لم يكن صباح العاشر من يونيو يوماً عاديًا في سياق الحرب السودانية المستمرة منذ أكثر من عامين، إذ حمل تطورًا نوعيًا وخطيرًا، بإعلان القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية عن تعرّض نقاط حدودية داخل المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا لهجوم مشترك شنّته مليشيا الدعم السريع، بدعم مباشر من قوات الجنرال الليبي خليفة حفتر، وتحديدًا “كتيبة السلفية” التابعة له.

هذا الحدث يمثّل نقلة نوعية، تُنذر باحتمال انتقال الصراع السوداني من إطار الاحتراب الداخلي إلى مشارف التدويل الإقليمي، حيث تتشابك المصالح والأطماع والنفوذ في مشهد متجدد .

الدعم العسكري الذي قدمته قوات حفتر للمليشيا المتمردة – وفقًا لمنصة “أخبار السودان” – لم يقتصر على الإسناد الميداني، بل شمل عمليات نقل للأسلحة والمعدات عبر الكفرة، واستخدام طائرات مسيّرة إماراتية ، إلى جانب رصد طائرات شحن من طراز IL-76TD في محيط العمليات. هذه المؤشرات تؤكد أن الهجوم جاء ضمن خطة أوسع ، أُعدت بعناية في مراكز قرار إقليمية داعمة للمليشيا، بهدف إعادة ضبط موازين القوة على الأرض، بعد تكبّدها خسائر كبيرة في جبهات شمال دارفور، وغرب كردفان، والنيل الأبيض، والخرطوم.

المثلث الحدودي، الذي أصبح ساحة اشتباك، لطالما كان نقطة تماس حساسة تتقاطع عندها حسابات الخرطوم والقاهرة وطرابلس. ورغم أن الهجوم نُفّذ بأيادٍ ليبية وسودانية متمردة، إلا أن خلفيته تُشير بوضوح إلى دور فاعلين إقليميين، وعلى رأسهم حكومة أبوظبي، التي تُتهم مرارًا “تقارير اممية” بإدارة وتفعيل شبكة الدعم اللوجستي والمالي للمليشيا، انطلاقًا من جنوب ليبيا، بعد تعثّر خطوط الإمداد القادمة من تشاد في الأشهر الأخيرة.

وفي هذا السياق، برز تطوّر تشادي لافت، تمثّل في برقية تهنئة أرسلها الرئيس محمد إدريس ديبي إلى الرئيس السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بمناسبة عيد الأضحى. هذه البرقية ، تحمل دلالات سياسية مهمة، إذ تُعد أول تواصل رسمي بين البلدين بعد أشهر من الفتور، على خلفية اتهامات سودانية لتشاد بإيواء عناصر الدعم السريع والتغاضي عن عبور إمدادات عسكرية عبر أراضيها.

يمكن قراءة هذه الخطوة كمحاولة تشادية لفتح نافذة تهدئة، أو كإشارة إلى تراجع تدريجي عن الانخراط في الصراع، مدفوعة بهواجس أمنية متزايدة ترتبط بامتداد قبيلة الزغاوة في البلدين، وبمخاوف من امتداد نيران الحرب إلى الداخل التشادي، خاصةً في ظل تململ داخل المؤسسة العسكرية، وضغوط غربية متزايدة، وتغير المزاج الدولي إزاء الحرب في السودان.

هذا التراجع التشادي، وإن لم يُعلن رسميًا، يفسَّر – وفق مراقبين – بأنه دفعٌ إضافي لأبوظبي للبحث عن بدائل لوجستية، فوجدت ضالتها في محور حفتر، الذي يمثّل بوابة مثالية جغرافيًا وسياسيًا، تتيح استمرار الدعم للمليشيا دون تكاليف سياسية باهظة، على الأقل في الوقت الراهن. وعليه، فإن التحوّل الليبي يبدو تأسيسًا فعليًا لخط دعم بديل، قد يتجاوز في طاقته وأثره الخط التشادي المتراجع.

