسطن أليسون بوروز أصدرت اليوم أمرا مؤقتا بتجميد القرار، استجابة لشكوى قدمتها الجامعة.

وجاء في قرار القاضية أليسون باروز أن "القرار التالي يمنع إدارة ترامب من تنفيذ إبطال التصريح الممنوح للجهة المدعية بموجب برنامج الطلاب وتبادل الزوار الأجانب".

انتهاك صارخ للدستور

وفي الشكوى التي قدمتها للمحكمة، وصفت هارفارد هذا الإجراء بأنه "انتهاك صارخ" للدستور الأميركي والقوانين الاتحادية الأخرى.

وأضافت أن القرار له "تأثير فوري ووخيم" على الجامعة وعلى أكثر من 7 آلاف من حاملي التأشيرات.

وقالت هارفارد "بجرة قلم، سعت الحكومة إلى طرد ربع طلاب الجامعة، وهم طلاب أجانب لهم إسهامات كبيرة في الجامعة ورسالتها".

ووضحت أن الجامعة التي أُنشئت قبل 389 عاما "هارفارد لن تكون هارفارد بدون طلابها الأجانب".

إعلان

وسجلت هارفارد ما يقارب من 6800 طالب أجنبي في عامها الدراسي الحالي، أي ما يعادل 27% من إجمالي الطلاب المسجلين.

وأشارت إلى أن القرار سيجبرها على العدول عن قبول آلاف الطلاب، وسيؤدي إلى إرباك عدد لا يُحصى من البرامج الأكاديمية والعيادات والدورات ومختبرات الأبحاث قبل أيام قليلة من التخرج.

انتقادات خارجية

ويشكل الطلاب الصينيون أكثر من خمس إجمالي عدد الطلاب الدوليين المسجلين في هارفارد، وفقا لأرقام الجامعة.

وقالت بكين في وقت سابق إن قرار الإدارة الأميركية "لن يؤدي إلا إلى الإضرار بصورة الولايات المتحدة ومكانتها الدولية".

وأضافت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماو نينغ "لطالما عارض الجانب الصيني تسييس التعاون التعليمي".

وانتقدت وزيرة البحث العلمي الألمانية دوروثي بير -الجمعة- قرار الحكومة الأميركية.

وقالت خلال اجتماع مع نظرائها الأوروبيين في بروكسل "إنه قرار سيئ للغاية. آمل أن يتم إلغاؤه".

ومن شأن قرار القاضية أن يثير ارتياحا في أوساط الطلبة الدوليين الذين عبر كثير منهم عن صدمته في الساعات الماضية من سعي إدارة ترامب لمنعهم من الالتحاق بهارفارد.

يذكر أن الإدارة الأميركية تهدف لمواءمة الممارسات الأكاديمية مع سياسات الرئيس.

معقل الماركسية ومعادة السامية

لا يخفي ترامب غضبه إزاء جامعة هارفارد التي تخرج منها 162 من حائزي جائزة نوبل، وذلك لرفضها طلبه الخضوع للرقابة على القبول والتوظيف بعدما اتهمها بأنها معقل لمعاداة السامية و"أيديولوجيا اليقظة".

ويتهم ترامب ما يسمى "جامعات رابطة اللبلاب" بتعزيز الأيديولوجيات المعادية للسامية للولايات المتحدة، ويصفها بأنها معاقل للماركسية "واليسار الراديكالي".

واليوم الجمعة، قال ترامب إن جامعة هارفارد وغيرها من الجامعات تغيير أسلوبها.

وأضاف "ننظر في أمور متعلقة بالجامعات وهارفارد تلقت مليارات الدولارات من الأموال الحكومية".

إعلان

مقالات مشابهة

  • ترامب يسحب ترخيص هارفارد لاستقبال الطلاب الأجانب وسط نزاع قضائي
  • البنك المركزي المصري يخفض الفائدة.. خطوة لإنعاش الاقتصاد وكسب ثقة المستثمرين
  • قاضية توقف قرار إدارة ترامب منع هارفارد من قبول الطلاب الأجانب
  • اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
  • ???? الصورة التي قال ترامب إنها “لمزارعين بيض قتلوا في جنوب إفريقيا”.. هي في الحقيقة لحادثة في الكونغو!
  • البنك المركزي يخفض الفائدة 1%.. خبير: يستهدف تعزيز الاستثمار واستقرار الاقتصاد
  • برلمانية: خفض الفائدة مؤشر لتعافي الاقتصاد ورسالة طمأنة للمستثمرين
  • برلماني عن قرار خفض الفائدة: يعكس تحسن الاقتصاد المصري
  • المخلافي يوبخ المجلس الانتقالي وينتقد إنقلابه على القانون ويصف تصرفاته حول إجازة عيد الوحدة بالمهزلة التي تعكس عقليات تفتقد العقل واحترام المسؤولية