شكّلت العبودية في الأمريكيتين واحدة من أبشع الظواهر في التاريخ البشري، حيث تم اقتلاع الملايين من الأفارقة من أوطانهم ونقلهم قسراً إلى العالم الجديد للعمل في ظروف لا إنسانية. في قلب هذا الظلام، برزت قصص مقاومة وصمود، كان من أبرزها دور المسلمين من غرب إفريقيا الذين لم يحملوا معهم فقط أجسادهم المقيدة بالسلاسل، بل أيضاً تراثاً دينياً وثقافياً غنياً.

فقد أسهم هؤلاء المسلمون، رغم القمع والعزل، في إذكاء روح التمرد وقيادة حركات مقاومة ضد نظام الاستعباد، مستندين إلى قيم الإسلام وتقاليده الجهادية التي شكلت مصدر إلهام وأداة تنظيم في وجه الظلم. هذه المقدمة تمهد لفهم أعمق للعلاقة بين الدين، والهوية، والتحرر، كما يستعرضها داود عبد الله في دراسته المعمقة.

في كتابه الجديد "الإسلام، العِرق والتمرّد في الأمريكيتين: أصداء الجهاد في غرب إفريقيا عبر الأطلسي"، "Islam, Race and Rebellion in the Americas: Trans-Atlantic Echoes of the West African Jihads"، يقدم الباحث داود عبد الله قراءة معمقة وجديدة لتاريخ العبيد المسلمين في الأمريكيتين، ويفتح نافذة على جانٍ تاريخي ظلّ مهمّشاً، وهو دور الإسلام وجهاد غرب إفريقيا في تحفيز التمردات والثورات ضد نظام العبودية القاسي.

تبدأ مقدمة الكتاب بتسليط الضوء على فظاعة العبودية من نوع العبودية المطلقة (Chattel Slavery) التي شهدتها الأمريكيتين والكاريبي، حيث تم اعتبار الأفارقة عبيداً بأبشع صور التجريد من الإنسانية، حيث وُصفوا بألقاب مهينة مثل "حمير السكر" و"عبيد القطن". ويبرز الكتاب كيف أن التاريخ الثقافي والفكري لحركات الجهاد في غرب إفريقيا أثر بعمق على العبيد المسلمين الذين تم نقلهم إلى العالم الجديد، مؤكداً أن الأفكار والصراعات التي كانت سائدة في مجتمعات غرب إفريقيا انتقلت معهم عبر الأطلسي.

يرى المؤلف أن الإسلام في الأمريكيتين لم يكن مجرد بقايا ثقافية أو طقوس عابرة، بل كان حركة فكرية وسياسية متواصلة، دافعاً مركزياً للمقاومة والتمرد، حافظ على هوية السود في مواجهة الاستعباد والاضطهاد، وأسهم في تغيير مجرى التاريخ نحو الحرية.يناقش الكتاب جدلية مركزية في الدراسات المتعلقة بالعبودية، بين من يرى أن العبودية كانت نتاجاً اقتصاديًا في المقام الأول، كما قال إريك ويليامز، وبين من يعتبر العبودية ظاهرة عنصرية بحتة كما ترى الصحفية الأمريكية نيكول هانا-جونز، ويبين أن الإسلام لم يكن مجرد دين بل أداة ثقافية وسياسية عززت مقاومة العبيد وواجهت نظام العبودية الظالم.

يتناول الكتاب كذلك الخلفية التاريخية للعبودية عبر الأطلسي، حيث كانت البرتغال أول من استخدم العبيد من غرب إفريقيا في أوروبا، مستندة إلى مبررات دينية وسلطوية عبر وثائق بابوية، مستعرضاً كيف استمرّ الصراع بين المسيحية والإسلام حتى في المستعمرات الجديدة، مع وجود مشاعر عداء عميقة لدى البرتغاليين تجاه المسلمين، تم نقلها إلى البرازيل وأماكن أخرى.

يبرز دور العبيد المسلمين في الثورات التي شهدتها مناطق مثل باهيا البرازيلية (1835)، حيث قادوا تمرداً مسلحاً مستوحى من تعاليم الإسلام، مستعينين بالعربية والمساجد كوسائل تعبئة، في دلالة واضحة على التماسك الثقافي والروحي رغم القسوة.

ويُبيّن الكتاب أن العلاقة بين العبيد وأسيادهم في الأمريكيتين كانت توتراً مستمراً، تغذيه جذور تاريخية تعود إلى الحروب الصليبية والصراعات الإسلامية–المسيحية في العصور الوسطى. وأن المسلمين الذين تم استعبادهم لم يستسلموا أبداً، بل حافظوا على هويتهم الدينية والثقافية، وكانوا مستعدين للموت في سبيل الحرية، معتمدين على فكرة الشهادة في الإسلام.

