زيارة رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي إلى عمّان لحضور اجتماعات اللجنة العليا المشتركة المصرية–الأردنية لم تكن مجرد محطة في أجندة دبلوماسية مزدحمة، بل كانت حدثاً يعيد التأكيد، أن العلاقات بين القاهرة وعمّان هي واحدة من أكثر العلاقات العربية رسوخاً واستقراراً في العقود الأخيرة. ففي وقت تتقلب فيه موازين القوى الإقليمية، وتتصاعد الأزمات من فلسطين إلى الخليج، يظل المحور المصري–الأردني ثابتاً كجبلين متقابلين يحميان وادياً عربياً ممتداً من الانكسار.

ومن هنا تأتي أهمية اللجنة العليا المشتركة التي انعقدت في دورتها الـ33، فهي ليست اجتماعاً بروتوكولياً أو تبادل كلمات دبلوماسية، بل منصة لتجديد العهد على شراكة قائمة على الثقة والمصالح المتبادلة.

مصر والأردن ليستا مجرد جارتين في الخريطة السياسية للعالم العربي، بل هما شريكتان في التاريخ والمصير. فمنذ عقود، كانت القاهرة وعمّان على موقف واحد في دعم القضية الفلسطينية، ورفض أي حلول تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني أو تفرض عليه واقعاً جديداً بالقوة. وفي كل محطة مفصلية، نجد أن صوت العاصمتين يخرج موحداً: لا للتوطين، لا للتهجير، لا للمساس بالقدس. وهذه العلاقة لا تقوم فقط على البعد السياسي، بل تمتد إلى مجالات الاقتصاد والطاقة والنقل والتعليم والصحة، وهو ما ظهر جلياً في هذه الزيارة، حيث شهدت المباحثات نقلة نوعية في ملفات التعاون، بدءاً من زيادة التبادل التجاري، مروراً بمشاريع الطاقة المشتركة، وصولاً إلى خطط استثمارية جديدة تشمل فكرة إنشاء مدينة إدارية أردنية مستوحاة من تجربة العاصمة الإدارية المصرية، وهو مشروع إذا تم سيضع بصمة مصرية في قلب التنمية الأردنية.

هذه الشراكة ليست مجرد تعاون، بل هي شبكة أمان حقيقية. ففي هذا الزمن، التحالفات التي تقوم على المصالح المؤقتة سرعان ما تنهار عند أول أزمة، لكن الشراكة المصرية–الأردنية أثبتت أنها شراكة إستراتيجية طويلة المدى، تقوم على رصيد كبير من الثقة وتجارب عديدة من الدعم المتبادل، سواء في الملفات السياسية أو الإنسانية أو الاقتصادية. وعلى الصعيد الإقليمي، تتقاطع أولويات البلدين في الحفاظ على استقرار المنطقة، ومواجهة الإرهاب، ورفض أي محاولات لفرض حلول أحادية على الشعوب العربية. أما على الصعيد الاقتصادي، فيدرك الطرفان أن التكامل هو السبيل لتعزيز القدرة على مواجهة التحديات العالمية، من أزمات الطاقة والغذاء إلى تقلبات الأسواق.

ولا يمكن الحديث عن العلاقات المصرية–الأردنية دون الوقوف أمام موقفهما المشترك من القضية الفلسطينية، الذي ظل ثابتاً مهما تغيرت الحكومات أو تبدلت الظروف. فالأردن بحكم موقعه الجغرافي وتاريخه مع الضفة الغربية، ومصر بحكم ثقلها الإقليمي ودورها التاريخي في دعم الشعب الفلسطيني، يدركان أن أي مساس بهذه القضية سيكون له انعكاسات خطيرة على الأمن القومي العربي كله. ومن هنا جاءت الرسائل الواضحة خلال هذه الزيارة: لا تهجير، لا استيطان، ولا تنازل عن حق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وهي رسائل تكتسب قوتها من وضوحها، ومن أنها تصدر بصوت واحد من بلدين يملكان ثقلاً سياسياً حقيقياً في المنطقة.

ورغم أن البعض قد يرى أن مثل هذه الاجتماعات الدورية لا تحمل زخماً إعلامياً كبيراً، فإن الحقيقة أنها هي التي تصنع المستقبل. ففي غرف الاجتماعات وعلى طاولات التفاوض يتم وضع الأسس لمشاريع ستظهر نتائجها بعد سنوات، وتبنى شبكات تعاون اقتصادية وفنية وأمنية تصمد أمام التحديات. واللجنة العليا المصرية–الأردنية نموذج للعمل العربي المشترك بعيداً عن الشعارات، حيث تجمع الوزراء والخبراء من البلدين لتنسيق الجهود في مجالات محددة وملموسة، من تطوير الموانئ والمعابر، إلى تنسيق السياسات الزراعية والصناعية، وصولاً إلى دعم الشركات والمستثمرين.

