الهوية الضائعة في عالم التكنولوجيا
تاريخ النشر: 27th, May 2025 GMT
يظل سؤال الهوية سؤالًا مفتوحًا في عالمنا الراهن؛ لأنه عالم تطرأ عليه بشكل متسارع متغيرات جديدة لم تكن في الحسبان. سؤال الهوية أصبح مطروحًا بقوة منذ طغيان عصر العولمة التي بحكم طبيعتها تسعى إلى تجاوز الهويات من الناحية الثقافية، بل تجاوز الجنسيات والأعراق ذاتها من خلال مؤسسات وشركات ليست متعددة الجنسيات multi-national كما يُقال، وإنما متعدية للجنسيات trans-national في حقيقتها.
ولكن الإنسان منذ عقود قليلة أصبح مهددًا بضياع الهوية أو فقدانها في عالم جديد تهيمن عليه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي: إذ أصبحت الآلة قادرة على القيام بالكثير من العمليات الذهنية واتخاذ القرارات بالنيابة عن الإنسان؛ وبذلك أصبحت تمتلك وعيًا ما يقوم بإزاحة الوعي الإنساني أو الذات الحقيقية؛ حتى إن كان وعي الآلة يفتقر إلى الوعي الذاتي، أعني يفتقر إلى وعي الذات بنفسها؛ ومن ثم يفتقر إلى التأمل الانعكاسي reflection (وتلك مسألة فلسفية دقيقة لا أريد إرباك القارئ بالخوض فيها في هذه العجالة).
ولا شك في أن هذا يمثل شكلًا من أشكال فقدان الإنسان بما هو إنسان لشيء مما يشكل نظرته التقليدية إلى نفسه باعتباره مركز الكون وسيد العالم؛ إذ أصبح عنصرًا فاعلًا في العالم داخل منظومة من العناصر الأخرى الفاعلة، ومنها الآلة، فضلًا عن عناصر البيئة الطبيعية المؤثرة في عالم الإنسان.
كما أن ضياع الهوية بفعل التكنولوجيا يتبدى على أنحاء أخرى عديدة، منها -على سبيل المثال- ما يمكن تسميته «بالهوية السائلة»، وهي حالة لا تقوم فيها الهوية على أسس ثابتة، وإنما تصبح متحولة ومتغيرة باستمرار بفعل التأثر بذلك الفيض الذي تنقله إلينا التكنولوجيا وعالم الإنترنت كل لحظة فيما يتعلق بالمعرفة والثقافة والفنون وأساليب العيش والأزياء، إلخ.
وهذا الأمر له صلة وثيقة بسمة عصرنا الذي وصفه الفيلسوف البولندي تسيجمونت باومان Zygmunt Baumann بأنه عصر اللايقين والحداثة السائلة (وإن شئنا الدقة لقلنا إن هذه السمة هي الطابع المميز لعصر «ما بعد الحداثة» الذي يتميز بحالة السيولة في كل شيء بحيث يصبح أي شيء جائزًا anything goes). وربما يبدو مفهوم «الهوية السائلة» وما يستتبعه، متوافقًا مع رؤية الفيلسوف الوجودي الشهير جان بول سارتر للهوية الإنسانية باعتبارها وجودًا متغيرًا وليست واقعة أو حقيقة مسبقة جاهزة التشكيل. ولكن هنا ينبغي الحذر من الوقوع في التباس المفاهيم: ذلك أن مفهوم «الهوية السائلة» يشير إلى الهوية المتغيرة على الدوام بفعل مؤثرات خارجية طاغية في عصرنا الراهن، وعلى رأسها التكنولوجيا.
أما الهوية التي يقصدها سارتر، فهي الهوية التي يصنعها الإنسان بفعل اختياراته الحرة في أن يكون على نحو ما يريد أن يكون: فالهوية ليست شيئًا محددًا سلفًا؛ لأن الإنسان يكون أشبه «بمشروع» أو «خطة عمل قابلة للتنفيذ»!
