د. أحمد يوسف **

 

في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، ساد اعتقاد واسع- تبنّاه المنظّر الأمريكي فرانسيس فوكوياما- بأن العالم قد دخل مرحلة "نهاية التاريخ"؛ حيث تتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي سياسيًا وعسكريًا، وتكرّس الليبرالية الغربية بوصفها النموذج المنتصر والأوحد للبشرية.

هذا التفرد الأمريكي لم يكن مُجرّد لحظة قوة عابرة؛ بل مشروع هيمنة ممتد، قام على مزيج من العسكرة، وتصدير القيم الغربية، والضغط الاقتصادي، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط.

غير أن الضربة الأمريكية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية- في ذروة التصعيد الإقليمي عقب السابع من أكتوبر 2023- تعكس ليس فقط توجهًا عدوانيًا في السياسة الخارجية الأمريكية، بل أيضًا ارتباكًا في بوصلة الهيمنة التقليدية، ومحاولة يائسة لاستعادة هيبة تتهاوى في زمن التحولات الجيوسياسية الكبرى.

الضربة العسكرية الأمريكية لا يمكن قراءتها في معزل عن البيئة الاستراتيجية المتغيرة؛ فبعيدًا عن الادعاءات المتعلقة بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، تكشف الضربة عن منطق "الردع الفوضوي" الذي تلجأ إليه واشنطن حين تشعر أن زمام السيطرة بدأ يفلت من يدها، في ظل صعود قوى مناوئة، وتنامي محور المقاومة الذي تتصدره طهران.

وشكَّل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحظة فاصلة في السياسة الأمريكية؛ فقد كان أول رئيس يرسم قطيعة حقيقية بين واشنطن والعالم؛ سواء عبر انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، أو تمزيقه لتحالفات عابرة للقارات، أو انحيازه الكامل لأقصى يمين المؤسسة الصهيونية. لقد بدأ ترامب كتابة الفصل الأول من نهاية التفرد الأمريكي، لا فقط عبر سلوك سياسي انعزالي، بل حين ربط شعاره "أمريكا أولًا" بشعار "إسرائيل أولًا"، في ازدواجٍ أضرّ بمصالح واشنطن وفتح أبواب المغامرة دون حساب.

كما وصف البروفيسور جيفري ساكس بدقة، فإن سياسة ترامب "تدور في فلك أجندة نتنياهو"، ما جعل من أمريكا لاعبًا تابعًا للرؤية الأمنية الصهيونية، لا صانعًا لمعادلات الاستقرار في المنطقة.

وفي العقود التي تلت سقوط الاتحاد السوفيتي، زرعت أمريكا قواعدها في الخليج، وفرضت نماذج حكم تابعة، واحتكرت أدوات الردع الإقليمي. غير أن انسحابها الفوضوي من العراق وأفغانستان كان كفيلًا بتقويض صورة "القوة التي لا تُهزم"، وأدى إلى حالة انكشاف أخلاقي واستراتيجي لمشروع الهيمنة.

وفي هذا الفراغ، برزت إيران كقوة صاعدة، تقود تحالفًا يضم فواعل من لبنان إلى اليمن، وتشكل حالة "تمرد سيادي" على التبعية الأمريكية، ما جعلها العدو الطبيعي لإسرائيل ومن يقف خلفها.

وقد شكَّل هجوم 7 أكتوبر 2023 لحظةً فاصلة في تاريخ الصراع، فقد ضربت المقاومة الفلسطينية العمق الإسرائيلي بطريقة لم تشهدها المؤسسة الأمنية الصهيونية منذ عقود.  لقد أصيبت أسطورة الردع بانهيار مُدَوٍ، وبدأت التساؤلات في الداخل الإسرائيلي: من نحن حقًا؟ وما مستقبلنا في هذه المنطقة؟ هنا، تدخلت أمريكا لإعادة التوازن، وأكدت مرة أخرى أن إسرائيل دون الدعم الأمريكي لا تساوي شيئًا.

لكن هذا التدخل، لم يضف إلى هيبة أمريكا، بل كشف اعتماد "الكيان الصهيوني" على حماية أجنبية، بما يقوّض أي أمل في قبوله كجزء طبيعي من المنطقة.

في المقابل، يُفاقِمُ صعود اليمين الديني المتطرف في إسرائيل الأزمة، إذ إن هذه الحكومة الإسرائيلية لم تعد تمارس احتلالًا عسكريًا فحسب، بل تمضي في مشروع إحلالي يستند إلى سرديات دينية متطرفة، ترسم للمنطقة مصيرًا كارثيًا إذا تُرك لها الحبل على الغارب.

للأسف، فبدلًا من كبح واشنطن جماح هذا التطرف، أصبحت شريكة فيه، وداعمة له عسكريًا وسياسيًا.

وعلى الرغم من التهديدات والضربات، تبدو إيران -بما تملكه من صلابة داخلية وحلفاء إقليميين- أقرب إلى البعث كقوة إقليمية فاعلة، من إسرائيل التي تستنزفها الحروب، وتخسر معركة القبول الشعبي، رغم كل اتفاقيات التطبيع التي تُفرض بالعصا الأمريكية.

