الضربة الأمريكية لإيران: شريعة الغاب بإحداثيات جديدة!
تاريخ النشر: 23rd, June 2025 GMT
د. أحمد يوسف **
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، ساد اعتقاد واسع- تبنّاه المنظّر الأمريكي فرانسيس فوكوياما- بأن العالم قد دخل مرحلة "نهاية التاريخ"؛ حيث تتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي سياسيًا وعسكريًا، وتكرّس الليبرالية الغربية بوصفها النموذج المنتصر والأوحد للبشرية.
هذا التفرد الأمريكي لم يكن مُجرّد لحظة قوة عابرة؛ بل مشروع هيمنة ممتد، قام على مزيج من العسكرة، وتصدير القيم الغربية، والضغط الاقتصادي، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط.
الضربة العسكرية الأمريكية لا يمكن قراءتها في معزل عن البيئة الاستراتيجية المتغيرة؛ فبعيدًا عن الادعاءات المتعلقة بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، تكشف الضربة عن منطق "الردع الفوضوي" الذي تلجأ إليه واشنطن حين تشعر أن زمام السيطرة بدأ يفلت من يدها، في ظل صعود قوى مناوئة، وتنامي محور المقاومة الذي تتصدره طهران.
وشكَّل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحظة فاصلة في السياسة الأمريكية؛ فقد كان أول رئيس يرسم قطيعة حقيقية بين واشنطن والعالم؛ سواء عبر انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، أو تمزيقه لتحالفات عابرة للقارات، أو انحيازه الكامل لأقصى يمين المؤسسة الصهيونية. لقد بدأ ترامب كتابة الفصل الأول من نهاية التفرد الأمريكي، لا فقط عبر سلوك سياسي انعزالي، بل حين ربط شعاره "أمريكا أولًا" بشعار "إسرائيل أولًا"، في ازدواجٍ أضرّ بمصالح واشنطن وفتح أبواب المغامرة دون حساب.
كما وصف البروفيسور جيفري ساكس بدقة، فإن سياسة ترامب "تدور في فلك أجندة نتنياهو"، ما جعل من أمريكا لاعبًا تابعًا للرؤية الأمنية الصهيونية، لا صانعًا لمعادلات الاستقرار في المنطقة.
وفي العقود التي تلت سقوط الاتحاد السوفيتي، زرعت أمريكا قواعدها في الخليج، وفرضت نماذج حكم تابعة، واحتكرت أدوات الردع الإقليمي. غير أن انسحابها الفوضوي من العراق وأفغانستان كان كفيلًا بتقويض صورة "القوة التي لا تُهزم"، وأدى إلى حالة انكشاف أخلاقي واستراتيجي لمشروع الهيمنة.
وفي هذا الفراغ، برزت إيران كقوة صاعدة، تقود تحالفًا يضم فواعل من لبنان إلى اليمن، وتشكل حالة "تمرد سيادي" على التبعية الأمريكية، ما جعلها العدو الطبيعي لإسرائيل ومن يقف خلفها.
وقد شكَّل هجوم 7 أكتوبر 2023 لحظةً فاصلة في تاريخ الصراع، فقد ضربت المقاومة الفلسطينية العمق الإسرائيلي بطريقة لم تشهدها المؤسسة الأمنية الصهيونية منذ عقود. لقد أصيبت أسطورة الردع بانهيار مُدَوٍ، وبدأت التساؤلات في الداخل الإسرائيلي: من نحن حقًا؟ وما مستقبلنا في هذه المنطقة؟ هنا، تدخلت أمريكا لإعادة التوازن، وأكدت مرة أخرى أن إسرائيل دون الدعم الأمريكي لا تساوي شيئًا.
لكن هذا التدخل، لم يضف إلى هيبة أمريكا، بل كشف اعتماد "الكيان الصهيوني" على حماية أجنبية، بما يقوّض أي أمل في قبوله كجزء طبيعي من المنطقة.
في المقابل، يُفاقِمُ صعود اليمين الديني المتطرف في إسرائيل الأزمة، إذ إن هذه الحكومة الإسرائيلية لم تعد تمارس احتلالًا عسكريًا فحسب، بل تمضي في مشروع إحلالي يستند إلى سرديات دينية متطرفة، ترسم للمنطقة مصيرًا كارثيًا إذا تُرك لها الحبل على الغارب.
للأسف، فبدلًا من كبح واشنطن جماح هذا التطرف، أصبحت شريكة فيه، وداعمة له عسكريًا وسياسيًا.
