محمد عبدالسميع

بإدراج موقع «المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية» في الشارقة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، تسجل دولة الإمارات العربية المتحدة إنجازًا تاريخياً جديدًا في مسيرتها لصون التراث الثقافي بعد اعتماد ملف الفاية من لجنة التراث العالمي في دورتها الـ47 التي عقدت مؤخراً في باريس، وبهذا الاعتماد تحقق للإمارات إنجاز تاريخي يعكس عمقها الحضاري ودورها المحوري في إعادة رسم مسارات الهجرات البشرية المبكرة.

وفي حواره مع «الاتحاد»، يسلّط عيسى يوسف، مدير عام هيئة الشارقة للآثار، الضوء على المنهجيات العلمية والدبلوماسية، التي قادت إلى هذا الاعتراف الدولي، ويستعرض ملامح المرحلة المقبلة في البحث الأثري، ودور الشارقة في صياغة هوية ثقافية إماراتية متصلة بجذور الإنسانية.

بداية يتحدث عيسى يوسف عن المنهجية والأبعاد الفاعلة في ترشيح موقع (الفاية)، ومن ثم إدراجه على قائمة التراث العالمي لليونسكو، قائلاً: «اعتمدنا في هيئة الشارقة للآثار على منهجية علمية متكاملة عند إعداد ملف ترشيح «المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية» لقائمة التراث العالمي، تستند إلى ثلاث ركائز رئيسية: البحث الميداني الدقيق، والتوثيق العلمي المتكامل، والتنسيق المؤسسي والدبلوماسي. فعلى الصعيد البحثي، شكّلت نتائج أكثر من ثلاثة عقود من التنقيب والدراسات المشتركة مع جامعات عالمية -أبرزها جامعة توبنغن الألمانية وأوكسفورد بروكس البريطانية- الأساس العلمي لإثبات القيمة العالمية الاستثنائية للموقع. أما على صعيد التوثيق، فقد حرصنا على بناء ملف متكامل يراعي معايير مواقع «المشهد الثقافي»، التي وضعتها اليونسكو، ويُظهر دور الفاية في رسم مسارات الهجرة البشرية المبكرة وتطور الحضارات في شبه الجزيرة العربية. وعلى المستوى المؤسسي، جاء العمل ثمرة تنسيق وطني متكامل ودعم مباشر من حكومة الشارقة ووزارة الخارجية، وبرز فيه الدور القيادي لسمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، سفيرة موقع الفاية للتراث العالمي، حيث قادت الجهود الدبلوماسية والثقافية للموقع على الساحة الدولية، وقدّمت روايته للعالم بلغة معاصرة، عززت من قوة الملف في أروقة لجنة التراث العالمي، وأسهمت بشكل حاسم في نيل هذا الاعتراف التاريخي».
وفي إجابته عن سؤال حول الدراسات البحثية والاكتشافات الأثرية للمنطقة، وما حققته من اهتمام الآثاري عالمي بالشارقة، في موقع (الفاية)، وكيف سينسحب ذلك على مزيد من الجهود والدراسات، يقول مدير عام هيئة الشارقة للآثار: «مثّلت الاكتشافات في موقع جبل الفاية نقلة نوعية في فهم تاريخ الاستيطان البشري في شبه الجزيرة العربية، إذ وفّرت دلائل طبقية تعود إلى أكثر من 200 ألف عام، تؤكد أن الفاية كانت محطة رئيسية في مسارات الهجرة البشرية المبكرة من أفريقيا إلى آسيا. وقد غيّرت هذه النتائج العديد من الفرضيات العلمية التقليدية حول توقيت وطرق خروج الإنسان العاقل من أفريقيا. وقد تُوِّجت هذه الجهود العلمية بإدراج الموقع على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 2025، وهو اعتراف دولي بالقيمة العالمية الاستثنائية للموقع ودوره في إعادة كتابة تاريخ ما قبل التاريخ في المنطقة. هذا الإنجاز يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من البحث والتوسع في الدراسات، حيث نعمل حالياً على رسم خريطة أولويات للمواقع الأثرية في المنطقة الوسطى من الشارقة، بهدف استكمال التنقيبات وإجراء دراسات مقارنة تعمّق فهمنا للبيئات القديمة وتطور الحضارات المبكرة في دولة الإمارات.