أما مصر، الحاضرة بالاسم والموقع في بيانات الجيش السوداني، فتجد نفسها أمام معضلة مركّبة. فقوات حفتر، التي نفّذت الهجوم، لا تتحرّك عادة دون تنسيق مع القاهرة، بل تُعد ذراعًا استراتيجية لها في شرق ليبيا. ومع ذلك، تزامن هذا الهجوم مع زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أبوظبي، وفي ظل أحاديث عن ضغوط إماراتية تتعلق بملف معبر رفح وغزة، ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان هذا التحرك رسالة ضغط مبطّنة لمصر، مفادها أن “الجنوب قابل للاشتعال إذا لم تُقدَّم تنازلات في الشرق”.

وإذا صحّت هذه التقديرات، فإن الصراع يتجاوز كونه نزاعًا على خطوط إمداد أو نفوذ، ليُصبح صراع إرادات داخل المحور ذاته، بين دولة مانحة للمال (الإمارات)، وأخرى ضامنة للجغرافيا (مصر)، حيث يدرك الطرفان أن استمرار تضارب الأجندات قد يقود إلى انفجار محتمل.

في هذا السياق، تبقى المرحلة المقبلة مفتوحة على عدد من السيناريوهات: أولها، أن يواصل الجيش السوداني التعامل مع الموقف بحزم، كما بدأ خلال الأيام الماضية من خلال الطلعات الجوية التي ألحقت خسائر فادحة بالمليشيا وداعميها.

أو أن يتم تثبيت خط الإمداد الليبي الجديد كأمر واقع تتعامل معه جميع الأطراف. أو ربما تشهد المرحلة تدخلًا مصريًا مباشرًا للحد من تحركات حفتر بما يضمن المصالح المصرية ولا يُحرج شراكتها مع السودان.

كما لا يُستبعد تدخل أطراف أخرى، مثل تركيا، لترتيب المشهد بما يخدم مصالحها وأجنداتها في المنطقة.

وفي ظل هذا المشهد المعقد، تبدو أمام الخرطوم فرصة دبلوماسية ثمينة، ينبغي عدم التفريط فيها، عبر تحويل الرسالة التشادية إلى مسار تفاوضي أمني يُسهم في إغلاق الجبهة الغربية مع تشاد. هذه الخطوة من شأنها أن تُشكّل تحولًا مهمًا في تقليص فرص تمدد المليشيا، خاصة في ظل الضغوط العسكرية المتزايدة عليها في دارفور.

هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة إذا نجحت الخرطوم في احتواء الموقف التشادي، وتفعيل أدوات الضغط الدبلوماسي على الأطراف الإقليمية الداعمة للتمرد، فإن الطريق سيكون ممهّدًا لعزل مليشيا الدعم السريع إقليميًا، وفتح نافذة جديدة أمام تفاهمات سلام محتملة بدأت تتبلور بين أنقرة والدوحة خلال الأيام الأخيرة. غدا بإذن الله نتناول تأثيرات الحرب الايرانية الاسرائيلية علي السودان في ظل التطورات الأخيرة.

دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي

السبت 14 يونيو 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

مخاوف حول السودان

لا شك بأن كل ما يحدث من تطورات اليوم ينبئ بأن السودان في وضع صعب في الوقت الراهن، ولهذا بادرت الأمم المتحدة، مؤخرا، وحذرت من خطر تفكك الدولة. ولقد سبق هذا التحذير ما قاله المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة في أبريل الماضى من أن "الحفاظ على وحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه يعد مبدأ أساسيا للتحرك نحو حل دائم للأزمة في السودان، وضمان الاستقرار الطويل الأمد في البلاد وفي المنطقة". كان الائتلاف الذى تقوده قوات الدعم السريع قد أعلن في 26 يوليو الماضى عن أسماء أعضاء مجلس رئاسي، وحكومة موازية في خطوة يخشى معها البعض أن تزيد من تعقيد أزمة السودان وشبح تقسيم البلاد.