غير أن ضياع الهوية بفعل التكنولوجيا يمكن أن يتبدى في شكل آخر هو «الاستلاب»، وهي حالة تتبدى بوضوح على مستوى الهوية الفردية، أي هوية الشخص.
يمكننا أن نلاحظ ذلك بوجه خاص عندما يتيح لنا عالم الإنترنت بكل وسائطه تقديم ذواتنا عبر هذا العالم من خلال رسم هوية افتراضية لأنفسنا؛ وهو ما يؤدي إلى حالة ازدواجية في نظرة الذات إلى نفسها: فهناك ذات افتراضية تكمن خارج الذات الحقيقية، ولكنها تشكل جانبًا مهمًّا من عالمها، وربما جارت عليه واستلبته تمامًا (وتلك حالة متطرفة تصل إلى حد المرض النفسي، وهي حالة مخصوصة يمكن أن يبحث فيها الأطباء النفسيون).
وعلى سبيل الإيضاح نقول: إن أغلب الناس يميلون إلى رسم صورة مثالية -أو على الأقل إيجابية- عن أنفسهم، سواء من حيث آرائهم ومعتقداتهم ومعرفتهم الواسعة، أو حتى من حيث مظهرهم وهيئتهم التي يبدون عليها، وبذلك تصبح هذه الهوية المصنوعة بمثابة عالم افتراضي يستلب الذات الحقيقية ويؤدي إلى اغترابها عن الشخص. وهكذا فإن هذه الحالة تسهم في تعميق الاغتراب الإنساني الذي يتخذ مظاهر عديدة تنشأ عن أسباب مختلفة.
ولا شك في الابتعاد باستمرار عن الذات الحقيقية والاستغراق في عالم الذات الافتراضية يمكن أن يؤدي حتى إلى تغير في تقييمنا لأنفسنا ولمدى رضانا عن ذواتنا، وذلك حينما نسعى باهتمام إلى ترويج صورتنا الافتراضية بهدف اكتساب إعجاب أو مشاركة أكبر عدد ممكن من المتابعين عبر العالم الافتراضي، وهو ما سنعتبره دليلًا على جدارتنا! وتلك حالة من خداع الذات التي نستبدل فيها مقدار الجدارة الرقمية بمقدار الجدارة الحقيقية، أي أننا -بلغة فلسفة العلم- نستبدل معيارًا افتراضيًّا بمعيار الحقيقة أو الصدق.
وبوجه عام، يمكننا القول إن ظواهر ضياع الهوية الإنسانية من خلال تجاوزها أو استلابها أو اغترابها في عالم التكنولوجيا، هي ظواهر تؤدي في النهاية حالة أكثر عمومية تتعلق بوضع الوجود الإنساني في العالم، وهي الحالة التي تُسمى أحيانًا «ما بعد الإنسانية» post-humanism، ولكن نظرًا لأن كل مصطلح يبدأ بكلمة «ما بعد» هو عندي مصطلح فضفاض بطبيعته؛ فإنني أفضل وصف الحالة التي أشير إليها هنا بأنها حالة «مضادة للنزعة الإنسانية» anti-humanism. وليس المراد من وراء هذا كله هو الدعوة إلى التخلي عن التكنولوجيا التي هي أداة لا غنى عنها، وإنما الدعوة إلى التخلي عن تحولنا كذوات إنسانية إلى أداة للتكنولوجيا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی عالم
إقرأ أيضاً:
«موارد الشارقة» تناقش تطوير الذات والتميز الوظيفي
عقدت دائرة الموارد البشرية في الشارقة جلستها الحوارية «تطوير القدرات نحو النجاح في مجال العمل»، في مدينة كلباء.أقيمت الجلسة بمقر جامعة كلباء، وقدمها الدكتور سعيد حارب المنصوري، خبير موارد بشرية في القيادة العامة لشرطة الشارقة. وحضرها عدد من المديرين والمسؤولين والموظفين من كافة جهات ومؤسسات ودوائر حكومة الشارقة. تناولت الجلسة محاور حول مفهوم تطوير القدرات في بيئة العمل، وتعريف تطوير القدرات الشخصية والمهنية، وأهميتها لتحقيق النجاح.