نشر موقع "المركز الروسي الإستراتيجي للثقافات" تقريرًا سلط خلاله الضوء على واقع الانتشار النووي العالمي والانعكاسات المحتملة للضربة الإسرائيلية على إيران على مستقبل النظام النووي الدولي.

وقال الموقع في تقريره الذي ترجمته "عربي21"، إن تل أبيب بررت عدوانها على إيران، والذي نُفذ ليلة 12 و13 حزيران/ يونيو، بادعاء أن طهران على وشك الشروع في إنتاج أسلحة نووية.

ووفقاً لهذا الطرح الإسرائيلي، فإن الهجوم جاء بمثابة "ضربة استباقية" تهدف إلى منع إيران من امتلاك هذا النوع من السلاح.

ويضيف الموقع أن هذه التطورات دفعت العديد من الخبراء إلى التحذير من أن العدوان الإسرائيلي على إيران قد يتصاعد إلى حرب كبرى في منطقة الشرق الأوسط، بل وربما يفتح الباب أمام اندلاع حرب عالمية ثالثة.

وأجبر هذا النزاع، الذي أشعلته إسرائيل ضد إيران، كثيرين على إعادة النظر في الوضع الراهن الذي يعيشه العالم بأسره، وما إذا كان يقف على حافة تحول خطير.

وتدفع هذه التطورات المتسارعة إلى طرح تساؤلات ملحة حول مدى تقدم انتشار الأسلحة النووية في العالم، وإمكانية تكرار سيناريوهات مشابهة في مناطق أخرى من الكرة الأرضية.

وتجدر الإشارة إلى أن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، التي دخلت حيز التنفيذ في الخامس من آذار/ مارس 1970، تضم اليوم 190 دولة من مختلف أنحاء العالم. وتنص المعاهدة على أن الدولة تُعتبر نووية إذا قامت بتصنيع وتفجير سلاح نووي أو جهاز تفجيري نووي قبل الأول من كانون الثاني/ يناير 1967. ووفقاً لهذا التعريف، فإن الدول النووية المعترف بها رسمياً هي: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وبريطانيا و فرنسا والصين، وهي الدول المعروفة باسم "الخمسة النووية".


اللافت أن هذه الدول الخمس هي نفسها التي تتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي بموجب ميثاق الأمم المتحدة. وتنص المعاهدة على التزام هذه الدول بعدم نقل أسلحتها النووية أو السيطرة عليها – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر – إلى أي طرف آخر، كما تُمنع من تقديم أي مساعدة إلى دول أخرى في تطوير أو إنتاج أسلحة نووية.

أما بقية الدول الأعضاء في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية فهي دول لا تمتلك أسلحة نووية، وقد تعهدت بموجب المعاهدة بعدم استلام أي سلاح نووي من أي جهة كانت، وعدم السعي إلى تطويره أو إنتاجه، كما تلتزم بعدم تلقي أي مساعدة في هذا المجال.

وتقع مسؤولية الرقابة على تنفيذ التزامات المعاهدة على عاتق الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهي هيئة تابعة لمنظومة الأمم المتحدة، تم تأسيسها في سنة 1957، وتضطلع بدور محوري في التحقق من الالتزام بالمعاهدة، وضمان الاستخدام السلمي للطاقة النووية.

ويذكر الموقع أنه رغم الأهداف الطموحة التي وضعتها، لم تنجح معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في وضع حد كامل لسباق التسلح في المجال النووي. فمنذ البداية، نصت المعاهدة على توصيات موجهة إلى "الخمسة النووية" تقضي بعدم مواصلة توسيع ترساناتها النووية، بل السعي إلى تقليصها تدريجيًّا إلى جانب الامتناع عن تطوير أسلحة نووية جديدة أو تحسين وسائل إيصالها. وعلى الرغم من أن العدد الإجمالي للرؤوس النووية في العالم قد شهد انخفاضاً ملحوظاً مقارنة بما كان عليه خلال الحرب الباردة، إلا أن بعض الدول – مثل الصين – تواصل زيادة عدد رؤوسها النووية.

