أسلفنا الحديث -في مقال سبق- عن حتميَّة المكابدة على ابن آدم، وكيف أنها جُعِلَت على مقاسه ومقاس تكليفه؛ لتتحقَّق بها إنسانيته المتعينة، ويكتمل بها إيمانه، وينسجم بها وجوده الكلي مع فلسفة التاريخ الإسلامي التي فُطِرَ عليها الكون في حركته. وعليه، فالمكابدة في التصور الإسلامي ليست مُدافعة لبلاءٍ عبثي لا طائل تحته، أو عسف لا يخلف أثرا؛ وإنما هي بوتقةٌ مُثمرة تُعيد تشكيل ذواتنا بالبلايا، فكأنها غُربالٌ يوازِنُ به وعينا المكابد وإدراكنا المكلَّف بين شتى خصالنا وخصائصنا؛ محاولا استبقاء النافع الصالح منها فحسب.
ولهذا، فإن بعض الخبرات تخلفنا أصلب عودا، وأشد بأسا، وأقدر على الاستمرار. بل تخلفنا أنضج وأهدأ، وأعظم سكينة. والمقطوع به أن جمهرة كبيرة ممن واجهوا أعتى المحن، وخاضوا أشد الابتلاءات، ودافعوها بقوة التصبُّر والتواصي المؤمن؛ هم الذين يشتد عودهم، لا بمعنى القسوة المفتقرة إلى شعور، وإنما هو البأس الهادئ في سكينة، والذي يكتسبه من خبر الدنيا وعرف حقيقة حجمها. وهي خبرةٌ لا يُمكن اكتسابها بقراءة الكتب، ولا حتى بالتأمُّل في خبرات الآخرين وتجاربهم مهما كانت؛ وإنما مصدرها الوحيد هو احتراق المكابدة الذاتية المنهكة، والألم الشخصي المزلزِل؛ ذلك الطعن الجواني الممزِّق، الذي يعتصرك ويعجنك ويشكلك، فكأنه خلقٌ من بعد خلق.
هذه الألوان الجارفة من المكابدة الإنسانيَّة، لا يُمكن أن يخرج منها الإنسان بتركيبته التي دخل بها؛ فهي اختبارات عاتية لا يُمكن إلا أن يُكافأ مَنْ يُوفَّق بحول الله في عبورها، في الدنيا قبل الآخرة. وهي مكافأة جوانيَّة حتميَّة، وإن تأخَّرت البرانية في الدنيا، أو أجِّلَت بحول العليم الخبير إلى الدار الآخرة. ومن هذه المكابدات خمس سنستعرضها فيما يلي من مقالنا:
الأولى أن يخسر المكلَّف كل شيءٍ براني، وكل متاع مادي؛ فيستقرُّ في قاع بحر الوجود كأنه مفقود. إن هذه الخبرة تُغيِّر قدرا هائلا من باطن من يمرُّ بها، وأحيانا من ظاهره. إذ يُدرك -يُمزقه الألم- أنه خسر كل ما قد يُرزقه أهل الدنيا؛ فتتكشَّف له نفسه على حقيقتها، وتتعرَّى له خصاله وطبائعه الأصليَّة، والتي كانت الأعراض تُخفيها والنعم تستُرها، حتى عن صاحبها في أحيان كثيرة. ساعتها يُدرِك المكلَّف أن ما بدا له عقب الزلزلة لم يكن حقيقة الوجود في الحياة الدنيا فحسب؛ وإنما حقيقة نفسه كذلك، وحقيقة ما بطن فيها.
ومن رُزق الصلابة واستعان بالصبر والتواصي (راجع سورة العصر)؛ فلن يُصاب جوّانيه ثانية بمثل ما أصيب به قط، وإن أصيب برّانيه فلن يأبه ولن ينثني؛ فقد أبصر الحق، وأقيمت عليه الحجة بلزومه مرَّة.
