سراييفو- بينما تنشغل أوروبا بالحرب في أوكرانيا والسباق إلى التسلح وآليات التعامل مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وغيرها من التحديات الكبرى، تعيش البوسنة والهرسك في شبه جزيرة البلقان، أعقد أزمة سياسية منذ انتهاء الحرب الدامية عام 1995.

نصّ اتفاق "دايتون"، الذي وقّع في سنة 1995 وكان بمثابة إعلان انتهاء الحرب، على تقسيم البوسنة إلى فدراليتين: الأولى هي البوسنة وفيها أكثرية بوشناقية مسلمة وكرواتية كاثوليكية، والثانية هي جمهورية صرب البوسنة ذات الأغلبية الصربية الأرثوذكسية.

أما على مستوى الدولة، فليس ثمة رئيس واحد بل 3 رؤساء: بوشناقي وصربي وكرواتي، يتناوبون على كرسي الرئاسة، ويوجد فوقهم ممثل سامٍ يراقب تنفيذ اتفاق "دايتون" وله صلاحيات تصل إلى حد إقالة المسؤولين وفرض القوانين وتعديلها.

محكمة الدولة في سراييفو منعت ميلوراد دوديك من الترشح للانتخابات لـ6 سنوات (شترستوك)جذور الأزمة

بدأت الأزمة الحالية حينما دانت محكمة الدولة في سراييفو زعيم صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، في فبراير/شباط الماضي عقب إقرار قانونين في يوليو/تموز 2024 يحظران تطبيق قرارات الممثل السامي وأحكام المحكمة الدستورية البوسنية في الكيان الصربي. وحكمت عليه بالسجن سنة، مع منعه من الترشح للانتخابات لـ6 سنوات.

وقد ثُبّت الحكم أمام محكمة الاستئناف مطلع أغسطس/آب الحالي، وفي السادس من الشهر نفسه، أعلنت مفوضية الانتخابات عزل دوديك من منصبه لأن القانون ينص على عزل أي مسؤول منتخب تلقائيا إذا حُكم عليه بالسجن لأكثر من 6 أشهر.

تجنب دوديك تنفيذ عقوبته بالسجن من خلال دفع غرامة ناهزت قيمتها 19 ألف يورو، لكنه يرفض مغادرة منصبه، بل وردّ بالدعوة إلى استفتاء في جمهورية صرب البوسنة على قرار عزله وعلى قرارات المحكمة والممثل السامي في 25 أكتوبر/تشرين الأول المقبل.

إعلان

في المقابل، دعت مفوضية الانتخابات يوم الخميس الماضي إلى انتخابات رئاسية مبكرة لاستبدال دوديك في 23 نوفمبر/تشرين الثاني القادم.

يقول عميد كلية العلوم السياسية في جامعة سراييفو، سعد تورتشالو، إن جذور الأزمة تعود إلى الحرب التي تلت انهيار يوغوسلافيا، فالصرب لم يتخلوا عن حلمهم في "صربيا الكبرى" واقتطاع أجزاء من البوسنة، ووجدوا في اتفاقية "دايتون" أدوات لعرقلة أي تطور إيجابي في البلاد.

ويشير في حديثه للجزيرة نت إلى أن محاولات دوديك تعديل الدستور باءت بالفشل في عام 2006، ليبدأ بعدها بالحديث عن تنظيم استفتاء لانفصال الكيان الصربي عن البوسنة، معتبرا أن مشكلة المجتمع الدولي تمثلت في التنازل له ومحاولة إرضائه خلال تلك السنوات في مقابل عدم التصعيد والمحافظة على الاستقرار في البوسنة، لتبلغ الأزمة ذروتها في الفترة الأخيرة مع قرار المحكمة.

موقف دوديك

ويسخر تورتشالو من محاولات الترويج للادعاءات بأن المحكمة لا تملك صلاحيات لإصدار تلك القرارات، خصوصا أن دوديك قبل فعلا بالحكم حين دفع مبلغا ماليا مقابل إعفائه من تنفيذ عقوبة السجن. ويضيف أن "خوفه الأساسي يكمن في خسارة نفوذه، ذلك بأنه بنى شبكات فساد واسعة، ويخشى في حال إبعاده عن السلطة من فتح تحقيقات في هذه القضايا".

ولذلك "يسعى دوديك للترويج إلى أن الحكم الصادر بحقه يستهدف الكيان الصربي كله"، وهو ما ينفيه تورتشالو بشكل قاطع.

من جهته، يقول الصحفي والمحرر في موقع بوسني سياسي إخباري سعد نومانوفيتش، للجزيرة نت، إن المحكمة أصدرت حكمها بتأثير من المجتمع الدولي، وتحديدا من الولايات المتحدة، لافتا إلى أن دوديك يواجه قضايا أخرى تتعلق بالفساد.

ويقلّل نومانوفيتش من أهمية رفض دوديك لقرارات المحكمة ودعواته إلى استفتاء، ويؤكد "هذا أمر سخيف. لا يوجد نظام قانوني في العالم يعترف بالاستفتاء كأداة لقلب قرارات المحاكم". أما بخصوص التلويح بالاستفتاء على الانفصال، فيوضح أن دستور جمهورية صرب البوسنة نفسه يحظر هكذا إجراء.

ويعتبر أن "الاستفتاء لعبة دوديك منذ بروزه سياسيا، وهذه هي المرة الـ51 التي يدعو فيها إلى ذلك، وفي المرات الـ50 السابقة، لم تكن لدعواته أي أثر فعلي على أرض الواقع".

من ناحيته، يؤكد رئيس المحكمة الدستورية السابق والخبير في القانون الدستوري البوسني، قاسم ترنكا، للجزيرة نت أن الرئيس المعزول، ميلوراد دوديك، اتخذ سلسلة من الخطوات التي تُشكل اعتداء على النظام الدستوري للدولة. ويوضح أنه "انتزع من جانب واحد اختصاصات الدولة وأنشأ مؤسسات موازية لها. وقد أبطلت المحكمة الدستورية هذه الأعمال".

مراقبون يرون أنه على مؤسسات الدولة الرد على تصرفات دوديك بالوسائل القانونية (أسوشيتد برس)تفاؤل حذر

وبحسب ترنكا، تمكنت المحكمة من إصدار قرارها بحق دوديك بعدما أصدر الممثل السامي قانونا ينص على أن عدم الامتثال لقراراته يُعد جريمة جنائية.

ويضيف "دوديك رفض الامتثال للقرارات الصادرة، ويدعي أن الممثل الأعلى لم يُنتخب قانونيا وأنه يُشوّه صورته. إنه يتلاعب تماما بمؤسسات ووسائل الإعلام في الكيان الصربي، ويحاول، من بين أمور أخرى، الطعن في حكم المحكمة من خلال استفتاء المواطنين. هذه خطوة غير مسبوقة في الدول الديمقراطية".

إعلان

ويشدد ترنكا، الذي تولى وزارة العدل في السابق وكان سفير البوسنة لدى كرواتيا في التسعينيات، على أنه يتوجب على مؤسسات الدولة الرد على تصرفات دوديك غير القانونية بالوسائل القانونية المقررة في هذه الحالة، والشروع في إجراء لدى المحكمة الدستورية لتقرير أن أفعاله غير دستورية وبالتالي منع تنفيذها.

ويقر بأن المشكلة قد تتعقد في حال حاولت سلطات الدولة استخدام القوة لتنفيذ القرارات التي يحاول دوديك، "المسيطر على الشرطة في الكيان الصربي"، معارضتها. ويضيف "عندها سيكون هناك أيضا دور لقوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي (يوفور) المكلفة بضمان بيئة سلمية في البوسنة والهرسك".

أما تورتشالو فيبدو أكثر تفاؤلا، إذ يقول إن نهاية دوديك السياسية ستمنح البوسنة والهرسك متنفسا لم تعهده من قبل، خصوصا وأنه لا يوجد أي زعيم قومي "متطرف يستطيع حشد الناس وعرقلة البلاد مثله". ويوضح أن صربيا، الداعم الأساسي لدوديك، مشغولة بالمظاهرات الداخلية. وفيما يتعلق بروسيا، فالبوسنة ليست أولوية لها في الوقت الراهن.

ولا يخفي الصحفي نومانوفيتش تفاؤله الحذر، ويشدد على أنه لا يمكن التنبؤ بأي سيناريو بشكل حاسم خصوصا في عهد ترامب والتقلبات المتسارعة التي يشهدها العالم، لكنه يرى أن تجاوز الأزمة الحالية لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها، بل عبر عملية سياسية طويلة الأمد، ركيزتها انضمام البوسنة إلى الاتحاد الأوروبي.