استراتيجية شاملة
ينتقل مدير عام هيئة الشارقة للآثار في حديثه إلى أهم النقاط العريضة التي يعملون عليها في هيئة الشارقة للآثار في مجال التنقيب والتوثيق، قائلاً: «تتبنى هيئة الشارقة للآثار استراتيجية شاملة في عملها الميداني والعلمي، تقوم على مزيج من التنقيب المنهجي، والتوثيق الرقمي، والنشر الأكاديمي، وحماية المواقع، والتوعية المجتمعية. وعلى مستوى، التنقيب المنهجي، تنفذ فرق الهيئة، إلى جانب فرق دولية من جامعات مرموقة، مسوحات وتنقيبات موسمية وفق أعلى المعايير العلمية. ويشرف على هذه الجهود المستشار الدكتور صباح جاسم، الذي يقود برامج التنقيب الميداني وتوثيق المواقع الأثرية في الإمارة. أما على صعيد، التوثيق الرقمي، فالعمل جاري على تطوير قواعد بيانات متكاملة للقطع والمواقع الأثرية وربطها بأنظمة المعلومات الجغرافية، بما يسهل حفظها وإتاحتها للباحثين».
ويضيف عيسى يوسف: «فيما يتعلق بالنشر الأكاديمي، فالهيئة تصدر حولية آثار الشارقة بشكل دوري، وتشارك بنتائجها في مجلات علمية محكّمة ومؤتمرات دولية متخصصة، بينما تعتمد الهيئة في جهودها لحماية المواقع سياسات وخطط حماية طويلة الأمد، بالتعاون مع الجهات المحلية، تضمن استدامة المواقع المكتشفة وتوظيفها في التنمية الثقافية والسياحية. وفيما يتعلق بالتوعية المجتمعية، فإن الهيئة تنظم فعاليات ومعارض ومحاضرات على مدار العام لتعزيز وعي الجمهور بالتراث الثقافي وأهميته في تشكيل الهوية الوطنية».

أخبار ذات صلة «اللوفر أبوظبي» يحتفي بالمبدعين تشكيليون: نحتاج إلى قراءات نقدية فكرياً وجمالياً

كفاءات إماراتية
يؤكد مدير عام هيئة الشارقة للآثار على اعتزازه بوجود فريق عمل إماراتي ذي كفاءات نوعية في مجال الاكتشافات الأثرية في الشارقة، من حيث الخبرة والطموح، ويضيف: «نفخر اليوم بوجود فريق إماراتي مؤهّل في مجال الآثار، يجمع بين الخبرة الميدانية والقدرة البحثية الأكاديمية. فقد عملنا خلال السنوات الماضية على إعداد هذا الفريق عبر برامج تدريب متخصّصة داخل الدولة وخارجها، شملت المشاركة في مواقع تنقيب دولية، والتعاون مع بعثات وجامعات مرموقة في أوروبا وآسيا. كما نحرص على تمكين الكفاءات الوطنية من قيادة المشاريع الميدانية ونشر أبحاثهم في الدوريات العلمية، إلى جانب تزويدهم بفرص تطوير مستمرة في مجالات تحليل المكتشفات الأثرية وتقنيات التوثيق الرقمي. وقد أسهمت هذه الرؤية في تخريج جيل من الباحثين الشباب القادرين على تمثيل دولة الإمارات في المحافل العلمية الدولية، والمساهمة في صياغة خطاب أثري إماراتي يواكب المعايير العالمية».

