الأمن الثقافي.. حماية أم وصاية؟
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
مع بداية الألفية الجديدة كثرت المناقشات حول تأثير العولمة والنظام العالمي الجديد على الخصوصيات الثقافية في العالم، ثم تزايدت بعد ذلك الدراسات عن مواضيع مثل الغزو الثقافي، وتأثير القوة الناعمة، وتغيير الخصوصية الثقافية، والمواطنة العالمية وغيرها، وهكذا تطور الأمر وصولا إلى الحديث حول الأمن الثقافي.
في عمان بدأت المناقشات حول الأمن الثقافي تتزايد مؤخرا، لعل آخرها كانت جلسة الطاولة المستديرة التي أقامها النادي الثقافي حول الأمن الثقافي ودوره في المحافظة على الهوية الوطنية، وقد تدافعت المناقشات بين فريقي الخبراء والمجتمع حول تعريفات الأمن الثقافي وحضوره في الثقافة العمانية، وخروجًا عن أنماط التعريفات والمحددات لأنها أمور جدلية يُمكن النقاش حولها في مظانها، وكعادة المفاهيم الاجتماعية والثقافية فلا يجمعها تعريف واحد جامع مانع لأنها متغيرة بتغير المدخلات والتغيرات، فإن سؤالا يُمكن طرحه في هذا المقام حول ما إذا كان الأمن الثقافي يشكّل حماية للهويات والمكونات الثقافية في المجتمع، أم وصاية على الإبداع والتطور؟
والإجابة على السؤال تفرض نظرة أكثر شمولية لتأثيرات العولمة والتغير العالمي في عصر مواقع التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والتغيرات التي تطرأ على الجميع، أفرادًا ومجتمعات.
إن الأمن الثقافي تكوّنه مكونات الثقافة نفسها والتي عادة تناقشها السوسيولوجيا، التي تُعنى بجوانب الحياة الإنسانية المكتسبة بالتعلم لا الوراثة، ويشترك فيها أعضاء المجتمع بعناصر الثقافة التي تخلق التعاون والتواصل فيما بينهم، ومن بينها جوانب مثل المعتقدات والآراء والقيم والأشياء والرموز والتقانة. (كما يذكر ذلك أنتوني غيدنز في كتابه «علم الاجتماع»)، ومن هنا تحضر هذه العناصر لتشكل أهم المكونات للأمن الثقافي في جميع الدول القطرية، ولعل الكثير من النقاشات تبرز حول عنصر جدلي مثل (الهوية) الذي يتعدد في مجتمع مثل المجتمع العماني، فمصاديق الهوية في عمان متعددة ومختلفة، إذ إن المجتمع العماني يمتلك هويات كثيرة صغرى، أحيانا تتداخل فيما بينها (مثل تلك المتعلقة بالمذاهب مثلا) وأحيانا تفترق (مثل تلك المتعلقة بالقبيلة مثلا)، وعلى الرغم من أن المجتمع يعيش في انسجام أنموذجي يُمكن تسليط الضوء لدراسته، إلا أنه من المهم النظر إلى هذه الهويات الصغرى وطريقة تحركها وتأثر بعضها ببعض والتغيرات التي تطرأ عليها لفهم أعمق للحالة الاجتماعية التي تعيشها هذه المجتمعات.
المؤثرات على هذه الهويات الصغرى كثيرة ومتنوعة منها الدين (أو المذهب)، واللغة واللهجة، والقبلية، والجغرافيا، والعوارض العينية مثل اللباس وغيرها، ولذا فإن بناء هوية وطنية واحدة وجامعة ينبغي أن تنطلق من كل هذه المحددات والمؤثرات لتكون هوية جامعة يشترك فيها الجميع، وغالبًا ما تكون هذه الهوية الوطنية تركز على المشتركات بين الأطياف الاجتماعية، مع عدم إهمال الاختلافات والتعددية التي تصنع الصور المختلفة المكوّنة للصورة الواحدة العامة.
في هذه الحالة، تأتي أهمية الأمن الثقافي ليس في إذابة الفوارق بين هذه الهويات الصغرى وجعلها في هوية واحدة، وإنما في الحفاظ على وجودها وطريقة تأثر بعضها ببعض، والحفاظ على المسافات الجيدة فيما بينها من خلال الحقوق والواجبات المدنية والقانونية، مما يشكّل في المحصلة استقرارًا اجتماعيًا وسياسيًا يُمكن للجميع العيش خلاله بحرية وممارسة سلوكياته الهوياتية النابعة من بيئته الاجتماعية بحرية دون أي إقصاء من طرف اجتماعي آخر.
والحديث عن «أمنٍ» ثقافي يعني أن هناك مهددات لهذه الثقافات ينبغي التعامل معها لا بصورة عشوائية أو ارتجالية، وإنما باستراتيجية مدروسة تجعل من المجتمع يحافظ على ذاته وعلى مكوناته، والمهددات غالبًا ما ترتكز على: أولا، الغزو الثقافي والتبعية، الذي يعني إمكانية استيراد ثقافات أخرى وممارستها في الداخل الاجتماعي مما يُمكن أن يضر بالمجتمع، ويخلق حالة من التبعية التلقائية حتى فيما يتعلق بالضغط الشعبي على السياسات الحكومية، ومن هنا جاءت دراسة ما يسمى «الدبلوماسية الشعبية» لمعرفة كيف تتكوّن وما الذي يؤثر عليها، والاختصار المخلّ للدبلوماسية الشعبية، أن دولة ما تصدّر ثقافاتها لدولة أخرى فيضغط شعب الدولة الثانية على حكومته لموافقة سياسات الدولة الأولى، وهنا تأتي هذه الدراسة لمعرفة كيف يُمكن تفادي مثل هذا الضغط من خلال عدم حدوث هذه التبعية أو الغزو الثقافي من الداخل. ثانيا، ضعف الإنتاج الثقافي والفكري المحلّي، وفي هذه الحالة فإن أي دولة يكون إنتاجها الثقافي والفكري ضعيفًا يضطر المجتمع فيها لاستيراد ثقافة دولة أخرى ويُمكن أن يحدث ما حدث في الحالة الأولى، إضافة لذلك فإنها تكون ضعيفة في أمرين، الدفاع عن ثقافتها، وتصدير ثقافتها للآخر من أجل إحداث نوع من التوازن في العلاقات السياسية والثقافية بين الدولتين.
ثالثا، التطرف الفكري، وهذا العامل من أكثر العوامل التي تواجه الدول العربية والإسلامية في الوقت الحالي، فإن هذا التطرف الفكري لا يقتصر على التطرف الديني كما يصور دائما، وإنما يتعداه إلى التطرف الوطني أو الفلسفي أو القومي، مما يجعل المتطرف في حالة من الدفاع المستميت عن فكرته لإبقائها حية، ويتخذ هذا الدفاع أيضا أشكالاً متعددة، منها الدفاع العنيف، بشقيه الفكري والفعلي، مما يجعل الأطياف الأخرى في المجتمع غير قادرة على العيش بحرية واطمئنان، وبالتالي الإضرار بالثقافات المختلفة في المجتمع الواحد وخلخلة الأمن الثقافي عموما.
وعليه، فإن بناء استراتيجية الأمن الثقافي لا بدّ أن تكون مدروسة دراسة دقيقة تحدّد فيها العوامل والمهددات وطرق الحماية، كما يُمكن الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذه المسألة، فالناظر مثلا إلى كوريا الجنوبية، يجدها استطاعت تصدير ثقافتها ليس لدول شرق آسيا فقط، وإنما لجميع دول العالم، من ضمنها الدول الغربية، وبالطبع الشرق الأوسط، فإن القوة الناعمة التي استطاعت كوريا الجنوبية تحقيقها من خلال الموسيقى والسينما مثلا أنموذج جيّد للدراسة، والأمر ذاته ينطبق على اليابان وتصدير ثقافتها من خلال الأنمي وغيره، ومن الدروس المستفادة في هذا الشأن أن ينطلق التصدير الثقافي من المجتمع نفسه ومكوناته لا من خلال نظرة فوقية تصدّر الثقافة البيضاء (التي غالبًا ما تكون خاوية من أي معنى) فإن الانطلاق من الداخل الصغير إلى المجتمع الدولي هو الذي يحقق هذا النوع من القوة الناعمة عند الآخرين، وبالطبع لا يُمكن إغفال القوة الصلبة في هذه الحالة، فإن التوافق بين القوتين مهم وضروري، والانتقاص من أحدهما يؤدي بالضرورة إلى الإضرار بسياسات الدول الأخرى اتجاه الدولة محل النقاش، كما يذكر جوزيف ناي في كتابه الشهير.