ما بعد هذه الزيارة لن يكون كما قبلها، فالأجواء التي سادت المباحثات، وحجم الملفات المطروحة، والاتفاق على آليات متابعة وتنفيذ، كلها مؤشرات على أن العلاقات المصرية–الأردنية تدخل مرحلة أكثر عمقاً. إنها مرحلة الانتقال من التنسيق التقليدي إلى الشراكة الشاملة، التي تشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة والأمن. والأهم أن هذه العلاقات تقدم نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه العمل العربي المشترك إذا توافرت الإرادة والرؤية: علاقات تقوم على الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة، والمواقف الثابتة من القضايا المصيرية، وتحالفات لا تهزها رياح السياسة العابرة، بل تزداد صلابة كلما اشتدت العواصف.

طباعة شارك مصر الأردن فلسطين

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: مصر الأردن فلسطين المصریة الأردنیة

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: سويسرا .. فصل جديد من العلاقات السودانية الأمريكية

في تطور لافت بالعلاقات السودانية الأمريكية، التقى رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بمستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية، مسعد بولس، يوم الإثنين 11 أغسطس 2025 في زيورخ، بطلب مباشر من واشنطن، وفقًا لـ”العربية”. اللقاء يعكس تغيرًا في نهج الولايات المتحدة تجاه الملف السوداني، وتراجعًا عن الاعتماد التقليدي على الوسطاء الإقليميين، وعلى رأسهم الإمارات.

اللقاء، الذي لم يُعلن عنه رسميًا في الخرطوم حتي اللحظة ، يعكس مستوى متقدمًا من الثقة بين الطرفين، ويجسّد مرحلة جديدة من الحوار المباشر، بعيدًا عن القنوات التي كانت مؤثرة في توجيه مسار الأزمة السودانية.

الولايات المتحدة، وفق مصادر متعددة، وضعت على طاولة النقاش مقترحًا واضحًا لوقف شامل لإطلاق النار في السودان، كجزء من رؤية أشمل لإعادة ترتيب المشهد السياسي والأمني، وترسيخ دور السودان كشريك فاعل في مكافحة الإرهاب وتعزيز أمن البحر الأحمر، وهو الملف الذي بات يحتل أولوية متقدمة في الأجندة الأمريكية، بالنظر إلى تعقيدات الوضع الإقليمي وارتباط السودان المحوري جغرافيًا بمنطقة بالغة الحساسية.

هذه التحركات تؤكد أن واشنطن لم تعد تنظر إلى السودان من زاوية الأزمات الإنسانية ، بل كفاعل استراتيجي يمكن الوثوق به في ملفات إقليمية كبرى، وهو ما يُعدّ تطورًا ملحوظًا في طبيعة العلاقة الثنائية، ويعزز من موقف السودان السياسي والدبلوماسي.

ما يلفت النظر في هذا اللقاء أيضًا أنه تم خارج علم بعض الأطراف الإقليمية المتنفذة ، ولم تكن الإمارات، على سبيل المثال، على دراية به إلا بعد حدوثه، مما يعكس نجاحًا دبلوماسيًا سودانيًا في انتزاع هامش حركة مستقل، وربما يمثل بداية لإعادة صياغة التحالفات الإقليمية والدولية وفقًا لأولويات سودانية وطنية .

البرهان بدوره لم يذهب إلى هذا اللقاء بدون ضمانات أو أوراق ضغط، فقد عبّر عن موقفه الرافض لوجود مليشيا الدعم السريع في السلطة أو في أي عملية سياسية قادمة. هذا الموقف يضيف بعدًا جديدًا لمسار التفاوض، ويعكس رغبته في تقليص نفوذ المليشيا ، بما يدل على إدراكه لأهمية إزالة العوائق التي تقف في طريق السلام والاستقرار، تمهيدًا لإنهاء الحرب والدخول في مرحلة انتقالية أكثر استقرارًا.

