طريق النهضة.. التعليم والثقافة «خارطة الثقافة»
تاريخ النشر: 8th, July 2025 GMT
تناولت في مقالي السابق المعالم الرئيسة لخارطة التعليم التي ينبغي أن تسبق النظر في أية تفاصيل إجرائية للعملية التعليمية، والتي من دونها لا يمكن تحقيق نهضة حقيقية في التعليم؛ ومن ثم في نهضة الدولة التي تسعى إلى اللحاق بركب الدول المتقدمة. وعلى نفس المنوال سوف أتناول هنا خارطة الثقافة. والواقع أنه من الشائع في عالمنا العربي النظر إلى الثقافة باعتبارها أمرًا ثانويًّا في طريق النهضة، رغم أنها ما يشكل الهوية والوجود الإنساني في هذا العالم.
ولا شك في أن الثقافة بمعناها الواسع الذي يشمل كل ما يخص وعي الناس، ورؤيتهم للعالم، وأساليبهم في العيش والحياة. تتشكل ثقافة الشعوب على مر التاريخ، وتتعرض لفترات من النكوص وأخرى من الازدهار، ويسهم في تشكيلها الوعي الديني السائد، والإبداع في الفكر والفنون والآداب، فضلًا أجهزة الإعلام التي يكون لها تأثير قوي على ثقافة الناس.
ومع ذلك فإن التعليم الجيد يظل له التأثير الأكبر على نهضة الثقافة؛ لأن التعليم هو الذي يسهم في الارتقاء بسائر المجالات الثقافية الواسعة، فلا يمكن تصور أية نهضة ثقافية من دون نهضة في التعليم. لقد ناقشنا الشروط الأولية لجودة التعليم في المقال السابق، فما الشروط أو المعالم الأولية (بخلاف جودة التعليم) التي ينبغي أن تتحقق لإمكان قيام نهضة ثقافية حقيقية؟
يشكل التراث المادي وغير المادي جانبًا جوهريًّا من الثقافة، والذي نشير إليه دائمًا بعبارة «الموروث الثقافي» باعتباره جزءًا أصيلًا من الهوية، ومع ذلك فإن الثقافة ليست مرادفة للتراث، أو لنقل بعبارة أكثر دقة: إن الثقافة لا ينبغي اختزالها في التراث؛ لأن الثقافة تتشكل بفعل عناصر أخرى عديدة غير التراث، كالإبداع في الفنون والآداب وغيرها. ولذلك فإن الثقافة -ومن ثم الهوية- تتطور باستمرار، ولا تكمن في لحظة ماضوية ما، وهي في تطورها، وانتقالها إلى ما هو متجدد تُبقي على شيء من الماضي أو التراث.
ومع ذلك؛ فلا شك في أن هناك لحظات تألق لهذا التراث أنتجت إبداعات عظيمة على الأصعدة كافة. وهي إبداعات لا ينبغي فحسب الحفاظ عليها، وإنما أيضًا جعلها موصولة في الحاضر، واستلهام الشروط التي أنتجتها. إحياء الموروث الثقافي هو ما يمنح شخصية ما لثقافة شعب ما.
غير أن تواصل الإنتاج الثقافي يتطلب تحقق شروط عملية في الحاضر، ومن أهمها نشأة حركة ترجمة قوي؛ فالترجمة هي الأداة المباشرة في نهوض ثقافة شعب ما من خلال الانفتاح المعرفي على ثقافات الشعوب المتقدمة فيما يتعلق بالمعارف العلمية، ومجالات الفكر، والإبداع في الفنون والآداب.
ولنا في التاريخ عبرة لاسيما تاريخ حضارتنا؛ فالثقافة العربية قد ازدهرت بفعل حركة ترجمة قوية عن اليونانية والفارسية والسريانية؛ إذ كانت الدولة تُولي الترجمة أهمية كبيرة، حتى إن مكافأة الكتاب المترجم كانت تعادل وزنه ذهبًا! وبعد سكون طويل للحضارة - ومن ثم للثقافة- العربية لاحت حركة ترجمة مع النهضة المصرية في عصر محمد علي الذي أوفد البعثات الدراسية إلى البلدان الأوروبية المتقدمة.