ويوضح "ليس لدى الأوروبيين بديل حقيقي سوى قبول دول غرب البلقان أعضاء في الاتحاد. وإذا فشلوا في استيعابها، فإن غرب البلقان سيكون مشكلة كبيرة وسيكون الاتحاد الأوروبي في حالة اضطراب مروعة".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات المحکمة الدستوریة البوسنة والهرسک صرب البوسنة

إقرأ أيضاً:

صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان

في 25 فبراير/شباط 2024، وبعد أشهر قليلة على بدء العمليات الوحشية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الجندي القوات الجوية الأميركية آرون بوشنِل (25 عاما) أمام سفارة إسرائيل في واشنطن بالولايات المتحدة، وأشعل النار في نفسه، احتجاجا على تواطؤ بلاده وجيشه الصريح مع الإبادة الجارية في غزة، وصرخ "فلسطين حرة" حتى فارق الحياة.

لم يكن بوشنِل الوحيدَ الذي لم يحتمل وطأة الإبادة في غزة، رغم أنها تبعد عنه آلاف الأميال.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دوليlist 2 of 2لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟end of list

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد قرار تسليح إسرائيل المفتوح من قبل إدارة بايدن، قال المسؤول الأميركي جوش بول، المدير السابق للشؤون العامة والتشريعية بهيئة الشأن العسكري-السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، في خطاب على "لينكد إن": "لقد تنازلت عن معاييري الأخلاقية في هذا المنصب مرات لا حصر لها.. وعاهدت نفسي دوما أن أبقى طالما أن الضرر أقل من الفائدة التي أحققها.. لكنني أرحل اليوم لأنني أعتقد أن مسارنا الحالي.. جعلني أصل إلى نهاية تلك المعادلة".

في يوليو/تموز 2024، لحق به المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، مايكل كيسي.. "لقد سئمت الكتابة عن القتلى من الأطفال.. وأن أبذل جهدا باستمرار كي أثبت لواشنطن أن هؤلاء الأطفال ماتوا بالفعل.. كلما ازداد علمك بتلك القضية، واجهتك حقيقة لا مفر منها وهي أن الوضع سيئ للغاية".. هكذا صرّح كيسي في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية.

على حد وصفه، بدأ بعض زملائه يمزح حول عدم جدوى التقارير في التأثير على صناع القرار في واشنطن، الذين فضّلوا دوما الانحياز إلى السردية الإسرائيلية، قائلا إنه لا أحد في الإدارة يقرأ تقاريره ولو وضع فيها نقودا هدية.

منذ بدء طوفان الأقصى قبل عامين، تباينت ردود الأفعال في أنحاء العالم بين التضامن والصمت والتضييق، وظهر بون شاسع بين التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع وبين الرغبة في التضييق على الحقائق وعلى أي محاولة للتضامن من جهة الحكومات الغربية، مما دفع بعض المسؤولين -مثل كيسي وبول- إلى تغليب بوصلتهم الأخلاقية على منصبهم الرسمي.

إعلان

وقد جرى الحديث لفترة في الأسابيع الأولى حول "تناسُب" رد الاحتلال على العملية الفلسطينية، لكن مع استمرار الحرب على غزة اتسعت دائرة المتابعين والمهتمين حول العالم، وتغيّرت القناعات واتجاهات الرأي العام لما شكّله الحدث من اختبار حقيقي للأخلاقيات والقيم والمواقف السياسية التي يعتنقها الكثيرون في المجتمعات الغربية، بالإضافة للاختبار الحقيقي الذي مثّلته هذه الحرب للقوانين الدولية التي تدّعي الحكومات التمسك بها.

بعد مرور شهور، وتأمُّل التأثير الواسع للطوفان، يمكن القول إن صدمة عميقة أصابت الشعوب حول العالم إزاء ما يحدث في غزة من إبادة يومية. فمنذ بداية الطوفان، بدأ كثيرون يكتشفون أن رد الفعل الإنساني الطبيعي تجاه ما يحدث للفلسطينيين -وهو التعاطف والتضامن معهم- غير مقبول أو مسموح به من قبل كثير من الحكومات حول العالم.

وتعزَّز ذلك الشعور حين توالت فصول الحرب على غزة، وازدادت بشاعتها بحيث لم يَعُد يمكن الدفاع عنها أو التبرير لها بوصفها "ردا" على عملية 7 أكتوبر. وفي خضم هذا الواقع، أدركت الكثير من الشعوب أننا في نظام دولي يسمح بارتكاب إبادة جماعية على الهواء، ولا يسمح حتى بالتضامن مع المظلومين.