وعلى الرغم من التهديدات والضربات، تبدو إيران -بما تملكه من صلابة داخلية وحلفاء إقليميين- أقرب إلى البعث كقوة إقليمية فاعلة، من إسرائيل التي تستنزفها الحروب، وتخسر معركة القبول الشعبي، رغم كل اتفاقيات التطبيع التي تُفرض بالعصا الأمريكية.
فحتى لو تمَّ التطبيع مع بعض الأنظمة، تبقى الشعوب في المنطقة رافضة لهذا الكيان، وترى فيه كيانًا غريبًا قائمًا على النكبة والدمار، ولا مستقبل له في أي مشروع تعايش حقيقي بالمنطقة.
الضربة الأمريكية لإيران، وكل ما يرافقها من تبريرات، ليست سوى تأكيد أن منطق "شريعة الغاب" لا يزال يحكم النظام الدولي، ولكن بإحداثيات جديدة؛ لم تعد أمريكا اللاعب الأوحد، ولا العالم متفرجًا صامتًا؛ فالمعادلات تتغير، والأقطاب تتعدد، وما من ضربة تُشَن إلا وتفتح احتمالات جديدة للصراع... واليقين الذي يترسخ اليوم أكثر من أي وقت مضى، هو أن الهيمنة الأمريكية لم تعد قدرًا لا يُرد، ولا التفوق الإسرائيلي أمرًا لا يُمَس.
الأيام دول تتقلب في فلك يدور.. "وتلك الأيام نداولها بين الناس".
** مستشار سابق لرئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تحول جذري في مسار الحرب.. الضربة الأمريكية لـ إيران تهز العواصم العالمية
في لحظةٍ نادرة يتقاطع فيها التاريخ مع الجغرافيا والسياسة مع السلاح، دخلت الولايات المتحدة رسميًا على خط المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران، في تدخلٍ مباشر حوّل الصراع من حرب بالوكالة إلى مواجهة مفتوحة بين دول كبرى.
ففي فجر اليوم الأحد 22 يونيو 2025، لم يكن عاديًا في الإقليم ولا في العالم، إذ أعلنت واشنطن عن تنفيذ ضربات جوية مركّزة ضد منشآت نووية إيرانية، في خطوة وُصفت بأنها الأشد منذ عقود، وأثارت عاصفة من ردود الفعل الدولية المتباينة بين داعم ومتحفظ وقلق. هذا التحول الجذري في مسار الحرب لم يقتصر أثره على طهران وتل أبيب، بل امتد إلى العواصم الكبرى ومجالس الأمن ومراكز القرار العالمية، حيث أعادت هذه التطورات تشكيل أولويات الدول، ودفعتها إلى إعادة تقييم حساباتها في واحد من أكثر الملفات حساسية في العالم.
البيت الأبيض أعلن أن الضربات التي نفذتها طائرات الشبح الأميركية جاءت ردًا على ما وصفه بـ"التهديد الوجودي الذي تمثله الطموحات النووية الإيرانية، والدعم العسكري المباشر من طهران لجماعات تهدد أمن إسرائيل واستقرار الشرق الأوسط".
وأكد الرئيس الأمريكي أن "الولايات المتحدة لن تقف متفرجة أمام تصعيد إيراني غير مسبوق"، مشددًا على أن واشنطن “ستدافع عن مصالحها وحلفائها بكل الوسائل الممكنة”.
واعتبرت الإدارة الأمريكية أن الهجوم يحمل رسالة مزدوجة: منع إيران من تجاوز الخطوط الحمراء، ومنع امتداد الحرب إلى نطاق يهدد استقرار المنطقة والعالم.
من جانبها، رحّبت إسرائيل علنًا بالتدخل الأميركي، واعتبرته تطورًا طبيعيًا في مسار التحالف الإستراتيجي بين البلدين.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي إن “الدعم الأميركي اليوم يبرهن على أن معركة إسرائيل ضد إيران ليست معركة منفردة، بل هي جزء من منظومة دولية تسعى لردع التهديد النووي الإيراني.”
وأشارت مصادر إسرائيلية إلى أن التعاون الاستخباراتي والعسكري بين تل أبيب وواشنطن كان وثيقًا خلال الأيام التي سبقت الضربة، ما يعزز فرضية التنسيق الكامل.