كان الإعلان قد جاء عن المجلس الرئاسي والحكومة الموازية خلال مؤتمر صحفي عقد في مدينة ( نيالا) كبرى مدن إقليم دارفور، الذى تسيطر قوات الدعم السريع على معظم أراضيه، وتشمل قوى الائتلاف قوات الدعم السريع، والحركة الشعبية لتحرير السودان، والجبهة الثورية، إضافة إلى أجنحة منشقة من حزبيْ الأمة والاتحادى الديمقراطى، فضلا عن قوى مدنية وشخصيات مستقلة. وسيرأس قائد قوات الدعم السريع " محمد حمدان دقلو" المعروف باسم "حميدتى" المجلس الرئاسي في الحكومة الموازية، وسيكون قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ شمال " عبد العزيز آدم الحلو" نائبًا له.

الجدير بالذكر أن المجلس الرئاسى يتكون من 15 عضوا من ضمنهم حكام الأقاليم.

ولقد أفاد المتحدث باسم الائتلاف "علاء الدين نقد" باختيار عضو مجلس السيادة السودانى السابق "محمد حسن التعايشى" لشغل منصب رئيس الوزراء في الحكومة الموازية. وأكد " نقد" أن هدف الحكومة الموازية هو بناء وطن يسع الجميع، وسودان جديد علماني ديمقراطي لا مركزي، وموحد طوعيا، وقائم على أسس الحرية والسلام والعدالة والمساواة. وأشار " نقد" إلى أن الحكومة المعلن عنها ستحمل اسم "حكومة السلام". في المقابل وصفت وزارة الخارجية السودانية في بيان رسمي لها في 27 يوليو الماضى، وصفت الحكومة الموازية بالوهمية. واتهمت الخارجية السودانية قوات " الدعم السريع" بالتجاهل التام والاستهتار بمعاناة الشعب السودانى.

ولقد دعت الخارجية السودانية دول الجوار والمجتمع الدولي إلى عدم الاعتراف والتعامل مع من وصفته بـ" التنظيم غير الشرعى" والمعنيّ به ما تم الإعلان عنه مؤخرا من قبل الائتلاف تحت اسم "حكومة السلام". وكانت الأمم المتحدة قد حذرت، في وقت سابق، من خطر تفكيك السودان، وفى هذا المجال أشار المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة في شهر أبريل 2025 في معرض شرحه للوضع إلى أن "الحفاظ على وحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه مبدأ أساسى للتحرك نحو حل دائم للأزمة وضمان الاستقرار الطويل الأمد للبلاد والمنطقة".

وقد تمكن الجيش السودانى خلال الأشهر الماضية من تحقيق مكاسب عسكرية على الأرض، إذ استعاد السيطرة، بشكل كامل، على العاصمة الخرطوم، فضلا عن تمكنه من استعادة أماكن حيوية في شمال ووسط البلاد.

مقالات مشابهة

  • محمد كركوتي يكتب: وبدأت التعريفات الجديدة
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: مصداقية الاتحاد الإفريقي على المحك..!
  • الجيش السوداني يُعلن التصدي لقوات الدعم السريع في الفاشر
  • مخاوف حول السودان
  • الجيش السوداني يتصدى لهجوم شنته الدعم السريع على مدينة الفاشر
  • صور.. بدء تطوير شارع إبراهيم بمنطقة الكوربة في مصر الجديدة
  • بالأدلة.. فضح علاقة غير شرعية بين حفتر و”الدعم السريع”
  • عادل الباز يكتب: تحالف الهاربين.. من خيباتهم!!
  • عاجل.. الجيش السوداني يُعلن إسقاط طائرة مسيرة تابعة لـ الدعم السريع في مدينة الفاشر
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الرباعية الدولية .. صراع المصالح يبدد فرص الحل..!