فحتى لو تمَّ التطبيع مع بعض الأنظمة، تبقى الشعوب في المنطقة رافضة لهذا الكيان، وترى فيه كيانًا غريبًا قائمًا على النكبة والدمار، ولا مستقبل له في أي مشروع تعايش حقيقي بالمنطقة.

الضربة الأمريكية لإيران، وكل ما يرافقها من تبريرات، ليست سوى تأكيد أن منطق "شريعة الغاب" لا يزال يحكم النظام الدولي، ولكن بإحداثيات جديدة؛ لم تعد أمريكا اللاعب الأوحد، ولا العالم متفرجًا صامتًا؛ فالمعادلات تتغير، والأقطاب تتعدد، وما من ضربة تُشَن إلا وتفتح احتمالات جديدة للصراع... واليقين الذي يترسخ اليوم أكثر من أي وقت مضى، هو أن الهيمنة الأمريكية لم تعد قدرًا لا يُرد، ولا التفوق الإسرائيلي أمرًا لا يُمَس.

الأيام دول تتقلب في فلك يدور.. "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

 

** مستشار سابق لرئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

زيلينسكي يحث أمريكا على تكثيف ضغوطها على روسيا لوقف الحرب

حث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الأربعاء، واشنطن على تكثيف الضغوط على روسيا لإنهاء تدخلها وما تقول أنه عملية عسكرية لها على أوكرانيا خلال زيارة المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف إلى موسكو.

واعتبر زيلينسكي أنه من الضروري تعزيز جميع أدوات الولايات المتحدة وأوروبا ومجموعة الدول السبع حتى يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ فورًا. 

وذكر أن أوكرانيا “ترى الإرادة السياسية، وتُقدّر جهود شركائنا، وأمريكا، وكل من يُساعد”.

مستوطنون يهاجمون قوافل المساعدات والإغاثة المتجهة إلى غزةوزير الخارجية لـ نقيب الصحفيين: نقدر جهودكم في الدفاع عن القضايا والمصالح الوطنيةوزير الخارجية يتوجه إلى أثينا لبحث سبل تعزيز الشراكة الاستراتيجيةالجارديان ترصد الدمار الشامل بقطاع غزة.. صورجيش الاحتلال يزعم مقـ.تل عنصر من حزب اللهمصرع 4 في حادث سقوط طائرة بالجزائر


ووصل المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف إلى موسكو اليوم الأربعاء، حسبما ذكرت وسائل إعلام رسمية، حيث سيلتقي بالقيادة الروسية مع اقتراب الموعد النهائي الذي حدده دونالد ترامب لفرض عقوبات جديدة بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا.

وأعطى ترامب روسيا مهلة حتى يوم الجمعة لوقف حملتها العسكرية أو مواجهة عقوبات جديدة.

في غضون ذلك، أفاد مسؤولون أوكرانيون يوم الأربعاء بمقتل شخصين على الأقل وإصابة 10 آخرين خلال الليل في قصف روسي لمنطقة زابوريجيا.

ولم يحدد المصدر الأميركي ما إذا كانت اللقاءات ستشمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي التقى به ويتكوف عدة مرات في السابق.

وقال الكرملين في وقت سابق من هذا الأسبوع إنه لا "يستبعد" عقد اجتماع مع بوتين.

ورغم الضغوط التي تمارسها واشنطن، واصلت روسيا حملتها ضد جارتها الموالية للغرب.

فشلت ثلاث جولات من محادثات السلام في إسطنبول في تحقيق تقدم نحو التوصل إلى وقف إطلاق نار محتمل، حيث يبدو الجانبان متباعدين .

وطالبت موسكو أوكرانيا بالتنازل عن المزيد من الأراضي والتخلي عن الدعم الغربي.

وتدعو كييف إلى وقف فوري لإطلاق النار، بينما حرض  الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حلفاءه الأسبوع الماضي على الضغط من أجل "تغيير النظام" في موسكو.
 

طباعة شارك روسيا أوكرانيا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي واشنطن زيلينسكي الضروري الروسي فلاديمير بوتين

مقالات مشابهة

  • بالأرقام.. عدد الصواريخ التي أطلقتها البحرية الأمريكية للدفاع عن إسرائيل من الهجمات اليمنية
  • الحرب التجارية بين أمريكا والصين عقيمة
  • واشنطن تفرض عقوبات جديدة على إيران
  • بدء صيانة محطة أفاميا في حماة بعد توقف 14 عاماً لإعادة تشغيلها
  • في مواجهة محتملة .. ترامب يهدد بضربة عسكرية جديدة لإيران حال مواصلة برنامجها النووي
  • أكثر من 11 ألف ضحية للكراهية في 2024.. من يحمي الفئات المستهدفة في أمريكا؟
  • أمريكا التي عرفناها.. تنسرب من أيدينا
  • زيلينسكي يحث أمريكا على تكثيف ضغوطها على روسيا لوقف الحرب
  • الصحة الأمريكية تُصلح نظام زراعة الأعضاء الذي خان أمريكا.. كيف؟
  • جامعة ستانفورد الأمريكية تسرح أكثر من 360 موظفا