لجريدة عمان:
2025-06-17@21:23:19 GMT

اضطراب وأسى

تاريخ النشر: 17th, June 2025 GMT

تبدو فكرة أكثر من ممتازة، من دون أدنى شك، هي تلك التي تعمل عليها حاليا «دار الرافدين» (بيروت - بغداد) والمتمثلة في «تكملة» ترجمة أعمال الكاتب الألماني -السويسري توماس مان. وأقول تكملة، لأن ما صدر لغاية اليوم من كتب لــ مان بالعربية، لا تشكل كلّ أعماله الأدبية والفكرية، على الرغم من أن رواياته الأساسية - مثل «الجبل السحري» و«الموت في البندقية» و«الدكتور فوستوس» وغيرها - انتشرت بالعربية من عقود طويلة؛ إلا أن «مكتبته» (بلغة الضاد) لا تزال ناقصة.

فنحن لو نظرنا فعلا إلى لائحة هذه الكتب، لوجدنا أن الكثير منها، لا يزال «غريبا» عن لغتنا وبعيدا عنها.

من هنا، جاءت ترجمة روايته الاستثنائية «يوسف وأخوته» (التي صدرت قبل أشهر قليلة بأربعة أجزاء من ترجمة محمد إسماعيل شبيب) لتسدّ ثغرة في هذا الجدار الكبير الذي شيّده الكاتب، والتي يعيد فيها «سرد القصة التوراتية، لكنه يمزج فيها أيضا علم النفس والفلسفة»، ليحول هذا السرد التوراتي إلى «ملحمة تجمع الأسطورة والتاريخ بالأفكار الحديثة»، و«يجعل منها فعلا واحدة من قمم الأدب العالمي الفريدة»؛ (علينا أن لا ننسى أنه كتبها قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، في الوقت الذي اختار فيه مغادرة مسقط رأسه احتجاجا على وصول النازية إلى سُدّة الحُكم، والتي سنعود إليها قريبا).

كان أبناء توماس مان وأقاربه يلقبونه بــ «الساحر»، إذ كان شغوفا بكلّ شيء، مثلما كان بطبيعته مولعا بالسحر، (وفق ما قرأنا عنه). هذا الولع، نجده في قصته الطويلة (أو نوفيلا) «ماريو والساحر»، التي صدرت حديثا بالعربية في كتاب واحد، مع قصة أخرى بعنوان «اضطراب وأسى مبكر» (نقلهما إلى العربية فلاح رحيم)، مع العلم أن الساحر الذي يصوره مان، هو منوم مغناطيسي يثير القلق في ساحة ألعاب، في إيطاليا. هذا القلق، ليس في واقع الأمر، سوى ممارسته - على جمهوره الصغير - سُلطة تضاهي سُلطة الدكتاتوريين على الحشود. لذا فإن القراءة الفعلية الممكنة لهذه الــ «نوفيلا»، ليست في العمق سوى سيرة عائلة إيطالية، تقرر الذهاب في عطلة، وكأنها تقع تحت سلطة الساحر «موسوليني»، بمعنى آخر، نحن أمام هجاء لاذع للفاشية، التي كانت تقترب كثيرا من نازية هتلر في ألمانيا، وكأن الروائي يريد القيام بجردة حساب لأنظمة أوروبية قادت البشرية إلى حرب مدمرة لا تزال تعاني منها لغاية اليوم. وبشكل أعمّ يمكننا القول إن هذه القصة الطويلة هي - في العمق أيضا - استنطاق لطبيعة الإرادة الفردية وحدود حريتها، يوسع فيها استكشافه للمجهول حيث يكون فيها صاحب كتاب «الجبل السحري» في بيئته الحقيقية.