إلى جانب ذلك، من التحديات الأساسية التي تواجه معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أنها لا تشمل جميع الدول الكبرى. فهناك ثلاث دول – إسرائيل والهند وباكستان – رفضت التوقيع على المعاهدة منذ البداية، وكل منها تمتلك أسلحة نووية. وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل لم تصدر حتى الآن أي إعلان رسمي بشأن ترسانتها النووية، لكنها تُعد على نطاق واسع دولة نووية بحكم الأمر الواقع. أما كوريا الشمالية، فقد كانت في السابق طرفاً في المعاهدة، لكنها انسحبت منها لاحقاً، وأعلنت امتلاكها للسلاح النووي، ما يضعها أيضاً خارج نطاق رقابة المجتمع الدولي في هذا المجال.

وتُوجَّه انتقادات متزايدة للولايات المتحدة بشأن مدى التزامها بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، لا سيما فيما يتعلق بانتشار ترسانتها النووية خارج أراضيها. فحتى اليوم، تحتفظ واشنطن بأسلحة نووية أمريكية في عدد من الدول الأوروبية، منها ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وتركيا إضافة إلى كندا. وتشير تقارير إلى إمكانية إعادة نشر هذه الأسلحة في المملكة المتحدة، بعد انقطاع منذ سنة 2008.

من الناحية القانونية، لا تحظر المعاهدة على دول "الخمسة النووية" نشر أسلحتها النووية خارج حدودها، بشرطين أساسيين: أولاً، ألا يتم نقل السيطرة على هذه الأسلحة إلى الدولة المستضيفة، وثانياً، ألا تُجرى على أراضي هذه الدول أي عمليات تطوير أو تحسين للأسلحة أو وسائل إيصالها.

وأفاد الموقع أن المشهد النووي العالمي لم يعد يقتصر على "الخمسة النووية" المعترف بها بموجب معاهدة عدم الانتشار، بل يضم اليوم، بحكم الأمر الواقع، أربع دول أخرى تمتلك أسلحة نووية، ليصل المجموع إلى تسع دول تُعرف اصطلاحاً بـ"النادي النووي".

ومع ذلك، يذهب مسؤولون في تل أبيب وواشنطن وبعض العواصم الأخرى إلى الحديث عن "العشرة النووية"، في إشارة إلى إيران، التي – على الرغم من أن تقارير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وحتى الاستخبارات الأمريكية أكدت عدم امتلاكها لسلاح نووي عشية الهجوم الإسرائيلي – فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب أصرّا على عكس ذلك.

ويعكس هذا الجدل التوتر الحاد بين التقييمات الفنية للجهات الرقابية الدولية وبين القرارات السياسية التي قد تستند إلى "نوايا مفترضة" بدلاً من أدلة قاطعة، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مصداقية النظام الدولي لعدم الانتشار والآليات المعتمدة فيه.

وفقاً لتصريحات طهران، فإن مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب لا يزال سليماً ومحفوظاً دون أضرار. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هناك نقاشات بين الخبراء والفنيين في مجال الأسلحة النووية حول المدة التي تحتاجها إيران لتحويل هذا المخزون إلى قنبلة نووية مكتملة.

 وتتفاوت تقديرات الخبراء بشكل كبير، فبعضهم يرى أن الأمر قد يستغرق سنوات، بينما يعتقد آخرون أن العملية قد تستغرق شهوراً فقط، فيما يذهب فريق ثالث إلى احتمال أن تكون المسافة بين إيران والقنبلة النووية مجرد أيام قليلة.