تنسيق اللقاء جاء أيضًا بعد جهود دولية وإقليمية معقدة ، شاركت فيها تركيا وقطر ومصر، وهو ما تجلى في تحركات وزراء الخارجية واجتماعاتهم المكثفة خلال الأسابيع الماضية، إضافة إلى دعم لوجستي قطري تمثل في هبوط طائرة ضخمة في مطار بورتسودان، قبل يومان من اللقاء، في إشارة إلى انخراط واضح في تهيئة الأجواء لهذا التحول السياسي.

غير أن المراهنة على نجاح هذا المسار تظل مشروطة بقدرة القيادة السودانية على توظيف هذا الزخم الإقليمي و الدولي وتفعيله داخليًا، في ظل تحديات أمنية واقتصادية خانقة، وانقسامات سياسية تحتاج معالجات .

الإشارات الصادرة عن واشنطن، مطلع الاسبوع الماضي بما في ذلك تقارير حول نية الإدارة الأمريكية تصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية، تعكس تحولًا في الموقف الأمريكي من المليشيا التي كانت تحظى بدعم إقليمي واضح، وتضع شركاءها في زاوية ضيقة، ما قد يؤدي إلى إعادة تموضع إقليمي إجباري يتماشى مع الاتجاهات الجديدة.

وفي المقابل، فإن استمرار اللقاءات بين البرهان والدوائر الأمريكية خارج إطار التنسيق الإقليمي المعتاد، يمنح القيادة السودانية أوراق ضغط جديدة على طاولة التفاوض، ويمنح الملف السوداني دفعة حقيقية نحو الحل.

الأمريكيون ، من جهتهم، يظهرون انفتاحًا غير مسبوق للتعاون مع الخرطوم، ليس فقط في الملف الأمني، بل أيضًا هناك مؤشرات في اهتمامهم بالمجالات الاقتصادية والاستثمارية، حيث تنظر واشنطن إلى السودان كفرصة لإعادة إعمار بلد غني بالموارد، مع أهمية استراتيجية كبيرة. وهذا يعزز فكرة أن اللقاء يمثل بداية مرحلة جديدة من التعاون، تقوم على مبدأ الشراكة المباشرة، بعيدًا عن وسطاء قد يعرقلون الحلول.

إن أهمية هذا اللقاء لا تكمن فقط في طبيعته السرية أو توقيته، بل في الرسائل التي يحملها حول مستقبل السودان في المعادلة الإقليمية، والفرص التي يمكن أن تنشأ إذا ما أُحسن استثمار هذا الانفتاح الأمريكي.

غير أن الشفافية في التعاطي مع الرأي العام السوداني بشأن فحوى هذه اللقاءات تظل أمرًا مهمًا ، ليس فقط لطمأنة الداخل، بل لتأكيد الجدية في إدارة المرحلة القادمة بعيدًا عن السرية و الغموض الذي طالما غذّى الشائعات وأضعف الثقة في مؤسسات الدولة.

من منظور #وجه_الحقيقة، تقف بلادنا اليوم أمام مفترق طرق . وإن تمكنت قيادتها من ترجمة الزخم الدبلوماسي إلى خطوات عملية، فقد تشكّل زيورخ بداية حقيقية لمسار استعادة الأمن والسلام . هذا اللقاء قد يؤسس لوقف شامل لإطلاق النار، ويفتح الباب لحوار جاد مع الأطراف المعنية، خاصة الإمارات، لوقف تغذية مليشيا الدعم السريع. غير أن النجاح يظل مرهونًا بقدرة القيادة على توظيف الدعم الإقليمي والدولي وتحويله إلى واقع يرسّخ أمن السودان واستقراره.

إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 13 أغسطس 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • إبراهيم شقلاوي يكتب: سويسرا .. فصل جديد من العلاقات السودانية الأمريكية
  • نتنياهو يؤكد ارتباطه برؤية "إسرائيل الكبرى" التي تشمل ضم أجزاء من مصر والأردن
  • مصر والأردن يوقعان 9 اتفاقيات
  • نواب: الشراكة المصرية الأردنية نموذج للتكامل العربي .. والربط الكهربائي خطوة استراتيجية لدعم التنمية وجذب الاستثمارات
  • إيفلين متى : الشراكة المصرية الأردنية تدعم الأمن الاقتصادي العربي
  • رئيسا وزراء مصر والأردن يترأسان أعمال اللجنة العليا المصرية الأردنية المشتركة
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (أشجار الجنة التي نعيش فيها)
  • بدء أعمال الدورة الـ 33 للجنة العليا المصرية الأردنية المشتركة
  • بدء أعمال اللجنة العليا المصرية الأردنية المشتركة برئاسة رئيسي وزراء البلدين