في زمنٍ تتزايد فيه تحديات الطاقة التي تواجه الدول ويتحمل المواطن تبعاتها المباشرة، تطرح دراسة علمية تونسية -نُشرت بدورية "رينيوبل إنرجي"- حرارة الأرض كحل واعد ومستدام لمشكلة ارتفاع استهلاك الطاقة، خاصة قطاع المباني.

وتُخزن في الطبقات القريبة من سطح الأرض، وعلى عمق بضعة أمتار فقط، درجة حرارة شبه ثابتة تتراوح بين 16 و20 درجة مئوية في تونس، وتمثل هذه الخاصية الحرارية موردا طبيعيا يمكن استغلاله من خلال أنظمة متقدمة تُعرف بـ "المضخات الحرارية الجوفية".

وأثبتت هذه الأنظمة كفاءتها في تجربة ميدانية نفذها فريق علمي من مركز البحوث والتقنيات في الطاقة بمدينة برج السدرية (شمال تونس). ومن جانبه، يصف الأمين العام لاتحاد خبراء البيئة العرب الدكتور مجدي علام هذا النظام بأنه "نموذج واعد" للطاقة المتجددة، يجمع بين الكفاءة الطاقية العالية والجدوى الاقتصادية على المدى الطويل، لا سيما البيئات التي تتميز بثبات نسبي بدرجة حرارة التربة، كما هو الحال في تونس، مشيرا إلى أن تعميم استخدامها يظل مشروطا بعدة عوامل، منها الكلفة الأولية والبنية التحتية والدعم الفني.

ويعتمد هذا النظام على الاستفادة من حرارة التربة الثابتة نسبيا طوال العام، لتوفير التدفئة (وفي بعض الأنظمة أيضا التبريد) ويعمل النظام بآلية مشابهة لعمل الثلاجة ولكن بالعكس، فبدلا من طرد الحرارة من الداخل إلى الخارج، تقوم المضخة بسحب الحرارة من باطن الأرض ونقلها إلى داخل المبنى.

ويتكون هذا النظام من شبكة أنابيب حرارية مدفونة أفقيا أو عموديا تحت الأرض، يمر عبرها سائل ناقل للحرارة (عادة مزيج من الماء ومادة مضادة للتجمد مثل الإيثيلين غليكول) ويمتص هذا السائل الحرارة من التربة ويُعاد تدويره عبر المضخة الحرارية.

وداخل المضخة، تُستخدم دورة تبريد عكسية تعتمد على ضاغط يقوم برفع ضغط السائل، مما يؤدي إلى ارتفاع حرارته، ليتم بعد ذلك نقل هذه الحرارة إلى أنظمة التدفئة داخل المبنى (مثل التدفئة الأرضية أو المشعات).

إعلان

ولتعزيز أداء النظام، تم دمجه في الدراسة بـ"خزان حراري" مدفون تحت الأرض يعمل كعنصر مساعد لتخزين الحرارة الزائدة أثناء التشغيل العادي، ويتم استخدام هذه الطاقة المخزنة لاحقا في الأيام الباردة جدا، مما يُحسن من استقرار النظام وكفاءته الحرارية.

"المضخات الحرارية الجوفية" تعتمد على شبكة أنابيب حرارية مدفونة أفقيا أو عموديا تحت الأرض يمر عبرها سائل ناقل للحرارة (شترستوك) تجربة عملية

ولاختبار هذا النظام، قام الباحثون بإنشاء منظومة متكاملة من التدفئة الحرارية الأرضية في أحد مباني مركز البحوث والتقنيات في الطاقة بمدينة برج السدرية، وقد أثبت كفاءة ملحوظة خلال فترة التشغيل الشتوية.

وأظهرت البيانات المسجلة أن المبادل الحراري الأرضي، والمكون من أنابيب مدفونة تحت الأرض تمر عبرها سوائل ناقلة للحرارة (عادة خليط من الماء ومضاد تجمد) نجح في استخلاص طاقة حرارية تقدر بـ5 كيلوواط من حرارة التربة.

أما الخزان الحراري المدفون تحت الأرض، والذي يعمل كمصدر حراري مساعد يخزن الطاقة الزائدة خلال التشغيل العادي، فقد ساهم في توفير 2.5 كيلوواط حرارية إضافية عند الحاجة، خصوصا خلال الأيام شديدة البرودة، مما عزز من استقرار النظام وكفاءته الحرارية.

وأظهرت نتائج التجربة أن النظام يتمتع بكفاءة طاقة عالية، إذ بلغ معامل الأداء الخاص بالمضخة الحرارية نحو 4.53، أي أن كل وحدة كهرباء يستهلكها النظام تنتج ما يعادل 4.53 وحدات من الطاقة الحرارية.