ووفقاً لبيانات الجمعية النووية العالمية، حتى آذار/مارس 2020، كانت حوالي 30 دولة تمتلك برامج نووية مدنية، تتراوح مراحلها بين التبني الرسمي والتنفيذ الفعلي. إضافة إلى ذلك، أعلنت نحو 20 دولة اهتمامها المتزايد بالطاقة النووية، مع خطط لاعتماد برامج نووية في المستقبل القريب.

ويعيد هذا الواقع إلى الواجهة تساؤلات حيوية حول مدى فعالية آليات المراقبة الدولية وفرص تحويل البرامج النووية السلمية إلى برامج تسليحية، في ظل استمرار توسع استخدام الطاقة النووية عالمياً.

وينقل الموقع تصريح سابق للأكاديمي الروسي البارز في مجال الفيزياء النووية، يفغيني أفرورين قال فيه "عندما أجرينا في المركز الفيدرالي النووي الروسي تحليلاً لمعرفة الدول التي يمكنها تصنيع أسلحة نووية، توصلنا إلى استنتاج مهم: اليوم، بإمكان أي دولة صناعية متقدمة أن تصنع السلاح النووي. كل ما يتطلبه الأمر هو قرار سياسي فقط. المعلومات متاحة بشكل كامل، ولا يوجد شيء مجهول. المسألة ببساطة تتعلق بالتقنية والاستثمار المالي المطلوب".

في هذا السياق، أورد محمد البرادعي، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية سنة 2005، تقييمًا حذرًا قائلاً: "يمكننا اليوم القول فعليًا إن هناك ما بين 30 إلى 40 دولة تمتلك القدرة المحتملة على تصنيع سلاح نووي خلال بضعة أشهر".

وبحسب تقديره، فإن الوقت اللازم لتخطي العتبة النووية والانضمام فعلياً إلى النادي النووي لا يتجاوز شهرين فقط، في حال اتخاذ القرار السياسي.

وأفاد الموقع أن هناك 15 دولة في العالم تملك مثل هذه القدرات، وهي حسب الترتيب الأبجدي: الأرجنتين والبرازيل وألمانيا وإيران وإسرائيل والهند والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا وكوريا الشمالية وباكستان واليابان وبلجيكا.

وتُظهر خارطة القدرات النسبية ما يلي: روسيا تمتلك 40 بالمئة من قدرات التخصيب العالمية تليها الولايات المتحدة بنسبة 20 بالمئة، ثم فرنسا بـ15 بالمئة. أما ألمانيا والمملكة المتحدة وبلجيكا مجتمعة فلديها نحو 22 بالمائة، بينما لا تتجاوز حصة بقية دول العالم مجتمعة 3 بالمئة.

وإذا ما استثنينا الدول التسع التي تُعد أعضاء فعليين في "النادي النووي"، فإن الدول المتبقية التي تملك قدرات تخصيب دون امتلاك سلاح نووي هي: الأرجنتين والبرازيل وألمانيا وإيران وبلجيكا واليابان.

وبحسب بعض التقديرات، هناك 43 دولة حول العالم تمتلك حالياً مخزونات من اليورانيوم عالي التخصيب، بينها 28 دولة تُصنف ضمن الدول النامية، ما يعكس اتساع دائرة القلق بشأن احتمالات الانتشار النووي في المستقبل القريب.

وبعد العملية العسكرية التي نفذتها إسرائيل ضد إيران في 13 حزيران/ يونيو، تلتها ضربات أمريكية استهدفت منشآت نووية إيرانية في 22 حزيران/ يونيو، بات معظم المحللين يجمعون على أن طهران ستُقدم على تجاوز ما يُعرف بـ"العتبة النووية".

إلى جانب إيران، تُدرج العديد من التحليلات المتخصصة عدداً من الدول الأخرى ضمن قائمة دول "العتبة النووية". من بين هذه الدول: اليابان وألمانيا وكندا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا والسويد وسويسرا والبرازيل والمكسيك والأرجنتين وكوريا الجنوبية وتايوان وإندونيسيا والسعودية وجنوب إفريقيا.