آلاف الأشخاص يتظاهرون في مدينة شيكاغو بولاية إلينوي الأميركية دعما لغزة في 21 أغسطس/آب 2024 (الأناضول)الصدمة الأولى.. التضامن ليس مسموحا

قبل أن ينقضي شهر واحد على طوفان الأقصى، وأمام قتل الاحتلال آلاف الأشخاص في غزة، بدأت المظاهرات تَعُم العواصم الأوروبية والعالمية، في اليابان والنرويج وهولندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث خرج مؤيدو القضية الفلسطينية مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها لم تمض بسلام. ففي دول كثيرة رفعت الشرطة استعدادها واعتقلت عددا من النشطاء، وتعرّض المتضامنون مع القضية الفلسطينية لمشكلات قانونية.

بدا إذن أن الحكومات الغربية اتحدت في الانحياز السياسي إلى الاحتلال، فقيّدت عدة دول الاحتجاج من أجل فلسطين، واستهدفت الأعلام الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة تعرّض كثير من المتضامنين للطرد من وظائفهم وإلغاء عقودهم.

ومع اتساع دائرة الحرب، ودائرة المعرفة بها أيضا وبالقضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، توالت صور الإبادة والتهجير القسري والمجاعة، وطاردت المشاهدين حول العالم بشكل لا يمكن تجنبه.

بعد عامين من طوفان الأقصى، وبعدما جرت المذابح بالبث الحي والمباشر ودُمِّرت البنية التحتية وانهار النظام الصحي وتلوثت المياه وقُصِفت المساعدات الإنسانية والساعون إليها، ومع مشاهد التهجير وإجبار العائلات على النزوح عدة مرات داخل الأرض المحاصرة بالجوع والجفاف، فإن أكثر ما اتضح للمتابعين حول العالم لم يكُن تجاوز الحد فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الإنسانية، وإنما تجاوز الحد في الإفلات من العقاب.

فلسطينيون يتواجدون في أحد مخيمات النزوح بمدينة غزة، 12 أغسطس/آب 2025 على إثر سياسة جيش الاحتلال الممنهجة في تدمير كافة مقومات الحياة في القطاع المحاصر (رويترز)

تشير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إيتشاسو دومينغيث، إلى أنه بعد شهور من النقاش حول مدى تناسب القصف مع الطوفان، يبدو أن المجتمع الدولي اليوم أصبح مستعدا للاعتراف بالانهيار.

إعلان

ولكن دومينغيث تلتقط أيضا ذلك التحوّل الخطابي الذي جرى في هذه الحرب، والذي يميل إلى إدانة الكارثة الإنسانية في غزة دون النظر إلى الجانب السياسي والعسكري منها، فيُكرِّم الضحايا دون تسمية المسؤولين عن الجريمة، وقد أشارت إلى تداول عدد من وسائل الإعلام لصورة طفل جائع مثلا مع تجاهل صورة الجندي الذي يمنع قافلة المساعدات، أو صورة الساسة الذين اتخذوا قرارات الحرب، وهو استبعاد ليس بريئا على حد وصفها، وينطوي على منطق يُتيح للإبادة أن تتكرّر وللمجرم أن يُفلت من جرمه.

على الهواء مباشرة

هذا التدفق المستمر للأخبار والصور التي توثق المذابح، يواجه شعوبَ العالم بصور صادمة للإبادة الجماعية في غزة. ففي ورقة بحثية نشرتها مجلة "إنترناشيونال جورنال أوف مانجمنت" عام 2024، يستكشف الدكتور محمد بوحجي الأضرار والجروح النفسية والعاطفية للمتابعين لمسار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، ويشير إلى أن متابعة مشاهد الحرب عمّقت الشعور بالعجز والخيانة والذنب والعار، وسبّبت جروحا نفسية في المجتمعات أمام إدراك المتابعين لحجم المعاناة وحجم التواطؤ الذي أدى إلى حدوثها.

وقد عاش البعض أعراض ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب التعرض المتكرر والمستمر لهذه الأحداث، وتجلَّت أعراضها في تقلُّب المزاج والقلق والاكتئاب واضطرابات النوم. هذا بخلاف تراكم طبقات من مشاعر الغضب والأسى لدى من يشاهدون الإبادة، مما يجعل أي سلوك طبيعي يعتاد المرء على القيام به في يومه بمثابة "خيانة" لدماء الشهداء ولمعاناة أهل غزة.

في العصر الرقمي حيث تُنتج المواد البصرية بسهولة، وتتعدّد مصادر الصور من الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية ومن السكان المدنيين في قلب الصراع، ومع التعرّض المتكرر لكل ذلك؛ يمكن أن يحدث ما يُعرف بإرهاق التعاطف (Compassion Fatigue) الذي ينشأ عن مشاهدة مكثفة للألم، فيتحوّل إلى نوع من الخدر العاطفي، ومن ثمّ تنخفض الاستجابة العاطفية مع كل مأساة جديدة نتعرض لها.