أما من تكشَّفت له نفسه عن خواء وهشاشة ولم يُرزق شيئا من قوة؛ فقد انتهت حياته عمليّا، ولو ظلَّ عقودا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. فإن انكسار النفس بالخُسر البراني، الذي لا مدد فيه من الله يُعين المكلَّف على تجاوز الألم والسمو فوقه؛ موتٌ أكيد إذ لم يكُن تخلُّق من الله وبه جديد. وإن مَنْ لم يَحُز جسارة إعادة بناء نفسه من الحضيض بعون الله فيسبح من قاع بحر الضياع إلى اليابسة، موقنا باحتماليَّة تكرار السقوط وإمكانه؛ فقد رقد رقدة الموت المعنوي والنفسي، وإن لم تُسلب روحه ولا خمد جسده. فإن أي فلاح يجب أن تسبقه سلسلة طويلة مؤلمة من الإخفاقات والمكابدات، بل وأن تعقُبه كذلك، وقد تتوسَّطه أحيانا.
والبداية الصفريَّة تلزمها جسارة في الاستعانة بالله وشدَّة في الأخذ بالأسباب لأنها تواجَهُ فورا بشكوك النفس الأمَّارة ووهنها، وتعامُلها السلبي مع خبرة السقوط، وعدها النهاية. وبدلا من الانصراف عمَّا أغرقك لتطفو ثانية؛ إذا نفسك تجذبك إلى أسفل سافلين. إنك في هذه الحال تواجه النفس قبل الغير، وتصمُد لها ولقسوتها في الاستسلام قبل صمودك لتكالُب الآخرين على ذبحك. وهي مواجهة جد عسيرة.
أما المكابدة الثانية؛ فهي أن يكون غم الفَقد قد أمضَّ المكلَّف، وأحرق جوانيه. إن هذا الغم والأسى أقسى معلم قد يلقاه المرء في حياته؛ إذ أنهما يُبدلان كل خلايا جسدك المادي ولا يقتصر تأثيرهما على روحك التي أحرقتها اللوعة. والعجيب أن هذه النار تغسل أوهامك البشريَّة بماء العيون، حتى تتكسَّر الأنا الشيطانية بهذا المد الجارف. والأعجب أن يخلف الألم -بعد زمن يطولُ ويَقصُر- سكينة تستقر في نفسك، ورحمة لسائر الخلق تعمر قلبك. وإذا كان عمق الغم والأسى يتناسب طرديّا مع حجم حبك لمن فقدت؛ فإن الصبر عليه واحتمال آلامه، وعبورها؛ يجعل صلابتك الفائقة هي الأخرى تتناسب طرديّا مع حجم آلامك قبلها. إذ تتعلَّم كيف تحمل فوق ظهرك -أبدا- صليب ما لا يمكنك تداركه أو التكفير عنه أو مداواته.
أما وقد ناءت الروح بمسؤولياتك وأعبائك، ولم تقعد في قاع غمك وقد أمضَّك الهم؛ فقد ذُقت معنى الصلابة الهادئة، والقدرة الصامتة؛ التي لا يراها غيرك. إذ تحمَّلت -أحيانا عن الآخرين- وأنت لا تملك ما تُعطيه، بعد إذ أنهكت روحك وفرغت جيوبك واحترق قلبك. واحتمال مثل هذا العبء الشعوري والنفسي بصبرٍ يمنحك عُمقا صادقا في تعاطُفك مع اﻵخرين، ومعاناتهم، وفي إدراك تركيبيتهم وربما تفاهتهم، ونُضجا في النظر الواقعي إلى الحياة بوصفها دار ابتلاء لا راحة فيها.
وثالث هذه المكابدات هي أن تكون قد قوبِلتَ بالرفض مرارا، ونُبذت تكرارا، وسُفِّهَت أحلامك بلا هوادة. فلم يفتّ ذلك كله في عضدك بعون الله، ولم يشوه صورتك الذهنية في مرآة نفسك، فواصلت طرق الأبواب ليل نهار. تَكِلُّ حينا، وتُنهك أحيانا؛ بيد أنك تُعاود الطرق بلا هوادة كأنما خُلقت له! فإن ما يجعلك صلبا ليس رغبتك غسل "عار" الرفض والنبذ والتسفيه؛ بل استقبالك لهم، وفعلك عقب الابتلاء بهم المرة تلو المرة. أتنسحب مِنْ سَيرك نهائيَّا، أم لمجرد إعادة ترتيب ذراتك وأوراقك قبل الإقدام ثانية؟! إن أصلب الناس عودا تُصيبهم الرضوض والجروح، ويألمون أشد الألم، بيد أنهم لا يُكسرون برحمة من الله؛ لأنهم يرجون منه ما لا يرجوه غيرهم. فما الرفضُ والنبذ والتسفيه عندهم إلا وقودٌ يزيدهم حرصا وبأسا.