وقد بلغ معامل الأداء الكلي للنظام، والذي يشمل جميع مكونات النظام مثل الخزان الحراري ونظام التوزيع، نحو 3.02، وهو ما يعد أداء ممتازا مقارنة بالأنظمة التقليدية للتدفئة.

وتؤكد النتائج أن هذا النظام لا يقتصر فقط على تقليل استهلاك الكهرباء، بل يحقق أيضا كفاءة تشغيلية عالية تُعزز من جدواه الاقتصادية، وهو ما يجعله خيارا واعدا في ظل تحديات الطاقة التي تواجهها تونس.

وأظهرت الدراسة الاقتصادية المرافقة أن هذا النظام قادر على تخفيض تكاليف التشغيل بنسبة تصل إلى 46% مقارنة بأجهزة التكييف التقليدية، وبنسبة تصل إلى 55% مقارنة بأنظمة التدفئة المركزية، وذلك على مدى 20 سنة من التشغيل المستمر.

ارتفاع كلفة التركيب الأولية أبرز تحديات تنفيذ "المضخات الحرارية الجوفية (شترستوك) عجز تونسي في الطاقة

وتأتي هذه التجربة في وقت حساس، حيث تواجه تونس عجزا في توازنها الطاقي، مع انخفاض الموارد بنسبة 38% بين عامي 2010 و2017، مقابل ارتفاع الطلب بنسبة 14%، وتشير التوقعات إلى أن قطاع المباني سيصبح أكبر مستهلك للطاقة بحلول عام 2030، مما يستدعي حلولا مبتكرة وفعالة.

وتوضح الدراسة أن الطاقة الحرارية الجوفية، سواء من الطبقات العميقة أو التربة القريبة من السطح، تمثل خيارا واعدا للطاقة البديلة في تونس.

فبينما تمتلك البلاد موارد طبيعية من المياه الجوفية الحارة في مناطق مثل قبلي ودوز والفاور، تُظهر الدراسة أنه حتى الحرارة الثابتة في التربة على أعماق ضحلة يمكن استغلالها بكفاءة من خلال أنظمة المضخات الحرارية الأرضية، دون الحاجة لموارد مائية حرارية عميقة.

إعلان فرص وتحديات

ومع أن النتائج التجريبية تبدو مشجعة، إلا أن تعميم استخدام هذا النظام على نطاق واسع يواجه مجموعة من التحديات التي تتطلب معالجة جدية لضمان التحول الفعلي نحو هذا النوع من الحلول المستدامة.

ويقول الدكتور علام إن أول هذه التحديات هو ارتفاع كلفة التركيب الأولية، حيث يتطلب النظام أعمال حفر متخصصة لتركيب الأنابيب المدفونة، إضافة إلى تجهيزات تقنية مثل المضخة الحرارية والخزان الحراري.

ورغم أن هذه التكاليف يمكن تعويضها لاحقا من خلال خفض فواتير التشغيل، فإنها تمثل عائقا ماليا حقيقيا أمام الأفراد والمؤسسات في مرحلة البدء، خاصة في ظل غياب برامج دعم حكومية موجهة، كما يوضح الدكتور علام.

أما التحدي الثاني، فيكمن ـوفقًا لعلام- في الحاجة إلى بنية تحتية مناسبة، إذ لا تصلح جميع المباني أو الأراضي لتركيب هذه الأنظمة، خصوصا المناطق الحضرية المكتظة، أو تلك التي تتميز بتربة غير ملائمة لنقل الحرارة بكفاءة.

كما أن بعض أنظمة التبادل الحراري تتطلب مساحات أفقية واسعة، مما يقيد استخدامها في المواقع التي لا تسمح بذلك، إذا لم يتم الاعتماد على نظام رأسي.

ويضيف الدكتور علام أن هناك تحديا آخر لا يقل أهمية، يتمثل في الحاجة الملحة إلى تدريب كوادر فنية مؤهلة لتصميم النظام وتركيبه وصيانته، فمثل هذه الأنظمة تعتمد على معرفة دقيقة بتفاعل مكونات التربة، وآلية عمل المبادلات الحرارية، والضاغط، وأنظمة التوزيع. ومن دون هذا الدعم الفني، قد تنخفض كفاءة النظام أو تتكرر الأعطال، مما يُضعف ثقة المستخدمين في التكنولوجيا ويحد من انتشارها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات الحراریة الجوفیة هذا النظام تحت الأرض

إقرأ أيضاً:

بومة تحدق نحو الأرض.. ما القصة؟

في صورة تفيض بجمال كوني مهيب، وثق تلسكوب جيمس ويب الفضائي مشهدًا نادرًا لتصادم بين مجرتين بعيدتين، يشبه إلى حد كبير وجه بومة تحدق بعينيها الواسعتين نحو الأرض، في لقطة وصفها العلماء بـ"البومة الكونية".

تلسكوب جيمس ويب يرصد تصادما مجريا نادرا

بفضل مظهرها المميز الذي يشبه شكل البومة، تبدو وكأنها صورة طبيعية تم التقاطها في الغابة في منتصف الليل، حيث ظهرت الصورة وكأنها لوحة فنية من معرض فني، بظلالها المتلألئة من اللون الأزرق والبرتقالي والوردي، لكن هذه الصورة المذهلة، التي نشرها علماء الفلك مؤخرا، تلتقط في الواقع لحظة رائعة في الفضاء العميق، على بعد مليارات السنين الضوئية.

اكتشاف فلكي مثير.. كوكب غريب يثير توهجات مدمرة | ماذا يحدث؟اكتشاف فلكي مذهل.. كواكب جديدة فى مرحلة التكوينماهى البومة الكونية؟

لا تعتبر هذه "البومة" كائنا حيا، بل نتيجة تصادم كوني عنيف بين مجرتين حلقيتين على بعد مليارات السنين الضوئية من الأرض، وفقا لما ذكرته الديلي ميل.

ويقود فريق البحث الدولي وراء هذا الاكتشاف الدكتور مينغيو لي من جامعة تسينغهوا في بكين، الذي أطلق على هذا التشكل النادر اسم "البومة الكونية"، لفرط الشبه البصري بين الشكل الناتج ووجه البومة المعروف.

وتُعد المجرات الحلقية التي ظهرت في الصورة من أندر الأجسام في الكون، حيث لا تشكل سوى 0.01% من المجرات المعروفة حتى الآن. 

ويعود هذا الاصطدام الكوني المثير إلى نحو 38 مليون سنة، لكن ضوءه لم يصل إلى عدسات تلسكوب جيمس ويب إلا مؤخرا، بفعل المسافة الهائلة التي تفصلنا عنه.

وتبرز الصورة توازنا لافتا في حجم الحلقات وشكلها، إذ يبلغ قطر كل واحدة نحو 26 ألف سنة ضوئية، ما يشير إلى تشابه ملحوظ في الكتلة والبنية بين المجرتين المتصادمتين. 

وفي قلب كل "عين" من عيني البومة، تشتعل نواة مجرية نشطة (AGN) تعد من ألمع الأجسام في الكون، ويعتقد أنها تحتوي على ثقوب سوداء هائلة تفوق كتلة الشمس بعشرات الملايين من المرات — تحديدا 67 مليونًا و26 مليون كتلة شمسية على التوالي.

أما "منقار البومة"، فهو يمثل نقطة التقاء المجرتين، ويشهد حاليًا انفجارات نجمية مكثفة تُنتج نجومًا جديدة وربما أنظمة كوكبية في مراحلها الأولى.

ويؤكد الباحثون أن مثل هذه التصادمات تلعب دورا محوريا في تطور المجرات، إذ تسهم في تغيير بنيتها، وإعادة توزيع الغازات، وتسريع وتيرة تشكل النجوم. 

الجدير بالذكر أن مجرتا درب التبانة تسير على مسار تصادمي مشابه مع جارتها أندروميدا، التي تبعد 2.5 مليون سنة ضوئية، في سيناريو مستقبلي قد يعيد تشكيل النظام الشمسي وموقع الأرض داخله، إذا ما بقيت الحياة على كوكبنا قائمة حينها.

طباعة شارك تلسكوب جيمس البومة الكونية تلسكوب جيمس ويب علماء الفلك الكون

مقالات مشابهة

  • فشل حكومات قيس سعيّد ومصير تونس المقبل
  • سامسونج تكشف عن ميزات Galaxy AI المجانية .. بشرط
  • نفق عميق وغرف غامضة.. لغز خفي تحت أقدام أبو الهول| ما القصة؟
  • سنة تجعل قدميك ثابتة على الصراط يوم القيامة.. اغتنمها يوم الجمعة
  • تظهر فى قدميك أولا .. علامات غامضة تكشف الإصابة بتليف الكبد
  • الخريف في ظفار... حين تتعاظم المشاعر
  • أحكام سجن مشددة بحق قيادات النهضة في تونس
  • بومة تحدق نحو الأرض.. ما القصة؟
  • محافظ الغربية يشكل لجنة عاجلة لبحث أسباب الانهيار الجزئي بكورنيش ترعة القاصد بطنطا