تستعرض الفصول المتقدمة جذور الجهاد في غرب إفريقيا، وكيف ألهمت حركات مثل جهاد الشيخ عثمان دان فوديو في نيجيريا الثورات في الأمريكيتين، وتناقش الاختلافات الدقيقة في ممارسات العبودية بين المستعمرات الإسبانية والإنجليزية، لا سيما في كيفية تعاطي العبيد مع اللغات والثقافات الأوروبية، حيث حافظ المسلمون على تعلمهم للعربية كأداة تواصل سرية.

يؤكد الكتاب أيضاً على أن أثر هذه الثورات لم يتوقف عند مجرد مقاومة العبودية، بل شكل الأساس لنشوء حركات العودة إلى أفريقيا، ومهد لظهور حركات البان أفريقي والعودة إلى الجذور، وظهور تيارات إسلامية جديدة في الشتات الأمريكي في القرن العشرين، مثل "معبد العلوم الموريسكي" و"أمة الإسلام" والحركات الحقوقية.

ويرى المؤلف أن الإسلام في الأمريكيتين لم يكن مجرد بقايا ثقافية أو طقوس عابرة، بل كان حركة فكرية وسياسية متواصلة، دافعاً مركزياً للمقاومة والتمرد، حافظ على هوية السود في مواجهة الاستعباد والاضطهاد، وأسهم في تغيير مجرى التاريخ نحو الحرية.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتابه بريطانيا كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الأمریکیتین غرب إفریقیا

إقرأ أيضاً:

عالم بالأزهر يوضح مفهوم الوسطية في الإسلام (فيديو)

كشف الشيخ أحمد المشد، عضو مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، عن مفهوم الوسطية في الإسلام، موضحًا أن الوسطية تعني أن يكون المسلم متوازنًا لا يميل إلى الغلو أو التشدّد، وفي الوقت نفسه لا ينحرف نحو الانفلات أو عدم الالتزام، مشيرًا إلى أن الأمة الإسلامية ميزتها أنها أمة وسط بين طرفين، تمارس دينها دون عداء مع الحياة ومع الآخرين، وتستفيد من نعم الله ونتائج جهود البشر بما لا يخالف الشريعة.

«الرواق الأزهري بالسويس.. رسالة متجددة لخدمة الطفل والمرأة والشباب وتعزيز الهوية الوسطية» "خريجي الأزهر" بالهند تنظم لقاءً توعويًّا حول دور الأزهر في نشر الوسطية الوسطية تشمل فهم الدين بشكل صحيح 

وأضاف أحمد المشد خلال لقائه مع محمد جوهر وأحمد دياب ببرنامج "صباح البلد" المذاع على قناة صدى البلد، أن الوسطية تشمل فهم الدين بشكل صحيح بحيث يكون الإنسان متدينًا وملتزمًا، لكنه في الوقت نفسه متفاعل مع مجتمعه ومستفيد من الكون الذي خلقه الله، مشددًا على أن الالتزام الديني لا يعني التعالي أو منع الاستفادة من الأشياء الطيبة في الحياة، بل يجب التمييز بين ما أحله الله وما حرمه، مع توخي الحذر من الفهم الخاطئ الذي قد يستغل رغبة الإنسان في التقرب إلى الله لتقديم صورة مشوهة عن الدين.

التمييز بين الطيب والخبيث 

وأوضح المشد أن فهم الوسطية يعني أن يكون الإنسان واعيًا لهدفه في الحياة ووظيفته في هذا الكون، وأن يتعامل مع الدنيا بصدر مفتوح مستفيدًا من كل ما هو طيب، ومتجنبًا ما حرم الله، مستشهدًا بالآية الكريمة: "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ"، مؤكدًا أن التمييز بين الطيب والخبيث هو أساس الفهم الصحيح للدين، وأن على المسلم أن يحذر من أي تفسير خاطئ يستغل رغبته في الاقتراب من الله لتحقيق مآرب شخصية أو لتقديم صورة مغلوطة عن التعاليم الدينية.

مقالات مشابهة

  • كيف أرشد الإسلام لأهمية اختيار الصديق؟.. الأزهر يوضح
  • المرء على دين خليله.. حسن الصحبة في الإسلام وأهمية اختيار الصديق
  • هل الإسلام أقر بمكارم الأخلاق بين الزوجين؟
  • تعرف على شرح حديث "قل آمنت بالله ثم استقم"
  • منظمة الصحة تطلق مكتبة تضم 1.6 مليون كتاب رقمي في الطب التقليدي
  • حوار الوفد مع العشماوي عن وظيفة الرؤى والكرامات في الإسلام
  • هل حرم الإسلام التعصب بكل أشكاله وصوره
  • عالم بالأزهر يوضح مفهوم الوسطية في الإسلام (فيديو)
  • أحمديات: مملكة النمل تتحدث عن البشر
  • أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد