الذكاء الاصطناعي يكشف عن دور صانع المفاتيح الجينية في جسمك
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
لطالما حير العلماء لغز تحول خلية واحدة إلى مليارات الخلايا المتخصصة التي تشكل أجسام الكثير من الكائنات الحية، من خلايا دم تحمل الأكسجين إلى خلايا قلبية نابضة من بداية العمر إلى نهايته، وحتى خلايا دماغ عصبية معقدة وشديدة الحساسية. هذا هو جوهر ما يعرف بيولوجيًا باسم "التمايز الخلوي".
ورغم احتواء كل خلية حية على نفس الجينات، فإن كلا منها تتمايز بشكل مختلف أثناء النمو وتكون الجنين عبر نوع مميز من الخلايا يسمى الخلايا الجذعية والذي يمتلك مرونة تمايز مذهلة.
وتكمن مشكلة التمايز الخلوي في أن "عوامل النسخ" -وهي البروتينات التي تعمل مفاتيح لتشغيل وتثبيط الجينات- غالبًا ما توجد بمستويات متداخلة في الخلايا الجذعية، مما يصعّب من فهم كيفية اكتساب كل خلية هويتها الدقيقة.
وفي سياق هذا اللغز المُعقد، ركزت دراسة حديثة، منشورة في دورية "ذا سيل" على آليات بيولوجية مثيرة وغير متوقعة تتحكم في هذه العملية.
وتقول مي مبروك، أستاذة المعلوماتية الحيوية الطبية بجامعة النيل الأهلية المصرية، وغير المشاركة في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت "تُعدّ الدراسة نموذجًا متقدمًا في الربط بين التجريب واسع النطاق والنمذجة التنبؤية، وتفتح المجال لتطبيقات محتملة في العلاج الجيني والهندسة الخلوية."
وتضيف "هذه الدراسة تُعدّ الأولى من نوعها في تقديم تحليل وظيفي شامل للتفاعلات بين 38 عامل نسخ في خلايا جذعية دموية أولية، وهذا ما يمنحها ثقلًا رياديًا في هذا المجال".
لتجاوز تعقيدات الجينوم الطبيعي، تبنى الباحثون نهجًا فريدًا من نوعه. فبدلاً من دراسة الجينات كما هي في الطبيعة، قاموا بتصميم وبناء 64.400 تسلسل حمض نووي اصطناعي، تحتوي على مواقع ارتباط محددة لـ 38 عامل نسخ رئيسي.
إعلانوسمحت هذه البيئة الجينية المُحكمة بالتحكم الكامل في كل متغير، مثل عدد مواقع الارتباط وقوتها والمسافة بينها.
ولتبسيط الأمر، تخيل الجينوم البشري كأنه وصفة الطعام الكاملة في كتاب الطهي. تحتوي على جميع التعليمات اللازمة لطهي طبق معين. أما المحفز فهو عنوان الوصفة في كتاب الطهي. يخبرك هذا العنوان بمكان بدء قراءة الوصفة (الجين) وكيفية العثور عليها. إنه الجزء الذي يتعرف عليه الطاهي (عامل النسخ) ليبدأ في تنفيذ الوصفة.
عامل النسخ هو الطاهي الذي يقرأ الوصفة (الجين) ويبدأ في طهيها. يتعرف الطبّاخ على عنوان الوصفة (المحفز) ويتبع التعليمات لإنتاج الطبق (البروتين). وهناك أنواع مختلفة من الطهاة (عوامل النسخ) الذين يتخصصون في أنواع معينة من الوصفات أو الذين يمكنهم تسريع أو إبطاء عملية الطهي.
وتشرح مي مبروك "اعتمدت الدراسة على منهجية مبتكرة تقوم على استخدام تسلسلات حمض نووي اصطناعية مصممة بعناية لتحتوي على مواقع ربط لعوامل نسخ مختارة ضمن خلفيات عشوائية، مما يسمح بعزل تأثير تلك العوامل بعيدًا عن التعقيدات الجينومية الطبيعية".
وتضيف "لقياس نشاط هذه المحفزات، استخدم الباحثون تقنية الاختبار الموازي على نطاق واسع للمراسل، وهي تقنية تسمح بتقييم آلاف التسلسلات في آنٍ واحد، من خلال ربط كل محفز بكود باركودي فريد يمكن تتبعه عبر التسلسل".
وتُعد هذه التقنية أداة مثالية لتحديد القواعد التنظيمية لعملية التمايز والتي يصعب اكتشافها باستخدام التسلسلات الجينومية الطبيعية وحدها. وقد أجريت التجارب على خلايا الدم الجذعية والسلائف الأولية للفئران، التي تمايزت في المختبر إلى 7 حالات خلوية مختلفة، مما يحاكي بدقة عملية التمايز الطبيعية في الجسم.
وهذه الخلايا نوع من الخلايا الجذعية متعددة القدرات، وتوجد بشكل أساسي في نخاع العظم، ولديها قدرة فريدة على تجديد نفسها وإنتاج جميع أنواع خلايا الدم المختلفة في الجسم، بما في ذلك خلايا الدم الحمراء، والخلايا الليمفاوية، والخلايا النخاعية وغيرها.
الازدواجيات الثلاثةبعد جمع البيانات من التجارب، استخدم الباحثون أدوات الذكاء الاصطناعي لبناء نماذج يمكنها التنبؤ بكيفية تصرف المحفزات الجينية المختلفة في ظل ظروف معينة أو في خلايا محددة. وهذه النماذج تساعد على فهم القواعد التنظيمية المعقدة التي تحكم التعبير الجيني.
تقول مي مبروك "تسلّط هذه الدراسة الضوء على 3 آليات رئيسية تتحكم في خصوصية المحفزات الجينية حسب حالة الخلية أثناء تمايز الخلايا الجذعية الدموية" وتضيف "هذه المبادئ مكّنت الفريق من تصميم محفزات اصطناعية ذات نشاط محدد في حالات خلوية معينة".
وأول المبادئ الثلاثة التي كشفتها الدراسة أن بعض عوامل النسخ تمتلك ازدواجية وظيفية، حيث تعمل كمحفزات أو كمثبطات تبعًا لمستوى تموضعها على المحفز، فيما يُعرف بـ"ازدواجية التفاعل المعتمدة على الإشغال".
كما تم الكشف عن ازدواجية أخرى تعرف باسم "الازدواجية المعتمدة على حالة الخلية" حيث تختلف وظيفة عامل النسخ ذاته في الحالات الخلوية المختلفة، نتيجة تغير السياق التنظيمي أو البيئي.
إعلانوقدمت الدراسة مفهومًا غير مسبوق من ازدواجية ثالثة يُعرف بـ"الازدواجية التركيبية" حيث يمكن لمزيج من عوامل منشّطة أن يؤدي إلى تثبيط التعبير الجيني، نتيجة لتآزر سلبي مثبط بين عوامل النسخ.
وتوضح مي مبروك أهمية هذا الاكتشاف قائلة "يمثّل اكتشاف التآزر السلبي إحدى أهم المفاجآت التي خرجت بها الدراسة، إذ يبيّن أن الجمع بين عوامل نسخ منشّطة يمكن أن يؤدي، في بعض السياقات، إلى كبح النشاط الجيني بدلاً من تعزيزه". وتضيف "هذا الاكتشاف يتحدى الفرضيات التقليدية التي تفترض أن دمج مواقع تنشيط يؤدي إلى تراكم الأثر المحفّز".
وكانت هذه التآزرات السلبية في حالات متعددة مرتبطة بالنسب المحددة بين عوامل النسخ وليس بهويتها الفردية فقط. وهذا يعني أن المحفزات الجينية تعمل كـ"أجهزة استشعار" قادرة على قراءة التوازن الدقيق بين عوامل النسخ، مما يفسر قدرة الخلايا الجذعية على الحفاظ على حالتها رغم وجود إشارات محفزة للتمايز.
"مفاتيح الحياة" حسب الطلبتفتح هذه الاكتشافات الباب أمام إمكانيات جديدة في تصميم المحفزات الجينية كمفاتيح تحكم للحياة بقدرات تنظيمية مذهلة. فقد تمكن الباحثون من تصميم محفزات اصطناعية تحقق أنماط نشاط محددة في خلايا معينة، مما يمثل قفزة نوعية في مجال البيولوجيا التركيبية. هذه القدرة على "تصميم" عناصر تنظيمية حيوية من الصفر تحمل وعودًا كبيرة في عدة مجالات.
وسيلعب توجيه الخلايا الجذعية للتمايز بدقة إلى أنواع خلايا محددة دورًا كبيرا في استبدال الأنسجة التالفة، كما قد ينجح تطوير علاجات جينية أكثر دقة تستهدف الخلايا المريضة فقط، مما يقلل الآثار الجانبية. ويُعد تصميم نماذج خلوية للأمراض -لفهم كيف يؤدي الخلل بالتنظيم الجيني لأمراض معقدة مثل السرطان- أحد أهم التطبيقات البحثية المستقبلية.
ولفهم تأثير هذه المبادئ في سياق الأمراض، قارن الباحثون سلوك عوامل النسخ في الخلايا الجذعية الطبيعية بخلايا "كي 562" وهي سلالة خلايا سرطان الدم. وتعلق مي مبروك على النتائج بقولها "تُظهر المقارنة بين الخلايا الجذعية الأولية وخلايا كي 562 السرطانية وجود اختلافات جوهرية في سلوك المحفزات، لا سيما في قدرة عوامل النسخ على التثبيط".
إن فقدان العديد من عوامل النسخ قدرتها التثبيطية في خلايا "كي 562" يعني أن "الفرامل" الجينية التي تمنع التعبير غير المرغوب فيه قد تكون معطلة في الخلايا السرطانية.
وتشرح مي مبروك "هذه النتائج تؤكد محدودية تعميم بيانات كي 562 عند محاولة استقراء نتائجها على السياقات الفسيولوجية الطبيعية، وتشدد على أهمية استخدام نماذج أولية أكثر قربًا من الوضع الحيوي الحقيقي عند دراسة التنظيم الجيني والتمايز".
وتكشف النتائج عن فهم أعمق لكيفية تفسير الخلايا لاختلافات كمية في التعبير عن عوامل النسخ، وتحويلها إلى قرارات نوعية وحاسمة في مصير الخلية. وتختتم مي مبروك "من خلال إظهار أن نسب التعبير بين عوامل النسخ، وليس فقط وجودها الفردي، هي المحدد الفعلي لنشاط المحفزات، تعيد الدراسة صياغة تصوراتنا حول الآليات التي تضبط التمايز الخلوي".
وهذه الدراسة ليست مجرد إنجاز علمي، بل هي خطوة محورية نحو فك أحد ألغاز الحياة المعقدة والكامنة داخل خلايانا، كما تفتح بابًا واسعًا للكثير من الأبحاث وتمنح البشرية أداة جديدة ربما تصنع المعجزات.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات الخلایا الجذعیة فی خلایا
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: الإفتاء في زمن الذكاء الاصطناعي
لم يكن المؤتمر العاشر للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم مجرد تظاهرة علمية روتينية، بل كان انعطافة حقيقية في مسار الفكر الإفتائي المعاصر، إذ جمع بين أهل الفقه ومهندسي التقنية وصناع القرار، ليبحثوا في سؤال لم يعد مؤجلًا: كيف يمكن لمؤسسات الإفتاء أن تظل وفيّة لمرجعيتها الشرعية، وهي تخوض غمار عصر تتسارع فيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتعيد تشكيل طرق المعرفة ووسائطها؟
في قلب هذه الفعالية برزت “وثيقة القاهرة حول الذكاء الاصطناعي والإفتاء” باعتبارها أهم مخرجات المؤتمر وأبرز تعبير عن الوعي الاستباقي الذي بدأ يتشكل في العقل الإفتائي العالمي. الوثيقة لا تكتفي بتحديد موقف فقهي من التقنية، بل تؤسس لرؤية مقاصدية متكاملة، تتجاوز الانفعال الظرفي إلى رسم خطوط منهجية لضبط العلاقة بين الإنسان والآلة في ميدان الفتوى.
هذه الوثيقة تنطلق من مبدأ راسخ: أن الإفتاء فعل إنساني مركب لا ينفصل عن ملكات العقل الفقهي، ولا يجوز إسناده إلى البرمجيات استقلالًا، لأن الاجتهاد يتطلب إدراك المقاصد، وفهم السياقات، واستحضار المآلات، وهي عناصر لا تتوافر في المعالجة الآلية مهما بلغت من التطور. لكنها، في الوقت ذاته، لا تدعو إلى الانغلاق أو رفض التقنية جملة، بل تفتح الباب أمام توظيفها كأدوات مساندة للمفتي، شريطة أن تكون خاضعة لضوابط معرفية وأخلاقية واضحة.
من أبرز ما شددت عليه الوثيقة ضرورة بناء أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي في الإفتاء، وذلك عبر لجان رقابة علمية مستقلة، تمنع تسلل الفوضى أو التلاعب بالبيانات، وتحول دون خضوع الفتوى لهيمنة مصادر غير منقحة أو موجهة أيديولوجيًا. كما حذرت من مخاطر الاعتماد على قواعد بيانات مفتوحة مجهولة المصدر، لما يترتب على ذلك من تحريف المعاني الشرعية أو إسقاط الأحكام في غير مواضعها.
على المستوى الأصولي، اعتمدت الوثيقة على جملة من القواعد الكبرى مثل “اعتبار المآل” و”سد الذرائع وفتحها” و”الوسائل لها حكم المقاصد”، لتؤكد أن إدخال التقنية في الإفتاء لا يمكن أن ينفصل عن فقه الضوابط والحدود. وهي بهذا تضع حدًا لتوجهين متقابلين: توجه الانبهار الذي يلهث وراء التقنية دون ضوابط، وتوجه الرفض المطلق الذي يحكم عليها بالفساد قبل النظر في إمكان توظيفها الرشيد.
ولعل البعد الاستراتيجي في هذه الوثيقة يكمن في دعوتها إلى إعادة صياغة مناهج إعداد المفتين، بحيث تتضمن تدريبًا على أدوات التحليل الرقمي وفهم منطق عمل النظم الذكية، لا بهدف تحويل الفقيه إلى مبرمج، بل لتمكينه من توجيه التقنية ومساءلتها بدل الانقياد لنتائجها الجاهزة. كما طرحت فكرة التعاون الدولي بين دور الإفتاء لتوحيد المعايير والمصطلحات في ظل بيئة رقمية عابرة للحدود، وهو ما يفتح الباب أمام “حوكمة عالمية للفتوى” قادرة على مواجهة التحديات المشتركة.
بهذا التصور، يصبح الإفتاء في زمن الذكاء الاصطناعي مجالًا لإعادة هندسة العلاقة بين المرجعية الشرعية والوسائط التقنية، حيث يظل الإنسان هو صاحب القرار الاجتهادي، بينما تعمل الآلة كامتداد لأدواته، لا كبديل عنه. وإذا ما تحولت هذه الوثيقة من نصٍّ إرشادي إلى إطار إلزامي داخل المؤسسات الفقهية، فإنها قد تؤسس لمرحلة جديدة تحفظ للفتوى أصالتها، وتضمن في الوقت ذاته انفتاحها على أدوات العصر.
إن التحدي الأكبر اليوم ليس في إدخال الذكاء الاصطناعي إلى منظومة الإفتاء، بل في ضمان أن يكون دخوله مضبوطًا برؤية مقاصدية، تحفظ الإنسان من الاستلاب، والمجتمع من الفوضى الرقمية، والشريعة من التفريغ من معناها. وهذا ما جعل وثيقة القاهرة لا تُقرأ فقط كأحد مخرجات مؤتمر، بل كبوصلة فكرية توجه الإفتاء نحو مستقبل متوازن، تتكامل فيه الحكمة مع التقنية، والمرجعية مع الابتكار، في خدمة مقاصد الشريعة وحاجات الإنسان المعاصر.