ويُعتقد أن بعض هذه الدول أقرب من غيرها إلى امتلاك السلاح النووي. فعلى سبيل المثال، كثيراً ما تُوصَف اليابان بأنها "على بُعد خطوة" من إنتاج قنبلة نووية، في إشارة إلى مدى تطور بنيتها التحتية النووية ومستوى خبرتها التكنولوجية وامتلاكها كميات كبيرة من البلوتونيوم المدني. أما ألمانيا، فيُنظر إليها على أنها أبعد نسبياً. ويرجع ذلك إلى قرارها السياسي القاضي بإغلاق جميع محطاتها النووية، حيث خرجت أخر ثلاث محطات من الخدمة قبل ثلاث سنوات فقط، في سياق التوجه نحو الطاقة الخضراء. وبذلك، تكون برلين قد فقدت إحدى الركائز الفنية الأساسية التي قد تُمكنها من تطوير برنامج عسكري نووي مستقبلي.

ويشير الموقع إلى أنه في سنة 2020، وخلال افتتاح محطة الطاقة النووية البيلاروسية، صرّح الرئيس لوكاشينكو بوجود 200 كيلوغرام من البلوتونيوم العسكري داخل المجمع النووي الفيزيائي المعروف باسم "يالينا". وإذا ما صحّت هذه المعلومة، فإنها تعني امتلاك بيلاروسيا قاعدة مادية محتملة لتطوير سلاح نووي محلي. ومع ذلك، لم تُرصد منذ ذلك الحين أي إشارات رسمية أخرى أو معلومات إضافية حول هذا البلوتونيوم أو نوايا بيلاروسيا بشأنه.

من جانبها، تمتلك أنقرة منشأة لتخصيب اليورانيوم، وتُبدي نشاطاً متزايداً في مجال الطاقة النووية السلمية، ما يراه بعض الخبراء ستاراً محتملاً لتطوير برنامج نووي ذي طابع عسكري.

الجدير بالذكر أن مشروع بناء محطة الطاقة النووية "أكويو " في تركيا، والذي تتولى تنفيذه مؤسسة "روس آتوم" الروسية، قد شارف على الاكتمال. وتعتزم أنقرة، وفق تصريحات رسمية، تزويد المحطة باليورانيوم من مصادرها الخاصة، مع احتفاظها بالوقود النووي المستنفد داخل أراضيها، ما يفتح الباب أمام امتلاكها لمواد انشطارية قابلة للاستخدام العسكري مستقبلاً.

وفي ختام التقرير نوه الموقع بأن  الهجوم الإسرائيلي على إيران غيّر المعادلة، ودفع ليس فقط طهران، بل أيضاً العديد من الدول  إلى إعادة التفكير في امتلاك سلاح نووي.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية العالمي الإسرائيلية إيران الدول النووية إيران إسرائيل العالم الدول النووية صحافة صحافة صحافة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النوویة الطاقة النوویة المعاهدة على أسلحة نوویة على إیران الموقع أن هذه الدول سلاح نووی نوویة فی من الدول دولة ت التی ت

إقرأ أيضاً:

أبو القنبلة النووية الأمريكية والإسرائيلية.. ماذا تعرف عن روبرت أوبنهايمر؟

يتمحور فلم "أوبنهايمر"، الذي عرض عام 2023، حول ملحمة سباق الذرة العلمية في القاعدة السرية في لوس ألاموس (ولاية نيو مكسيكو)، حيث انكب علماء وعسكريون أعضاء في “مشروع مانهاتن” في خضمّ الحرب العالمية الثانية على الانتهاء من القنبلة قبل النازيين،  ويتناول الفيلم الذي تبلغ مدته ثلاث ساعات المحطات الرئيسية في حياة الفيزيائي روبرت أوبنهايمر (1904 – 1967) الذي طبع تاريخ الولايات المتحدة والقرن العشرين، وساهم في إدخال العالم عصرا جديدًا هو العصر النووي.

