الحدود المشتعلة بين باكستان وأفغانستان: منطق القوة أم مسؤولية الأمة في درء البغي؟
تاريخ النشر: 16th, October 2025 GMT
يشكل التصعيد العسكري بين باكستان وأفغانستان في تشرين الأول/ أكتوبر 2025 لحظة مفصلية في تاريخ التفاعلات الأمنية في جنوب آسيا، إذ تجاوز حدوده الجغرافية إلى ما هو أعمق من نزاع حدودي عابر، ليكشف عن مأزق بنيوي يربط الإرهاب بالسيادة، والجغرافيا بالهشاشة المؤسسية، والدولة بحدود نفوذها الفعلي. فقد شهدت مناطق تشامان-سبين بولدك وكورم اشتباكات عنيفة امتدت أسبوعا كاملا، استُخدمت فيها المدفعية والطيران، قبل أن يعلن الطرفان وقفا مؤقتا لإطلاق النار مدته 48 ساعة في الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، بعد سقوط عشرات القتلى والجرحى من الجانبين.
تستند القراءة الميدانية إلى معطى أول يتعلق بطبيعة الجماعات العابرة للحدود، وعلى رأسها تنظيم تحريك طالبان باكستان (TTP) وداعش خراسان. فهذه الكيانات وجدت في البيئة الأمنية الأفغانية بعد 2021 فضاء ملائما لإعادة التموضع، مستفيدة من ضعف المراقبة الميدانية ومن هشاشة البنية الاستخبارية في كابول. وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن نشاط هذه الجماعات يمثل اليوم أخطر مصدر تهديد للأمن الباكستاني، إذ تنطلق منها هجمات متكررة على أهداف عسكرية داخل إقليم خيبر بختونخوا وبلوشستان. وقف النار المعلن في منتصف أكتوبر لم يكن سوى محطة اختبار لإرادة ضبط التوتر، فهو يعكس إدراكا متبادلا بأن الاستمرار في التصعيد سيفضي إلى نتائج عكسية: إضعاف الردع، وتفكك التحالفات الإقليمية، واستنزاف الاقتصادين الهشين في البلدين. لكن الهدنة وحدها لا تكفي ما لم تتحول إلى إطار منظم للتنسيق الحدوديمن هذا المنطلق حاولت إسلام آباد تبرير ضرباتها الجوية داخل الأراضي الأفغانية بأنها تدخل في إطار الرد الوقائي على مصادر الخطر. أما كابول فاعتبرت تلك الضربات عدوانا صريحا على السيادة الوطنية وخرقا لقواعد القانون الدولي، مؤكدة أن مكافحة الإرهاب لا تبرر انتهاك الحدود ولا المساس بالأراضي الأفغانية. وهكذا أصبح الإرهاب لغة مشتركة للاتهام المتبادل، يُستخدم لتبرير القصف كما يستخدم لتعبئة الرأي العام.
غير أن الجذر العميق للصراع يتجاوز الظرف الأمني المباشر، ليعود إلى المسألة التاريخية المزمنة المسماة خط دوراند. فبينما ترى باكستان في هذا الخط حدا دوليا شرعيا ورثته عن التقسيم الاستعماري، ترفض أفغانستان الاعتراف به باعتباره قسمة فرضها الخارج ولا تعبر عن الهوية القبلية المشتركة التي تتجاوز الحدود. هذا الخلاف التاريخي جعل من الجغرافيا ساحة للتنازع الاستراتيجي، ومن كل حادث حدودي اختبارا لمشروعية الدولة. لذلك تتحول المناوشة الميدانية بسرعة إلى أزمة سيادة، ويغدو التفاوض حول هدنة أشبه بمحاولة ترميم تاريخ لم يحل بعد.
تتقاطع هذه الإشكالات مع أزمة الحكم في أفغانستان بعد استعادة طالبان السلطة سنة 2021، حيث فشلت الحركة في بناء مؤسسات قادرة على استيعاب التعدد العرقي والسياسي، أو على بسط سيطرة حقيقية على أطراف البلاد. فبين فراغ الشرعية الدولية وضغط الاقتصاد المنهار، تجد كابول نفسها عالقة بين خطاب السيادة ومحدودية القدرة، الأمر الذي يسهل على الجماعات المسلحة التحرك دون رقابة فعالة.
وفي الجهة المقابلة، تمر باكستان بمرحلة اضطراب سياسي واقتصادي خانق، وتواجه تصاعدا في الهجمات الداخلية وفي الاحتقان الاجتماعي على خلفية الأوضاع المعيشية، مما يجعل السلطة العسكرية والمدنية معا تميلان إلى توجيه الأنظار نحو الخارج بوصفه مصدر الخطر، وإلى استخدام الرد العسكري كوسيلة لاستعادة الثقة الداخلية. وهكذا يلتقي الضعف البنيوي للطرفين في إنتاج توتر مستمر يغذيه الخوف المتبادل أكثر مما تغذيه إرادة الحرب.
إن وقف النار المعلن في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر لم يكن سوى محطة اختبار لإرادة ضبط التوتر، فهو يعكس إدراكا متبادلا بأن الاستمرار في التصعيد سيفضي إلى نتائج عكسية: إضعاف الردع، وتفكك التحالفات الإقليمية، واستنزاف الاقتصادين الهشين في البلدين. لكن الهدنة وحدها لا تكفي ما لم تتحول إلى إطار منظم للتنسيق الحدودي. فالمطلوب هو إنشاء قناة اتصال عسكرية استخبارية دائمة تحت إشراف دولي تتيح تبادل المعلومات حول تحركات الجماعات المتطرفة، الاشتباكات الأخيرة لا يمكن قراءتها كمجرد مواجهة عسكرية، بل بوصفها إنذارا استراتيجيا بضرورة الانتقال من منطق القوة إلى منطق الإدارة المشتركة للنزاع. فالحروب التي تخاض على خطوط التاريخ لا تنتهي بالانتصار بل بالتسوية، والحدود التي تدار بالمدافع تصبح مع الوقت حدودا للخسارة المتبادلةوتضبط قواعد الاشتباك في مناطق التماس بما يمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. كما ينبغي توسيع الحوار إلى مستوى دبلوماسي قانوني يعيد بحث ملف الحدود في ضوء المصالح الاقتصادية المشتركة لا في ضوء الروايات التاريخية المتنازعة.
من منظور أوسع تمثل هذه الأزمة فرصة لإعادة التفكير في مفهوم الأمن الإقليمي ذاته، فالتعامل مع الحدود باعتبارها جدارا عازلا لم يعد ممكنا في زمن تتداخل فيه الجغرافيا بالتجارة والهجرة والطاقة. إن الأمن في جنوب آسيا لم يعد يقاس بمدى السيطرة العسكرية، بل بمدى القدرة على بناء منظومة تعاون عقلانية توازن بين مكافحة الإرهاب واحترام السيادة، وبين ضرورات الاقتصاد ومتطلبات الاستقرار، وأي تجاهل لهذا التحول سيبقي المنطقة رهينة دوامة اشتباك متكرر يعيد إنتاج أسبابه كل مرة بأسماء جديدة.
وعليه، فإن الاشتباكات الأخيرة لا يمكن قراءتها كمجرد مواجهة عسكرية، بل بوصفها إنذارا استراتيجيا بضرورة الانتقال من منطق القوة إلى منطق الإدارة المشتركة للنزاع. فالحروب التي تخاض على خطوط التاريخ لا تنتهي بالانتصار بل بالتسوية، والحدود التي تدار بالمدافع تصبح مع الوقت حدودا للخسارة المتبادلة. وإذا كان الطرفان ينتميان إلى أمة واحدة يجمعها الدين واللغة والمصير، فإن اقتتال الطائفتين من جسد الأمة الإسلامية يوجب على الدول الإسلامية كافة أن تتدخل تدخلا حازما وعقلانيا لإصلاح ذات البين، التزاما بمبدأ العدل ورفض البغي، ووفاء لواجب الأخوة الذي يحرم سفك الدم بين المسلمين. وإذا لم يُفعل هذا الواجب الجماعي في الوقت المناسب، فإن جنوب آسيا ستظل مسرحا لتنازع داخلي يضعف الأمة من داخلها ويفتح الباب أمام القوى الأجنبية لتصوغ مستقبلها بغير إرادتها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء باكستان حدوده الحرب باكستان افغانستان حدود حرب قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
هل تصمد الهدنة بين باكستان وأفغانستان؟
أعلنت أفغانستان وباكستان عن تفاهم لوقف إطلاق النار بعد أيام من التصعيد العسكري الدامي الذي خلّف عشرات القتلى والجرحى من الجانبين، وسط تساؤلات عن مدى إمكانية صمود هذه الهدنة التي تمتد فقط لـ48 ساعة.
وقال حمد الله فطرت نائب المتحدث باسم الحكومة الأفغانية إن الحكومة أعلنت وقفا لإطلاق النار مع باكستان اعتبارا من مساء اليوم بعد الساعة الخامسة والنصف بتوقيت كابل، وأضاف أن الإعلان جاء استجابة لطلب وإصرار الجانب الباكستاني، وأن الحكومة تؤكد أنها ستلتزم بالتهدئة ما لم يحدث أي خرق من الطرف الآخر.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4تجدد الاشتباكات الحدودية بين أفغانستان وباكستانlist 2 of 4باكستان وأفغانستان.. أزمات متفاقمة ومستقبل غامضlist 3 of 4باكستان وأفغانستان.. الاحتواء أم الانفلات؟list 4 of 4اشتباكات حدودية بين أفغانستان وباكستانend of listمن جانبها، أكدت الخارجية الباكستانية أنه تم التوصل لتفاهم مع حركة طالبان بشأن وقف مؤقت لإطلاق النار يستمر 48 ساعة.
وتابعت الخارجية أن الجانبين الباكستاني والأفغاني سيبذلان جهودا مخلصة من خلال الحوار لإيجاد حل للنزاع، وأنهما سيخوضان محادثات في غضون 48 ساعة، وبالنسبة للخارجية الباكستانية فإن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار تم بطلب أفغاني.
وقال المدير التنفيذي لمعهد سانوبر، قمر شيمية، إن وقف إطلاق النار لمدة 48 ساعة يهدف إلى تشجيع طالبان على قبول أن أرض أفغانستان لن تُستخدم ضد باكستان، تماما كما وعدت أفغانستان الولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي في اتفاق الدوحة بأن الأراضي الأفغانية لن تُستخدم لأي هجمات.
وأضاف -في مقابلة مع الجزيرة نت- أن "باكستان بحاجة إلى ضمانات بهذا المستوى، وقد طُلب من طالبان خلال حديث رباعي شاركت فيه باكستان والصين وروسيا وإيران في الأمم المتحدة، ألا تُستخدم الأراضي الأفغانية ضد الدول الإقليمية".
وأوضح شيمية أن من الضروري بالنسبة لباكستان الحصول على ضمانات حقيقية، إذ إن أي شيء أقل من ذلك لن ينجح، و"ستواصل إسلام آباد ضرب معاقل الإرهابيين داخل أفغانستان"، مشيرا إلى أن "هذا هو الوضع الطبيعي الجديد بالنسبة لباكستان الآن".
إعلانوتابع أن باكستان طالبت طالبان في أفغانستان منذ أكثر من 3 سنوات بإنهاء وجود الجماعات المسلحة داخل بلادها، مثل حركة طالبان باكستان، دون أن تلقى أي استجابة"، لافتا إلى أن هذا الصراع لم يعد مجرد نزاع حدودي، بل تحول إلى حرب شاملة بعدما امتدت الضربات الباكستانية إلى مدن عدة مثل كابل وقندهار.
وأضاف شيمية أن "باكستان لن تتردد في استهداف أي موقع داخل الأراضي الأفغانية للحفاظ على سيادتها وسلامة أراضيها"، معتبرا أن هذا "يمثل سيناريوا جديدا أصبح جزءا من واقع المنطقة".
خلق انقسام
من جهته، قال الصحفي والمحلل المتخصص في الشؤون الجيوسياسية جافد رانا إن "حكومة طالبان في كابل تحاول استغلال الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار في باكستان من خلال إصدار تصريحات مؤيدة لبعض الجماعات السياسية والدينية على مدى السنوات الماضية".
وأضاف رانا أن "طالبان تسعى إلى خلق انقسام داخل باكستان عبر دعم بعض الحركات السياسية"، موضحا أن ذلك يأتي في ظل "حالة من الفوضى السياسية والاستياء الشعبي تجاه الجيش الباكستاني في المناطق الحدودية من إقليم خيبر بختونخوا، حيث يشعر السكان بالغضب بسبب العمليات العسكرية المتكررة التي تسببت بخسائر بشرية كبيرة، بينما لم تحقق نتائج حقيقية ضد الجماعات المسلحة".
وتابع رانا أن "المواجهة المستمرة بين البلدين لا تخدم مصالح أي منهما، إذ تعاني باكستان أصلا من اضطرابات سياسية، خصوصا في المناطق الشمالية الغربية وإقليم البنجاب مؤخرا".
وأضاف للجزيرة نت أن "من مصلحة البلدين إنهاء هذه الاشتباكات، لأن التفوق العسكري الباكستاني يمكن أن يلحق أضرارا جسيمة بأفغانستان التي تعاني أصلا من انهيار في بنيتها التحتية، كما أن طالبان الأفغانية قد تبدأ تمردا ضد الجيش الباكستاني بالطريقة نفسها التي حاربت بها قوات حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، إذا طال أمد المواجهة، فضلا عن إمكانية أن تقدم الهند أسلحة لأفغانستان، مما سيشكل مشاكل كبيرة لباكستان".
ويأتي التوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار بين باكستان وأفغانستان بعد أيام من التصعيد العسكري الدامي الذي خلّف عشرات القتلى والجرحى من الجانبين، في مؤشر على هشاشة العلاقات بين البلدين الجارين اللذين يتبادلان الاتهامات بدعم جماعات مسلحة على حدودهما المشتركة.
وبينما تُعدّ الهدنة اختبارا لجدية الطرفين في تجنّب مواجهة أوسع، تبقى المخاوف قائمة من انهيارها في أي لحظة، ما لم تترافق مع تفاهمات أمنية تضمن ضبط الحدود وتوقف دوامة العنف المتكررة بين كابل وإسلام آباد.