تبدأ «ماريو والساحر» (التي تدور أحداثها حوالي العام 1926، أي مع بدء صعود الفاشية الإيطالية) بتأملات مفاجئة، في ذلك الوقت، وكأن السياحة الجماعية كانت متقدمة جدا. يصور توماس مان أجواءً ثقيلةً ومزعجةً، مشيرًا إلى بعض الحوادث التي لم يألفها كسائحٍ في إيطاليا. يُدرك القارئ وطأة الفاشية الآخذة في التصاعد. مع اقتراب نهاية الإقامة، يأتي ساحر ليُقدّم عرضه في بلدة ساحلية صغيرة، فيذهب الجميع، سكانًا وسياحًا، إلى العرض. الساحر، الفارس سيبولا، وهو في الواقع مُنوّم مغناطيسي، كما أسلفنا، شخصية كريهة ومشوّهة، تُثير مشاعر غير سارة وتُزعج الكاتب، وفي النهاية تُبهر جمهوره رغم ازدرائه له. (لن أضيف المزيد لتجنب حرق الأحداث). هل هذه قصة رمزية تُدين الفاشية التي تُفسد العقول؟ ربما، لكن معنى النهاية يُخلّف أيضًا شعورًا بعدم الارتياح مع ارتياح الراوي عند وقوع حادثة مأساوية. ومع تأثير سُلطة هذا المنوم المغناطيسي ذي القوة المقلقة التي تنتهك خصوصية الجمهور وتدوس كرامته، يُثير توماس مان، بأسلوبه «الأسطوري» وبوسائله الجمالية البحتة، مشكلة التماهي مع القائد المُرعبة، مُشيرًا في الوقت عينه إلى إمكانية وجود خط مقاومة.

حظيت هذه القصة، التي مُنعت في إيطاليا قبل ثلاث سنوات من وصول هتلر إلى السلطة، بإشادة واسعة كتحفة فنية سردية، لكن يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها استحضارٌ مُبشّر. في غموضها المُقلق، تظل «ماريو والساحر» نصًا مُلفتًا، بأسلوب الكاتب البارع ووصفه الدقيق والنادر.

أما النص الثاني «اضطراب وأسى مبكر»، وعلى الرغم من تشويقه، إلا أننا نقع فيه على لحظات فكاهية، وطريقة في رؤية الأشياء تبدو لي معاصرة بشكل غريب. أو ربما خالدة. لكنها خفيفة الظل، وممتعة نوعًا ما (ربما يجدها البعض أكثر امتاعا من النص الأول). يعود تاريخ «اضطراب...» إلى العام 1925، وهي عن معاناة الشباب، فيما لو أحببنا أن نختصرها بكلمة واحدة؛ وهي تتحدث عن الدكتور كورنيليوس، وهو شخص أكاديمي متقدم في السن - إن لم يكن قد كبر بالفعل - مستقر في عائلته وحياته البرجوازية، يلاحظ في حفل نظمه ابنه الأكبر كيف يتغير العالم ويبدو له مضطربًا. اضطراب في كل مكان، حتى في تعلقه بابنته لوريت ذات الخمس سنوات، ابنته المفضلة من بين أطفاله الستة. اضطراب في المجتمع - حيث يتصرف هؤلاء الشباب بغرابة! - اضطراب في عالمه، اضطراب في عائلته - لماذا لا يستطيع ابنه بيرت مواكبة أصدقائه؟ - اضطراب في كل مكان. والأسوأ من ذلك كله، الاضطراب الذي أحدثه حب لوريت الأول العابر، ولكنه حقيقي للغاية، والذي جعلها تشعر بحزن شديد لدرجة أنها لن تهتم لا لأبيها ولا لأي شخص آخر، ربما لساعة أو ساعتين. يتابع توماس مان بتواضع مخاوف الدكتور كورنيليوس في مواجهة عالم لم يعد ملكه، وأسئلته، وانسحابه الوشيك المحتمل من الحياة الاجتماعية. ويتابع بنفس التحفظ مخاوفه كأب يرى أبناءه يهربون من محيط الأسرة، المراهقة والطفولة، حتى لأصغرهم، ولو للحظة. نصٌّ بنكهة المرارة... عن تلك الفترة التي بدأت فيه أوروبا تفقد كل الروابط العائلية والتي قادتها إلى التفكك الاجتماعي وبالتالي إلى الحروب المتناسلة التي لم تنته منها. وكأن ما يكتبه توماس مان كان بمثابة رؤية متقدمة لما حدث لاحقا، وعلى جميع الصُعُد.