Oppenheimer (2023) is Nolan at his most ruthlessly precise. Three hours that move with the momentum of a thriller, every scene sharpened to purpose. Not a wasted beat anywhere, just immaculate craft driving a story that never loosens its grip.
pic.twitter.com/CYwm8bU5MC https://t.co/cA33YqccJK — cinesthetic. (@TheCinesthetic) December 11, 2025
"الآن جاء دورك لمواجهة عواقب إنجازك"، جملة وردت في الفلم، قالها أينشتاين لزميله روبرت أوبنهايمر في واحد من أبرز المشاهد الختامية لـ"أوبنهايمر" الذي يحكي كيف أصبح الأخير "أبا" القنبلة الذرية في أربعينيات القرن الماضي من خلال ترؤسه مشروع الحكومة الأمريكية الذي أطلق عليه اسم "مشروع مانهاتن".

من هو روبرت أوبنهايمر؟
هو عالم فيزيائي يهودي أمريكي من أصول ألمانية، ولد عام 1904، وتوفي عام 1967. أشرف على مشروع إنتاج القنبلة النووية الأمريكية التي ألقيت على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين (سمي مشروع "لوس ألاموس")، ولقب بألقاب عدة منها "أبو البرنامج النووي الأمريكي" و"أبو القنبلة الذرية".



المولد والنشأة
ولد جوليوس روبرت أوبنهايمر يوم 22 نيسان/أبريل 1904 بمدينة نيويورك الأميركية، ونشأ في كنف عائلة يهودية علمانية تنحدر من بلدة هاناو الألمانية، هاجرت أواخر القرن الـ19 إلى الولايات المتحدة وتبنت تقاليد سكانها وأفكارهم، كان والده جوليوس ثريا وتاجرا للنسيج والأقمشة، وعضوا في جمعية "الثقافة الأخلاقية"، أما والدته إيلا فريدمان فكانت رسامة مشهورة.

تزوج أوبنهايمر عام 1940 زميلته الناشطة في الحزب الشيوعي الأمريكي كاثرين كيتي بيونينغ، وجلب له هذا الزواج اتهامات بالعمالة مع ما كان يعرف آنذاك بالمعسكر الشيوعي، في إشارة إلى دول شيوعية كانت معادية للولايات المتحدة، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي.



منذ صغره، كان روبرت أوبنهايمر عبقريًا، لكنه خجول يميل إلى العزلة، لم تكن دراسة الفيزياء ضمن أولوياته العلمية في بداية شبابه، جال بين اختصاصات عدة، بينها الأدب الإنجليزي والفرنسي والكيمياء والفلسفة اليونانية والهندوسية، ليستقر لاحقا في دراسة الفيزياء النووية التي قادته ليصبح "المكافئ الموضوعي للموت.. مدمر العوالم"، حسب تعبيره.

"أصبحت الموت.. أصبحت محطم العوالم".
منذ عام 1942، أشرف أوبنهايمر -الرجل الذي لا يستطيع إدارة محل همبرغر على حد قول الجنرال ليزلي غروفز- بكفاءة على مختبر لوس آلاموس الشديد السرية في صحراء نيو مكسيكو، ونفّذ تجربة ترينيتي "trinity" (الثالوث)، 

بينما كانت سحابة الفطر الهائلة ترتفع جراء إلقاء قنبلتي "الولد الصغير" و"الرجل البدين" الذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين يومي السادس والتاسع من آب/أغسطس 1945، لم يصدق أوبنهايمر وهو على بعد كيلومترات من نقطة التفجير، قوة التدمير الهائلة التي تولدت، يذكر لاحقا كيف انتابته أول وخزة ضمير، وبدأ يردد بعض العبارات من نص "بهاغافادا غيتا" الهندوسي: "الآن أصبحت الموت، أصبحت محطم العوالم".