قد يُبيحون لهذا الانتقاص أن يُعيد تشكيل شخوصهم حينا، أو تشكيل بعض ردود فعلهم في أحيان أقل، لكنه لا يُعيد تشكيل واقعهم؛ فلا يصير حائلا بينهم وبين ما يقصدون. وفي كل مرة يستعيدون توازنهم بعد تلقي ضربة من هذه الضربات؛ يصيرون أذكى وألطف وأشجع.. وأكثر حساسيَّة، وأحيانا أعظم شراسة.
أما اللون الرابع من المكابدات؛ فهو أن تطول رحلتك إلى اليقين العملي وسكينته، حتى تخلو نفسك مما توهَّمته يقينا. ومن ذاق لا تيقُّن دار الابتلاء، وانسلخت نفسه من كل يقين سوى يقينه بالله وفيه، وعرف أن التكليف يعني إمكان وقوع الاحتمالات الكامنة كلها، وأن الأفق مفتوح للخير وللشر -باختيار ابن آدم- علم أن التحكُّم البشري في كل شيء وهم شيطاني، والهيمنة فوق كل شيء أسطورة خبيثة، وأنها من صفات العلي القدير وحده التي لا تتحقق للبشر أبدا مهما كانوا. ولذلك، فمهما كنت دقيقا ومُلما وحريصا، ومهما طال سيرك بنفسك ورياضتك لها؛ فلا بد أن تجد ثغرة فيما حقَّقته وقدَّمته، لينفذ منها اللا تيقُّن في الأسباب والنقص في كمالها؛ مؤكدا لك بشريتك ومحدوديتك. والبصير الموفَّق من هُدي إلى التعاطي مع الثغرة كأنها كوَّة تنفتح في نفسه؛ لينسرب النور منها إلى باطنه. إنه من أدرك أن هذا اللون من المكابدة لا يمنحه صلابة الجماد القابلة للكسر، ولا صلابة المقدرة غير العاقلة على الإقدام في كل مرة، وإنما يمنحه مقدرة ربانية على كبح ضعفه ووهنه؛ فلا يُحجم أبدا، ولا يُول دُبره أبدا. وشتان.
أما خامس هذه المكابدات وأعظمها أثرا؛ فهي أن يتعلَّم الإنسان -بالدربة والابتلاء- فضيلة التخلي عن كل ما لا يعنيه، وكل ما لم يُخلق له، وكل ما لم يُيسَّر له. وأن يُدرك أن كل وصلٍ يجب أن يسبقه فصل ويعقبه مثل ذلك. والتخلي الإرادي -بقوة- أعظم هذه المكابدات، لأنه يخلف أعظم الخصال في نفسك؛ فإن التخلي عن شيء -أو أشياء- هو الاختبار الحقيقي لإدراكك حقيقة الدنيا وحقيقة نفسك. ولا يُمكن أن تُبذر في نفسك بذور الصلابة بغير مقدرة على التخلي؛ إراديّا قبل أن يقع ذلك قهرا رغما عنك.
والتخلي يختلف عن التظاهُر بأن ما تركته لا يهمك ولا يعنيك ولا تُريده؛ وشتان! بل يعني ألا تُخفي كل ما يعتمل في نفسك من رغبة، بيد أنك تُقدِم على التخلي ليقينك أنه الخيار الأصح في الزمكان المعيَّن، سواء تجلَّت أسبابه أو كان دون سبب واضح. والتخلي أنواع وضروب، فمنه التخلي عن البشر والشهوات والتوقُّعات والمواطن، بل وعن بعض نفسك أحيانا؛ ألا يسقط منك بعضها في كل ابتلاء عظيم تمرُّ به أو محنة شديدة أو مكابدة جارفة؟! إن التخلي عظيم الإيلام، لكنه هو التحرُّر الحقيقي الذي يغذي صلابتك، فهو تحرُّر من نفسك وأوهامها أولا، ثم من السُّوى. والأحمق وحده هو من يبغي التمسُّك بكل ما يلقاه في الدنيا، ويقبِضُ على ما صُرِف عنه، وتتعلَّق روحه بما سُلب منه. والعاقل يغتم ويألم، ثم يُفيق إلى أمر الله، وينتقل إلى طورٍ جديد من أطوار المكابدة.