صحيح أن هاتين القصتين، لا تُجَاريا روائع الكاتب الأخرى، لكنهما تبقيان شهادة فعلية عن كاتب راء، عرف كيف يقرأ لحظته التاريخية الراهنة، من دون أن يسقط في الأيديولوجيا المباشرة، ليقدم في النهاية أدبا يستحق أن نكتشفه بعد.

إسكندر حبش كاتب وصحفـي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اضطراب فی التی ت

إقرأ أيضاً:

مجمع إرادة بالرياض: التوتر اضطراب طبيعي واستمراره لفترة طويلة دون تدخل يكون ضارًا

أوضح مجمع إرادة والصحة النفسية بالرياض عضو تجمع الرياض الصحي الثالث، أن التوتر أو القلق هو جزء طبيعي من الحياة، ويمثل استجابة الجسم الطبيعية للضغوط والتحديات اليومية، وفي بعض الحالات يمكن أن يكون مفيدًا، ويساعد على التركيز والإنجاز واتخاذ القرارات بسرعة، غير أن التوتر يصبح ضارًا إذا استمر لفترات طويلة وأثّر سلبًا على حياة الشخص دون إدارة صحيحة.

وبين استشاري الطب النفسي، المساعد للخدمات الطبية بالمجمع الدكتور عبدالإله بن خضر العصيمي، أن ردود فعل الجسم أثناء التوتر والقلق ناتجة عما يسمى "الجهاز العصبي الذاتي السمبثاوي"، وهرمونات التوتر في الجسم التي بدورها تقوم بتنظيم وظائف الأعضاء والغدد في الجسم بصورة ذاتية، وتتأثر بالضغوط الخارجية والبيئية وما تتلقاه الحواس غالبًا.

وأوضح أن هذا الاضطراب يظهر في عدة صور، أشهرها وأكثرها شيوعًا الخوف المفرط من أشياء -لا تشكِّل خطرًا حقيقيًا أو يكون هذا الخطر ضئيلًا- كبعض الحشرات، والدماء، والإبر، والرعد، والقطط، وركوب الطائرة، والمرتفعات، والأماكن الضيقة، والمصاعد وغيرها، ويطلق عليه الرهاب المحدَّد، ويمكن أن يحدث على شكل نوبات هلع متكررة، وتصل ذروة النوبة غالبًا خلال عشر دقائق، وغالبًا ما ترافقها أعراضًا جسدية، ويشعر المصاب بها بالتوتر والقلق الشديد من حدوث نوبة أخرى قادمة، ويتوتر أيضًا متوقعًا إصابته بمرض خطير أو مميت أو فقدان السيطرة، كما أنه يكون على شكل خوف من الإحراج أو الانتقاص أثناء التفاعل الاجتماعي وخصوصًا في بعض المواقف (مثل التحدث أمام الجمهور) ويصاحبه انسحاب من تلك المواقف، أو ظهور أعراض جسدية محددة مثل رعشة الأطراف، التعرق، الخفقان، وصعوبة في الكلام، ويطلق عليه "القلق الاجتماعي"، إضافة إلى أنه ينتج عن كثرة تناول الكافيين، واضطراب النوم، أو بعد تناول أدوية معينة، ونادرًا بسبب مرض عضوي، أو بعد تناول مواد منشطة.

وأفاد أن هذا الاضطراب يحدث لدى الأطفال بعد عمر السنتين فيما يسمى اضطراب "قلق الانفصال عن الوالدين"، ويتضمن الخوف المفرط من الانفصال عن الوالدين أو الأشخاص المقربين، مبينًا أن التوتر والقلق يكون عامًا وبشكل يومي تقريبًا، ويعاني المصاب به من تفكيرٍ وهمّ مفرط في الأحداث اليومية، والخوف من حدوث أسوء الاحتمالات، ويكون مصحوبًا بالتململ والإحساس بالتعب وضعف التركيز وسرعة الغضب، ويترافق معه بعض الأعراض الجسدية واضطراب النوم.