بدا أول الأمر مبتهجًا بالإنجاز العلمي الأبرز في التاريخ، لكن في الأيام التالية يروي أصدقاؤه أنه أصبح شديد الاكتئاب، وكان يردد أحيانا بصوت عال: "هؤلاء الفقراء الصغار، هؤلاء الفقراء الصغار"، في إشارة إلى الضحايا اليابانيين والأهوال التي تسببت بها القنبلتان.

ارتباطات بالنووي الإسرائيلي
يعد روبرت أوبنهايمر من أوائل العلماء اليهود الذين هرولوا إلى دولة الاحتلال بعد إعلان تأسيسها عام 1948، للمشاركة في وضع اللبنات الأولى لبرنامجها النووي، وكشفت محاضر اجتماعات وزيارات وخطابات موثقة في مكتبة رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون وزعيم الصهيونية العالمية حاييم وايزمان أن أوبنهايمر دعم المشروع النووي الإسرائيلي، حتى قبل تأسيس إسرائيل إبان نكبة عام 1948.

ففي عام 1947، اجتمع مع ألبرت آينشتاين ووايزمان بمعهد الدراسات المتقدمة في برينستون بولاية نيوجيرسي الأمريكية، بهدف استكشاف إمكانية تطوير مفاعل نووي في إسرائيل قبل تأسيسها، لكن أوبنهايمر رأى صعوبة تحقيق ذلك.

وفي عام 1952، اجتمع مع بن غوريون لاستكشاف إدارة احتياطات إسرائيل من البلوتونيوم، وفي أيار/مايو 1958، شارك في افتتاح قسم الفيزياء النووية بمعهد وايزمان للعلوم في إسرائيل، وألقى خطابًا أشاد فيه بالمعهد وقال إنه "مركز مستقبلي للعلماء في أنحاء العالم".

وأثناء الزيارة اجتمع به بن غوريون وقال عنه "لمست لدى أوبنهايمر شرارة يهودية وجوهرا يهوديا أصيلا وتشجيعا على سعي إسرائيل للخيار النووي"، وبعدها بـ7 سنوات عاد إلى دولة الاحتلال لحضور اجتماع إدارة معهد وايزمان، الذي اختاره وقتئذ زميلًا فخريا وعضوا في مجلس إدارته.

زميلان مقربان برؤى مختلفة
في فيلم "أوبنهايمر"، يظهر أينشتاين في المرحلة الأخيرة من حياته، عندما كان يعمل هو وأوبنهايمر بمعهد برينستون للدراسات المتقدمة، حيث شغل الأخير منصب مدير المعهد بين عامي 1947 و1966، ورغم أن أينشتاين وأوبنهايمر كانا من أهم العلماء في ذلك الوقت، لكن كانت هناك اختلافات مهمة بينهما، فيما يتعلق بفهم كل منهما للفيزياء وبالطريقة التي كان يعتقد أحدهما أن باستطاعته خدمة العالم – أو إيذائه، وفي مؤتمر عقد في باريس عام 1965 بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لرحيل أينشتاين، قال أوبنهايمر: "لقد كنا زميلين مقربين وكنا إلى حد ما صديقين". وفق تقرير لشبكة "بي بي سي".



حياتان متوازيتان
عندما تخرج الشاب روبرت أوبنهايمر وتخصص في الفيزياء النظرية في عشرينيات القرن الماضي، كان أينشتاين قد فاز بالفعل بجائزة نوبل للفيزياء، كما كان شخصية مهمة في وسط العلم والعلماء، بفضل نظرية النسبية العامة التي صاغها عام 1915، وغيرها من الأعمال التي أثرت على عالم الفيزياء الأمريكي.