إيران: إدانة شديدة وتحذيرات من تصعيد مفتوحفي طهران، قوبل التدخل الأميركي بإدانة شديدة، حيث اعتبرته القيادة الإيرانية "عدوانًا سافرًا وانتهاكًا فاضحًا للسيادة الإيرانية"، وتعهدت بـ"ردّ ساحق ومؤلم في الزمان والمكان المناسبين".
وأعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن "الإدارة الأميركية تتحمل المسؤولية الكاملة عن تداعيات هذا التصعيد"، معتبرًا أن واشنطن “أغلقت الباب نهائيًا أمام أي تسوية دبلوماسية في المرحلة الراهنة”.
كما أطلق الحرس الثوري تهديدات مباشرة ضد القواعد الأميركية في العراق وسوريا والخليج، مشيرًا إلى أن "كل جندي أميركي أصبح هدفًا مشروعًا".
روسيا.. تحذير من انفجار إقليمي وفشل الحلول الدبلوماسيةموسكو، التي تحتفظ بعلاقات مع كل من طهران وتل أبيب، أبدت قلقًا بالغًا من الضربات الأميركية.
وقالت وزارة الخارجية الروسية إن “التدخل الأميركي في النزاع يمثل تصعيدًا خطيرًا قد يجر المنطقة إلى حرب شاملة".
وحذرت موسكو من أن "سياسات القوة والضربات الاستباقية لن تؤدي إلا إلى تقويض فرص الحل السياسي"، داعية إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن لبحث الوضع.
الصين: دعوة لضبط النفس وإعادة التفاوضأما بكين، فأعربت عن قلقها من "التطورات الميدانية الخطيرة"، ودعت إلى “ضبط النفس من جميع الأطراف، ووقف فوري للتصعيد”.
وأكدت وزارة الخارجية الصينية أن "المواجهة العسكرية لن تُنتج أمنًا مستدامًا، والحل الوحيد يكمن في العودة إلى المفاوضات"، معربة عن رفضها لأي استخدام للقوة خارج نطاق الشرعية الدولية.
الاتحاد الأوروبي.. انقسام وصوت مرتجفداخل الاتحاد الأوروبي، بدا الانقسام واضحًا بين دول تؤيد الموقف الأميركي، مثل بريطانيا وبولندا، ودول أخرى دعت إلى التهدئة، كفرنسا وألمانيا.
وقال الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إن "التدخل الأميركي يعقّد المشهد بشكل خطير، ويهدد بفتح جبهات جديدة في الإقليم"، مطالبًا بعقد مؤتمر دولي عاجل لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
فيما عبّرت بعض العواصم الأوروبية عن خشيتها من أن يؤدي التصعيد إلى موجة لجوء جديدة وانفجار في أسعار الطاقة.
الدول العربيةجاءت المواقف العربية متباينة وحذرة للغاية.السعودية والإمارات دعتا إلى "ضبط النفس وتجنب التصعيد"، مع التأكيد على "ضرورة حماية أمن الخليج واستقرار المنطقة."العراق ولبنان وسوريا عبرت أطراف سياسية فيها عن خشيتها من أن تتحول أراضيها إلى ساحات رد إيرانية ضد المصالح الأميركية.مصر والأردن دعتا إلى "وقف فوري للأعمال العدائية"، وعبّرتا عن دعم أي مسار دبلوماسي يُجنّب المنطقة الانزلاق نحو حرب شاملة.الأمم المتحدة: قلق ومخاوف من كارثة إقليمية
الأمين العام للأمم المتحدة أعرب عن "قلق بالغ" من التطورات الأخيرة، محذرًا من أن "التصعيد العسكري بين قوى إقليمية ودولية قد يفتح أبوابًا لا يمكن إغلاقها بسهولة."
ودعا إلى انعقاد عاجل لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الضربة الأميركية، وتفعيل الأدوات الدبلوماسية لاحتواء الأزمة.
الدخول الأميركي المباشر على خط الحرب بين إسرائيل وإيران لم يكن مجرد قرار عسكري، بل لحظة فارقة في توازنات الشرق الأوسط. وبين دعم غربي وتحذيرات شرقية، يجد العالم نفسه أمام أزمة متعددة المستويات: أمنية، سياسية، واقتصادية.
وما بين الخيارات المحدودة أمام إيران، والمخاوف العالمية من حرب لا يمكن التنبؤ بمداها، يبقى السؤال المطروح: هل تتحول الضربة الأميركية إلى شرارة لحرب كبرى، أم أنها ستكون صدمة تردع الجميع وتعيدهم إلى طاولة المفاوضات؟ الأيام المقبلة وحدها كفيلة بالإجابة.