وقد عاد هؤلاء المبعوثون؛ لينقلوا لنا معارف هذه البلدان، وعلومها، وفنونها، وآدابها، وهو ما أدى إلى حالة تلاقح ثقافي خصب ومثمر. ولعل الشيخ رفاعة الطهطاوي يعد أبرز رواد حركة الترجمة في مشروع النهضة العربية الحديثة. وعلى الرغم من تواصل جهود الترجمة في العالم العربي؛ إلا أنها في النهاية تعد جهودًا فردية في معظمها. وقلما نجد مؤسسات قومية مكرسة برمتها لحركة ترجمة قوية، وحتى المركز القومي للترجمة بمصر لم يقم أبدًا بدور المشروع القومي للترجمة كما كان يُسمى عند إنشائه، وقد تراجع دوره تدريجيًّا؛ بسبب معوقات مالية ولوجستية، وغير ذلك.
لكن أية نهضة ثقافية -شأنها شأن أي نهضة في التعليم- لا يمكن أن تتحقق من دون رعاية الدولة للثقافة؛ لأن نهضة الثقافة والتعليم ينبغي أن تكون مشروعًا قوميًّا حقيقيًّا للدول الساعية لأن تكون حاضرة في مشهد الحضارة العالمية الراهنة. غير أن رعاية الثقافة لا يكون فقط من خلال دعم الدولة للإنتاج الثقافي ماليًّا ولوجستيًّا، وإنما أيضًا- في المقام الأول- من خلال توفير المناخ الملائم لإمكانية تحقق أية نهضة ثقافية، أعني: توفير مناخ من حرية الفكر والإبداع.
ومن هنا نرى ما هنالك من ارتباط وثيق بين الثقافة والسياسة؛ فنهضة الثقافة (وكذلك التعليم) تتحقق من خلال إرادة سياسية؛ ولذلك فإنها لا يمكن أن تتحقق في دول قمعية، أو ديكتاتورية، أو دينية؛ لأن كل هذه الأشكال من نُظُم الحكم تكون بطبيعتها معادية لحرية الفكر والإبداع.
إضافةً إلى ذلك؛ فإن الإنتاج الثقافي يتطلب قدرة موازية على عرض هذا الإنتاج، ونشره، وتوزيعه بحيث يكون متاحًا لجموع الناس. ومن ذلك على سبيل المثال المسارح، ودور العرض الموسيقي والسينمائي، ومن ذلك أيضًا دور النشر، وهي على أهمية كبيرة. والواقع أن دور النشر المرموقة في الدول المتقدمة لا تُوجد فحسب في الفضاء العام، وإنما أيضًا في الفضاء الخاص بالدراسات المتخصصة في الجامعات ومراكز البحث العلمي.
خلاصة القول من مجمل ما تقدم أنه إذا ما توفرت الشروط العامة للنهضة الثقافية فإن البحث في التفاصيل يصبح أمرًا سهلًا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حرکة ترجمة لا یمکن ذلک فإن من خلال
إقرأ أيضاً:
بمشاركة إعلاميين ومسئولين.. «جامعة مصر للعلوم والثقافة» تقدم نموذجًا لمحاكاة الأمم المتحدة
أقامت مدينة مصر للعلوم والثقافة، المنبثقة عن جامعة مصر للعلوم والثقافة نموذجا لمحاكاة الأمم المتحدة بحضور عدد من المسئولين والوزراء السابقين والنواب ورجال الدين وممثلو الصحافة والإعلام وعدد من أساتذة الجامعة، وذلك بحضور اللواء ناصر رضا الأمين العام والدكتور حاتم ربيع المستشار العلمي والأكاديمي والتي يترأسها الوزير السابق أسامة هيكل رئيس مجلس إدارة جمعية نزهة مصر الجديدة.
وقد تحدث في الحفل الذي حضره عدد كبير من الطلاب لواء ناصر رضا والوزير محمد العرابي وزير الخارجية الأسبق و الدكتور حاتم ربيع ومصطفى بكري عضو مجلس النواب.
محمد العرابي وزير الخارجية الأسبق
وقد عرض الطلاب نموذجا حيا لمحاكاة الأمم المتحدة حول مبادرة الرئيس الأمريكي ترامب بوقف إطلاق النار في غزه
وفي نهاية الاحتفال كرم اللواء ناصر رضا الأمين العام عددا من الرموز التي شاركت في الاحتفال
مصطفى بكري عضو مجلس النواب
اللواء ناصر رضا الأمين العام يكرم عددا من الرموز
اقرأ أيضاًالرئيس الفلسطيني يهنئ مصطفى بكري بالفوز في انتخابات مجلس النواب
مصطفى بكري: «الإدارية العليا» تصدر أحكامها في الطعون خلال ساعات.. ويمكنها إبطال دوائر الفردي
مصطفى بكري: «الإدارية العليا» تصدر أحكامها في الطعون خلال ساعات.. ويمكنها إبطال دوائر الفردي