وسط الاضطهاد المتزايد لليهود في ألمانيا، غادر أينشتاين أوروبا واستقر في برينستون بولاية نيو جيرسي عام 1932، حيث واصل أبحاثه، وبعد عدة سنوات، وتحديدًا في آب/أغسطس عام 1939، وقع أينشتاين على خطاب موجه إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين دي روزفلت، نبه فيه البيت الأبيض إلى أن ألمانيا قد تطور قنبلة ذرية نتيجة للتقدم العلمي الذي أحرزته تلك الدولة الأوروبية في مجال الانشطار النووي لليورانيوم، ويعتقد أن ذلك أدى إلى البَدْء في مشروع مانهاتن، والذي عينت الحكومة الأمريكية بموجبه أوبنهايمر رئيسًا له عام 1942، وكان حينها واحدًا من أبرز العلماء في ذلك المجال.

بسبب أصوله الألمانية.. استبعاد أينشتاين من المشروع
وفقا للعديد من المصادر، لم يتم إشراك أينشتاين، الذي كان يبلغ من العمر 64 عاما آنذاك، في المشروع بسبب أصوله الألمانية وأفكاره اليسارية، لكن المفاهيم المختلفة لنظريات الفيزياء بينه وبين أوبنهايمر كان لها أثر هي الآخرى على ذلك القرار.

يقول كل من كاي بيرد ومارتين جاي شِروين في كتابهما الذي يروي سيرة حياة أوبنهايمر: American Prometheus: The Triumph and Tragedy of J. Robert Oppenheimer (الذي يستند إليه فيلم كريستوفر نولان) إن عالم الفيزياء الأمريكي كان ينظر إلى أينشتاين بوصفه "قديسًا حيا راعيا للفيزياء، وليس كعالم منخرط في العمل والبحث".

هل شارك أينشتاين في ابتكار القنبلة النووية؟
مع بدء مشروع مانهاتن، يصور الفيلم أوبنهايمر كعالم تساوره شكوك بشأن مدى وحجم الأثر الذي قد يحدثه تفجير قنبلة ذرية كتلك التي كان يعكف على تطويرها، يذهب العالم الأمريكي لاستشارة أينشتاين، بيد أن ذلك لا يعدو كونه من نسج خيال المخرج، لأن تلك الحوارات التي تظهر في الفيلم لم تجر على أرض الواقع.

يشرح المخرج نولان في حوار مع صحيفة ذا نيويورك تايمز، قائلًا: "من بين الأشياء التي غيرتها هي أن أوبنهايمر لم يستشر أينشتاين في ذلك الأمر، بل استشار أرثر كرومبتون الذي كان يدير فرع مشروع مانهاتن بجامعة شيكاغو"، وأضاف نولان: "لكن أينشتاين هو الشخصية التي يعرفها الجمهور".

ومع عمل أوبنهايمر بين عامي 1943 و1945 في مختبر لوس ألاموس في ولاية نيو مكسيكو، على بعد آلاف الكيلومترات من برينستون، إلا أنه ليس واضحًا ما إذا كان الفيزيائي الأمريكي قد عقد أي اجتماعات أو مشاورات مع أينشتاين.

لكن في عام 1965، علق أوبنهايمر نفسه على مزاعم أن أينشتاين أسهم بطريقة ما في ابتكار سلاح الدمار الشامل ذاك، حيث قال في مؤتمر باريس الذي عقد في ذلك العام: "مزاعم أنه شارك في ابتكار القنبلة الذرية، في رأيي، خاطئة"، ويرى أوبنهايمر أن الخطاب الذي أُرسل في عام 1939 إلى الرئيس روزفلت للفت انتباهه إلى قدرات ألمانيا على تطوير قنبلة ذرية لم يكن له تأثير يذكر على الحكومة الأمريكية.

"مشكلة أخلاقية"
بعد الاختبار الناجح الذي أجري على أول قنبلة ذرية، واجه أوبنهايمر مشكلة أخلاقية تتمثل في استخدام أعماله في صنع سلاح دمار شامل، وليس فقط على سبيل التهديد، كما تبين من خلال تفجيري هيروشيما وناغازاكي عام 1945، حيث أدان العديد من العلماء، ومن بينهم أينشتاين وسيلارد وغيرهما  إلقاء قنابل ذرية على مدن يابانية، إذ اعتبروا أن البلاد كانت بالفعل قد هُزمت جزئيًا.