عودٌ على بدء، هل هي حماية أم وصاية؟، الإجابة على السؤال تعتمد على استراتيجية الأمن الثقافي نفسها، فمتى تحولت هذه الاستراتيجية إلى استغلال لها للحدّ من الإبداع والصناعة الثقافية والبحث الفكري الحر وممارسة السلوكيات الهوياتية الصغرى المتعددة بحرية بذريعة الأمن الثقافي، تحوّلت إلى وصاية على المجتمع، مما يقتل الإنتاج الثقافي والفكري المحلّي والذي يضرّ في فترة وجيزة بالدولة والمجتمع على حدٍّ سواء ويكون مهدًّدا للثقافات الوطنية من حيث أريد لها أن تكون حامية لها، أما إذا كان الأمر مساعدًا للإنتاج الثقافي والفكري الإبداعي وزيدت الحرية في ذلك مع التسهيلات الإجرائية فيه، كانت حماية وزيادة في القوة في الوقت ذاته.
لذا فإن الأمر يتعلّق في العموم بالتوازن بين الحفاظ على الهويات المتعددة والهوية الوطنية المشتركة وبين الانفتاح الثقافي المتعلّم من الآخر والمستفيد من تجربته، بعيدًا عن أي استغلال لتحقيق مصالح شخصية أو مناطقية أو طائفية، فكلما تحقق هذا التوازن كانت استراتيجية الأمن الثقافي أكثر حفاظًا على ثقافة المجتمع وسياسة الدولة كذلك.
في المحصلة، تكمن أهمية الأمن الثقافي في كونه حاميًا للثقافات في المجتمع الواحد وحارسًا لها من المهددات التي تحتمها أدوات العصر الحديث، لذا فإن استراتيجية الأمن الثقافي يجب أن تكون أكثر مرونة وانفتاحًا على الآخر المختلف مع الحفاظ في الوقت ذاته على الثقافة والتراث القوميين للدولة، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية التصدير الثقافي من خلال أدوات القوة الناعمة والدبلوماسية الشعبية مثل الصناعات الثقافية والإبداعية في الأبحاث العلمية، والإنتاج الثقافي والفكري، وفتح الدراسة الجامعية للطلاب الدوليين بالقدر الممكن، والأدب، والأفلام، والموسيقى، والإنتاج الرقمي، وغيرها، بحيث يُمكن للآخرين في الدول الأخرى معرفة الداخل بغير أساليب القوة الصلبة التي أثبتت فشلها الذريع خلال الحقب الاستعمارية الطويلة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الثقافی والفکری القوة الناعمة فی المجتمع من خلال ا ی مکن فی هذه
إقرأ أيضاً:
محافظة مسقط تحتفي بختام المرحلة الثانية من مسابقة الأندية للإبداع الثقافي
(عمان) شهدت مسابقة الأندية للإبداع الثقافي للموسم 2024 / 2025م في محافظة مسقط اليوم ختام مرحلتها الثانية في حفل رعاه السيد إدريس بن منصور بن ناصر البوسعيدي مدير عام الشؤون الإدارية والمالية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب، وشملت المنافسات سبعة مجالات، وهي المناظرات (التناظر الفردي)، الموسيقى، الإنشاد، التعليق الرياضي، الشعر الفصيح، الشعر الشعبي، والابتكار وريادة الأعمال، وشارك فيها خمسة أندية من المحافظة، هي: نادي عمان، نادي السيب، نادي العامرات، نادي قريات، ونادي أهلي سداب، و أسفرت النتائج عن فوز عدد من المشاركين والمشاركات بالمراكز الثلاثة الأولى في مختلف المجالات حيث فاز في الشعر الفصيح بالمركز الأول محمد بن سالم المعشري من نادي العامرات، بينما نال المركز الثاني قصي بن سالم النبهاني من نادي السيب، وجاء أحمد بن سيف المقيمي من نادي أهلي سداب في المركز الثالث.
أما في الشعر الشعبي، فقد تأهل فهد بن علي المعمري من نادي أهلي سداب إلى المرحلة النهائية بعد تحقيقه المركز الأول على مستوى محافظة مسقط، بينما حل طارق بن زكي الحجري من نادي العامرات في المركز الثاني، وجاء ناصر بن راشد الجابري من نادي قريات في المركز الثالث.
واحرز في مجال المناظرات (التناظر الفردي)، المتسابق الجلندى بن محسن البطاشي من نادي أهلي سداب المركز الأول، بينما حلت رغد بنت رياض السيابية من نادي العامرات في المركز الثاني، وجاءت جود بنت سعيد المغيرية من نادي عمان في المركز الثالث.
أما في مسابقة التعليق الرياضي، فقد تصدر المتسابق محمد بن سعيد الغطريفي من نادي العامرات الترتيب بحصوله على المركز الأول، يليه نبراس بن عبد الجليل بو شحام من نادي عمان في المركز الثاني، ثم مران بن خالد الربخي من نادي قريات في المركز الثالث.
وفي مجال الابتكار وريادة الأعمال، تمكنت شريفة بنت محمد الهنائية من نادي عمان من نيل المركز الأول، تلتها في المركز الثاني مزون بنت سعيد الربيعية من نادي العامرات، بينما جاء سليمان بن علي المعمري من نادي السيب في المركز الثالث.
وفي مجال الإنشاد، ظفر بالمركز الأول هاشم بن نبيل الموسوي من نادي عمان، تلتْه هبة بنت علي الريامية من نادي قريات في المركز الثاني، في حين حصلت مريم بنت حمود الخنجرية من نادي أهلي سداب على المركز الثالث.
وفي ختام المنافسات، أحرز مؤيد بن خلفان الحبسي من نادي عمان المركز الأول في مجال الموسيقى (العزف المنفرد على الآلات الموسيقية)، بينما جاء حسن بن مصطفى اللواتي من نادي العامرات في المركز الثاني، وذهب المركز الثالث إلى المعتصم بن جمال البطاشي من نادي قريات.
وفي كلمة له أكد خلفان بن محمد العبري، مدير دائرة شؤون المعارض ورئيس فريق العمل بمحافظة مسقط، أن النسخة السادسة من المسابقة الثقافية شهدت تنافسًا لافتًا بين ممثلي أندية محافظة مسقط، ما يعكس نجاح المسابقة في تحقيق أهدافها المتمثلة في اكتشاف المواهب الشابة وصقلها وتنميتها.
وأشار "العبري" إلى أن الاهتمام الكبير من قِبل الأندية واللجان الشبابية بتهيئة وإعداد المشاركين انعكس بوضوح في النتائج المتقدمة التي حققها ممثلو المحافظة، مضيفًا أن استحداث جائزة "أفضل لجنة شبابية" كان له أثر كبير في تعزيز روح التنافس بين اللجان، مما أضفى بعدًا إضافيًا على أجواء المسابقة وزاد من تفاعل الأندية معها.
كما نوّه إلى الدور اللافت الذي قدمته الفرق الإعلامية المشاركة في تغطية فعاليات المرحلة الثانية من المسابقة، حيث اتسمت تغطياتها بالجدية والتنوع، وشكّلت منصةً مهمة لإبراز طاقات شابة واعدة تمتلك القدرة على الإبداع متى ما أُتيحت لها الفرصة.
وفي ختام حديثه ، أعرب "العبري" عن أمله في أن يواصل ممثلو محافظة مسقط تألقهم في المرحلة النهائية للمسابقة على مستوى سلطنة عمان، وأن يكون لهم حضور قوي في المراكز المتقدمة.
وقد تخلّل حفل الختام عرض مرئي استعرض أبرز محطات المسابقة واللحظات التي عاشها المشاركون خلال فترة المنافسات، كما ألقى محمد بن سالم المعشري، الفائز بالمركز الأول في مجال الشعر الفصيح، قصيدة عبّر فيها عن تجربته، فيما قدّم فهد بن علي المعمري، الحاصل على المركز الأول في الشعر الشعبي، قصيدته الفائزة أمام الحضور.