وأشار المساعد للخدمات الطبية بمجمع إرادة بالرياض، إلى أن هناك اضطرابات توتر وقلق أخرى، منها، رهاب الساح أو (رهاب الخلاء) ويأتي على شكل خوف من أن يكون في مكان ما أو الخروج عندما يكون الهروب صعبًا أو محرِجًا، أو عندما تكون المساعدة غير متوفرة، وغالبًا يتم تجنُّب هذه (الأماكن أو الأوضاع) من الشخص، ومنها ما هو مصاحب لاضطرابات الصدمة (مثل التعرض للقتل أو الكوارث الطبيعية أو الحوادث الخطيرة أو غيرها)، وتشمل الأعراض أيضًا اليقظة المفرطة، وظهور ذكريات مرتبطة بالصدمة بشكل مفاجئ، والسلوكيات التجنبية، والأرق والأحلام السيئة المرتبطة بالصدمة، وأعراض الاكتئاب وغيرها.

وأضاف الدكتور العصيمي، أن من ضمن العوامل للإصابة بالتوتر أو القلق، ضغوط الحياة وتغيراتها التي ينتج عنها رد فعل مفرط غير متكيف يصاحبه أعراض القلق "العلاقة مع الآخرين، العمل، الدراسة، الأمور المالية، الزواج، الطلاق ونحوها"، وتسهم أنماط التفكير السلبية والشخصية وتأثير البيئة المحيطة والتاريخ العائلي كعوامل أخرى تحفز التوتر والقلق.

وعن مضاعفاته، أوضح أن القلق كاضطراب مستمر يعيق حياة الشخص مهنيًا وأكاديميًا واجتماعيًا، ويصاحبه أعراض عضوية مزعجة كارتفاع في ضغط الدم، والسكر، وأعراض الجهاز الهضمي، والأعراض العصبية، والشد في الجسم، وضعف المناعة، والعجز الجنسي.

وعن مواجهة التوتر أو القلق فبيّن أن ذلك يكون بتخفيف تناول الكافيين أو ما يمكن أن يزيد من التوتر، وتعديل النظام الغذائي إلى صحي، وتنظيم النوم، ووضع جدول من النشاطات والهوايات الممتعة، وتنظيم الوقت والأولويات، وأخذ قسطٍ من الراحة وممارسة التأمل وطرق الاسترخاء كالتنفس العميق وغيره.

وذكر الدكتور عبد الإله العصيمي أن العلاج بالأدوية النفسية والجلسات النفسية لدى المختصين في الطب النفسي، وعلم النفس الإكلينيكي، والمتابعة في الخطة العلاجية المقررة تساعد في علاج أغلب اضطرابات التوتر والسيطرة عليها بشكل فعال.

القلقالتوترمجمع إرادة والصحة النفسيةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • اضطراب مفاجئ يقطع بث القناة الإيرانية الثالثة.. فيديو
  • نادي أمريكي يقدم عرضًا لضم توماس مولر نجم بايرن ميونخ
  • توماس فريدمان لترامب: إليك طريقة ذكية لإنهاء حرب إسرائيل وإيران
  • بطل الساحر: استغربت أن الجمهور لسه فاكرني.. وسعيد بما تقدمه منة شلبيl خاص
  • تكيس المبايض.. اضطراب صامت يهدد خصوبة المرأة ويؤثر على حياتها اليومية
  • الكاتب محي الدين لاذقاني يتناول كتابه “مثقف السلطة بين عهدين” خلال ندوة بدمشق
  • الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد وجودنا
  • مجمع إرادة بالرياض: التوتر اضطراب طبيعي واستمراره لفترة طويلة دون تدخل يكون ضارًا
  • فوضى “نتن ستان”.. السحر في حضرة الساحر!