يحاول أوبنهايمر في فيلم نولان إقناع حكومة واشنطن بالحاجة إلى الحد من استخدام التقنية التي طورها، لكن السياسيين ينقلبون عليه ويثيرون علامات استفهام حول علاقته السابقة بالشيوعيين، ويعتبرون أنه يشكل خطورة على الأمن القومي، وهو ما يضطره إلى الإدلاء بشهادته أمام لجنة حكومية.

أينشتاين يصف أوبنهايمر .. "إنه أحمق"
يروي بيرد وشِروين في كتابهما أن أينشتاين أخبر أوبنهايمر بأنه "لا ينبغي أن يواجه حملة شرسه لأنه خدم بلاده بشكل جيد"، وفق محادثة كانت فيرنا هوبسون سكرتيرة عالم الفيزياء الأمريكي شاهدة عليها، وقال له أينشتاين: "إذا كانت هذه هي المكافئة التي تعرضها عليك الولايات المتحدة، ينبغي أن تدير ظهرك لها".

غير أن هوبسون زعم أن أوبنهايمر "كان يحب أمريكا"، وأن حبه لها كان "عميقًا كحبه للعلم"، وقال أوبنهايمر لهوبسون إن "أينشتاين لا يفهم ذلك"، كان العالم الحاصل على جائزة نوبل يرى أن أوبنهايمر لا ينبغي أن يتوقع الكثير من واشنطن، وقد أخبر سكرتيرته، مشيرًا إلى أوبنهايمر بإصبعه بعد تلك المحادثة: "إنه أحمق"، وفق بيرد وشِروين.

دعا لحظر استخدامه.. سلاح سيقتل الملايين في العالم
ومن منصبه في هيئة الطاقة الذرية، حذر من تطوير الأسلحة النووية، وقال إن "استخدامها قد يؤدي إلى عواقب وخيمة"، وشجع على الرقابة الدولية على استخدام الطاقة النووية، ودعا إلى تقييد العمل بها، وحث أيضا الولايات المتحدة على تأجيل تجربتها الأولى للقنبلة الهيدروجينية، والسعي إلى حظر التجارب النووية الحرارية مع الاتحاد السوفياتي، لأن هذا السلاح سيؤدي إلى ملايين القتلى في العالم عند استخدامه، وبسبب عدم استجابة الولايات المتحدة لنداءاته ومضيها في مشروع القنبلة الهيدروجينية، انسحب أوبنهايمر من جميع مناصبه وتفرغ لإدارة معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون.

مقالات مشابهة

  • مفاعل نووي في فرنسا يصل لطاقته الكاملة لأول مرة منذ ربطه بالشبكة
  • أبو القنبلة النووية الأمريكية والإسرائيلية.. ماذا تعرف عن روبرت أوبنهايمر؟
  • جروسي يدعو لضبط النفس في الحرب الروسية الأوكرانية لتجنب وقوع حوادث نووية
  • مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية يحذر من حوادث نووية محتملة في الحرب الأوكرانية
  • الوكالة الدولية الذرية: من الضروري ضبط النفس لتجنب وقوع حادث نووي
  • "لغز نووي" في استراتيجية ترامب.. تجاهل قد يكلف أميركا كثيرا
  • في دهوك.. مخبز صغير يصنع مستقبلاً كبيراً لنازحين من سنجار
  • غنائم الانسحاب.. وثائقي للجزيرة يكشف حجم الأسلحة الأميركية التي استولت عليها طالبان
  • السلاح.. صناعة للموت وإبادة للشعوب
  • ما تأثير إلغاء قانون قيصر على الاقتصاد السوري مستقبلا؟