إن التخلي ليس استغناء بالضرورة، وإنما هو رضا بما وقع من قدرٍ عكس ما تهوى.
هذه الخبرات أو المكابدات الخمس تُبلور في نفسك قوَّة روحيَّة، وبأسا نفسيّا، وحدَّة عقليَّة؛ لا يمكن ادعاؤها أو تزييفها أو التظاهُر بها. إنها قدرة عجيبة لا يُمكن وصفها، وإنما يمكن تذوقها فحسب. وهي ليست دائمة مستمرة بلا انقطاع، وإنما هي حالٌ غالِب. فقد تستشعر ضعفا بشريّا وخوفا إنسانيّا، ورغبة في الإحجام؛ بيد أن هذه الصلابة الإيمانية تحول دون إحجامك كأنها سدٌّ من نفسك يحول دون نكولها. وهذا لا يعني أنك لا تتأثر بما يقع لك، وما يجدُّ عليك؛ وإنما يعني تزايُد الرغبة الحارقة في استمرار السير، خصوصا كلما زادت المشقَّة. كأن بأسك يتغذى من المشقَّة، ويرتوي من الصعاب: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة".
فإذا أردت بلوغ هذه المرتبة من القوة والبأس، ومواجهة نفسك والتغلُّب عليها وسياقتها، وخوض هذه المكابدات والخروج منها أشد برحمة الله؛ فاعلم أن هذا لا يتسنى إلا بأن تبدأ بمعرفة نفسك، ثم التحلي بقيم تأسيسية مثل: الصبر على عدم تحقُّق قيمك في الواقع مع عدم التخلي عنها، والصبر على المضي في طريق غير مطروق اخترته لنفسك وأقمت فيه، والصبر على قول الحق وعلى قلة التواصي به وبالصبر. فإن هذا البأس سيغرسك في أرض يدهمها كل حين قطيع عاتي؛ فإما استعنت بالله وهُديت إليه، ووثقت فيما أقامك فيه؛ فوثقت في نفسك ثقة ناضجة لا أوهام فيها ولا تسلُّط للأنا الغافلة عن ربها، وإما الضياع والعياذ بالله.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الإنسان روحه الصبر إنسان روح صبر قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة مقالات اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التخلی عن لا ی مکن فی نفسک بید أن
إقرأ أيضاً:
أنا في أم الدنيا.. المعارض علي حسين مهدي: حصولى على العفو الرئاسي لحظة تاريخية
كشف المعارض علي حسين مهدي، كواليس عودته مرة أخرى إلى مصر بعد حصوله على عفو رئاسي.
وقال علي حسين مهدي في فيديو نشره على صفحته على فيبسبوك، :" من حدائق فلوريدا إلى حدائق أم الدنيا وأنا أسعد واحد في الدنيا لإني في مصر ".
وتابع علي حسين مهدي :" أنا غايب عن مصر منذ 7 سنوات أنا الأيام الجاية هقولكوا ليكم على تفاصيل ومفاجات وأسرار كثيرة ".
وأكمل علي حسين مهدي :" في ظل إدارة بايدن في يوليو 2024 تم التضييق علينا في أمريكا واتفصلنا عن جامعتنا وشغلنا وكان هناك مطاردة لنا ".
وتابع علي حسين مهدي :" قررت اتنازل عن الإقامة في أمريكا وأرجع إلى مصر واتوقفت في المطار عشان القضايا اللي عليا وتم احتجازي في أحد مراكز الإصلاح لمدة عام ".
وأكمل علي حسين مهدي :" حصولي على العفو الرئاسي لحظة تاريخية ".