أنموذج ملهم
في حديثه عما تشهده دولة الإمارات من ترسيخ للهوية الثقافية وتعزيز لحضور التراث والآثار في استراتيجياتها الوطنية، وهو ما يظهر جلياً في الدعم المستمر لمشاريع التنقيب والحماية التي تنفذها مختلف الإمارات، يؤكد مدير عام هيئة الشارقة للآثار أن هذه السياسات تركّز على تعزيز مشاريع التنقيب والحماية، وتوفير الأطر التشريعية والتمويل المستدام، إلى جانب إدماج التراث الثقافي في المناهج التعليمية والمبادرات السياحية، بما يضمن أن يصبح الوعي الأثري جزءاً من الثقافة المجتمعية. مضيفاً أن الدولة تعمل على ترشيح مواقع جديدة لقائمة التراث العالمي بالتنسيق بين الجهات المحلية والاتحادية، ما يعكس تكاملاً وطنياً يضع التراث في قلب مسيرة التنمية.
ويضيف: «في هذا الإطار، شكّلت الشارقة نموذجاً ملهماً بفضل رؤية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي جعل من حماية وصون الآثار مشروعاً حضارياً متكاملاً يربط الماضي بالحاضر والمستقبل. وقد كان لدعم سموه المستمر الدور الأبرز في تطوير البنية البحثية وإنجاح ملف ترشيح الفاية. وإلى جانب ذلك، لعبت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي دوراً محورياً في حمل رسالة الفاية إلى المحافل الدولية بصفتها سفيرة ملف الترشيح، حيث أسهمت في إبراز القيمة العالمية للموقع وحشد التأييد حوله.
ولا يمكن إغفال الجهود الدبلوماسية التي قادتها وزارة الخارجية والسفير علي الحاج آل علي، المندوب الدائم لدولة الإمارات لدى اليونسكو، والتي مثلت امتداداً طبيعياً لرؤية الدولة في تقديم التراث الإماراتي إلى العالم. كما جاء التعاون الوثيق مع الأمانة العامة للمجلس التنفيذي لإمارة الشارقة والدوائر المحلية، إضافة إلى دعم المجتمع المحلي في المنطقة الوسطى، ليجسّد نموذجاً عملياً للشراكة الوطنية التي تقف خلف هذا الإنجاز.

لحظة استثنائية
يختتم مدير عام هيئة الشارقة للآثار حديثه بالإشارة إلى أثر الاحتفالية التي جرت في باريس، بإدراج (الفاية) على قائمة التراث العالمي لليونسكو، كانتصار كبير وتاريخي للشارقة والإمارات، كما وصفت ذلك الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، قائلاً: «كانت الاحتفالية في باريس لحظة استثنائية تعكس حجم الإنجاز الوطني، إذ جمعت نخبة من ممثلي لجنة التراث العالمي، والخبراء، والدبلوماسيين، وشكّلت إعلاناً عالمياً عن المكانة التي بلغتها دولة الإمارات في مجال صون التراث الإنساني. وقد مثّل الحدث محطة رمزية تتوّج عقوداً من العمل الميداني والبحثي والتعاون الدولي الذي قادته الشارقة. وكما وصفته الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، فقد شكّل هذا الإدراج انتصاراً كبيراً للشارقة ودولة الإمارات، ورسالة مفادها أن قصة الفاية ليست ملكاً لمكان واحد، بل جزء من الحكاية الكبرى للبشرية.  

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: التراث الثقافي اليونسكو هيئة الشارقة للآثار الإمارات الآثار التاريخ التراث العالمي الفاية على قائمة التراث العالمی للیونسکو الشیخة بدور بنت سلطان القاسمی دولة الإمارات إلى جانب فی مجال

إقرأ أيضاً:

ورحل صنع الله إبراهيم

قابلت صنع الله إبراهيم لأول مرة فى مكتب الدكتور لويس عوض فى صيف عام ١٩٨٤. تحولت الجلسة بعد دقائق إلى ندوة ثرية فأنا أمام قامتين من كبار رجال الفكر والأدب والنضال، فكلاهما عاش تجربة الاعتقال ومصادرة الكتب وغير ذلك من الأمور التى جعلت هؤلاء الأدباء المعتقلين يحبون السجون، خاصة إذا كانت ملهمة لأعمال أدبية.. صنع الله إبراهيم كان يقول عن سنوات المعتقل إنها مدرسة تعلم فيها قيما - ايجابية أو سلبية - عن قاع المجتمع. 
** رواية اللجنة كانت إحدى ثمار سنوات السجن السياسى ولكن الحقيقة أن أغلب أعماله بها الكثير من ظلال وروح المعتقل مثل يوميات الواحات وغيرها.
** إن المدخل الذى حدد لصنع الله إبراهيم إطار قراءته الواعية لنظام الحياة فى مصر مدخل ذو طبيعة مزدوجة، ويشتبك هذا بأهمية التراث ودوره فى تشكيل الحاضر فى اعادة صياغة التراث، وهو أمر يعود إلى خطاب النهضة التنويرى. وكانت الأزمة هى كيف يصل هذا الفكر إلى السواد الأعظم، ربما كان من حظ المشاهدين للدراما على مستوى واسع هو تنفيذ رواية (ذات) التى اخرجتها المخرجة الواعية كاملة أبو ذكرى. الكثير من الجماهير المصرية والعربية عرفوا صنع الله إبراهيم من هذا المسلسل، وبدأ الإقبال يزيد على قراءة ذات وأخواتها عرف الناس أعمالا أدبية أخرى لصنع وكأنها تكتشف كنزاً من الثراء الفكرى.
** فى رواية برلين ٦٩ نرى بجلاء الحياة فى برلين عام ١٩٦٩ مع التركيز على واقع الانقسام بين الشرق والغرب وتأثيره على حياه الناس خاصة العرب والاكراد الذين يعيشون هناك، تكشف الرواية بعمق وعبقرية نادرة فى الكتابة الروائية، معاناة الألمان بعد بناء سور برلين وتوثق فى ثورة الشباب فى نهاية الستينيات من القرن الماضى، بالاضافة إلى تفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية فى المدن الكبرى والصغرى..، وأعتقد - على ما أعلم أن هذه الرواية - سباقة على تأريخ هذه الأحداث المهمة التى غيرت من شكل العالم خاصة فى التسعينيات من القرن الماضى، التحول الذى رمى إلى حذف الكثير من القيم والتقاليد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الثابتة وتحويلها - بعنف وشدة - إلى دوامات من الفوضى.
** ينطلق صنع الله إبراهيم من مقولة شائعة عند عديد من المفكرين فحواها أن الثقافة العربية عموماً والمصرية على وجه الخصوص، تعانى من ازدواجية تقسمها إلى ثقافتين، أو بالأحرى إلى تيارين تيار شرقى هو الأوسع شعبياً على مستوى واسع فى غالبية أقطارنا العربية وعلى علاقة منصهرة مع التراث العربى العتيق - وقد حاول البعض من المفكرين عودة هذا التراث العربى دون تطوير أو دعم من أساليب الحداثة، فكان الناتج هو هذا الانغلاق الثقافى بدأ فى سنوات السبعينيات من القرن الماضى وللاسف لا يزال يرمى بظلاله على المجتمعات المصرية والعربية ومعه يتم تدمير أساليب الحداثة بأشكالها.. هذه القضية كانت محور تفكير صنع الله إبراهيم، وقد تركت بصماتها واضحة شاملة فى أغلب رواياته. وكانت أيضا محور تحريك احداث أعماله.
** ولهذا فقد تميزت روايات صنع بتوثيق ذلك مختلطة مع سيرته الذاتية، من جهة ومع تاريخ مصر من ناحية أخرى. ظهر ذلك واضحاً فى - اللجنة - والتى نشرت متأخرة عن تاريخها عام ١٩٨١ وفيها هجاء ساخر لسياسة الانفتاح الاقتصادى الذى انتشر فى عهد السادات وقلب موازين الشعب المصرى. وحياته وتاريخه..
وللاسف لاتزال
** كنت حاضراً فى حفل توزيع الجوائز فى مؤتمر الرواية العربية عام ٢..٣ فى الأوبرا المصرية ورفض صنع الجائزة وقال بصوت شامخ إنها جائزة أمريكية الرائحة واعتذر عنها وكان حدثا مهما.
** فاز صنع الله ابراهيم بمجموعة من الجوائز العربية أهمها جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004 وجائزة كفافى للأدب عام ٢0١٧ وغيرهما.
ترك صنع تراثًا أدبيا راقيا فى مجال الرواية. أتمنى من الشباب العربى أن يعيد قراءته. وأتمنى من هيئة الكتاب طبع أعماله فى طبعات شعبية تتيح للشباب قراءته. أيضا أتمنى من وزارتى التربية والتعليم والتعليم العالى، تدريس روايات صنع الله على مستوى أوسع لقيمتها الفكرية.

‏[email protected]

مقالات مشابهة

  • مصر تتسلم مجموعة من القطع الأثرية من هولندا تنتمي لحقب زمنية مختلفة
  • مصر تتسلم مجموعة قطع أثرية من هولندا تنتمي لحقب زمنية مختلفة
  • ورحل صنع الله إبراهيم
  • «الشارقة للشطرنج» يتصدر بطولة الإمارات
  • مصر تحتفل بـ عيد وفاء النيل.. تقدير لتاريخ النهر ودوره في بناء الحضارة
  • ميرفت ألكسان : رقمنة التراث الإعلامي توثيق لتاريخ مصر
  • ذمار.. اكتشاف سرداب ومعالم أثرية محتملة في وصاب وسط مخاوف من تعرضها للنهب
  • معرض مؤقت للآثار الغارقة بالإسكندرية الأسبوع المقبل
  • «شطرنج الشارقة» يحتفي باليوم الوطني الهندي ببطولة الجالية