ومع ذلك، فإن ما يبدو تبلُّدا عاطفيا ليس شعورا نهائيا، بل محطة قد نمُر بها في الصراعات الطويلة. فما يحدث هو أن صورا أخرى سرعان ما تخترق هذا الحاجز العاطفي، فيتجدد التأثير ويتحرّك الشعور بالغضب، لذا فالحرب لا تتوقف عن إيلامنا ولا تُفقدنا إنسانيتنا كما يبدو لأول وهلة.

لذلك، يمكننا اليوم أن نضيف إلى تعداد ضحايا الحرب على غزة؛ آخرين لم يكونوا في القطاع من شعوب العالم التي تابعت العدوان والإبادة، وتعرّضت لما يُعرف باسم "الجرح الأخلاقي". ويشير هذا المصطلح إلى الصدمة النفسية التي يتعرض لها الجنود بسبب عدم قدرتهم على التوفيق بين قيمهم الأخلاقية وما يرتكبونه من أفعال غير أخلاقية مثل التعذيب أو القتل، والذي يظهر في معدلات مرتفعة من الاكتئاب والانتحار لدى المحاربين القدامى.

لكن الجرح الأخلاقي اليوم يُمكن أن يكون أثرا مُحتملا لمشاهدة الفظائع التي يرتكبها آخرون دون الانخراط في القتال، فهو استجابة إنسانية عميقة للأحداث التي تنتهك الأخلاقيات الراسخة، وتُسبّب جُرحا في الروح والضمير، سواء لدى من ارتكب تلك الأفعال أو حتى لدى من شهدها ولم يمتلك القدرة على وقفها.

وبخلاف اضطراب ما بعد الصدمة الذي يقوم على الشعور بالخوف، فإن الجرح الأخلاقي ينشأ من مشاعر الذنب والعار والغضب، ومن أزمة عميقة في المعنى. إنها أزمة يواجهها اليوم متابعو الحرب، وتتسع دائرة المصابين بهذا الشعور حول العالم بسبب قناعاتهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لوقف الإبادة في غزة. كما ينطوي هذا الجرح الأخلاقي على شعور بالخيانة من سلطات كان يُفترَض أن تكون جديرة بالثقة أو على الأقل أن تفعل شيئا لوقف هذه الحرب، ويمكن لهذا الجرح أن يصيب الأطباء والممرضين والصحفيين وغيرهم حين يشعرون بالعجز عن احتمال معاناة البشر.

إعلان

تُرسّخ مشاهد وصور الإبادة، وحقيقة استمرار الحرب، الاعتقاد بأن العالم مكان بشع ومخيف وغير إنساني، وأن الشر يُمكن أن يتغلّب في النهاية، مما يرسخ شعور الشعوب بأنها "مشلولة" وغير قادرة على الفعل الجماعي لمواجهة ما هو إجرامي وغير إنساني.

كما يزداد هذا الجرج الأخلاقي لدى مواطني بعض الدول التي تقدم مساعدات عسكرية للاحتلال بسبب شعورهم بأنهم متواطئون كدافعي ضرائب، وكذلك بسبب فشل المؤسسات الدولية في وقف شلال الدماء، ما يتسبب في الشعور بانهيار الثقة بالنظام الأخلاقي العالمي.

إن الشعور بأن ظلما جسيما يقع بلا عواقب يولّد إحباطا عميقا، فهو خرق لما تعهّدت الإنسانية بعدم تكراره عقب الحرب العالمية الثانية، وتعود خصوصية التأثير العالمي في حرب غزة بسبب كونها أول إبادة جماعية تُبَث فصولها على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن لمشاهدي الأخبار ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجنبها أو تجاهل وجودها.

"القيد في أيدينا"

يمكن القول إن الادعاءات الأخلاقية الأوروبية فقدت مصداقيتها مبكرا بعد حروب العراق وأفغانستان و"الحرب على الإرهاب".

واليوم بينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي معدلات غير مسبوقة من العنف، تتابع شعوب العالم الحر وخاصة شعوب دول الجنوب العالمي وفي ذاكرتها العبارة الشهيرة التي قالها نيلسون مانديلا: "إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين"، والتي لا تعتبر تضامنا فقط، بل عبارة تحليلية تشير إلى أن الإمبريالية ستستمر في تقييد شعوب دول الجنوب طالما أن بإمكانها حرمان الفلسطينيين من حقوقهم على هذا النحو.

ولكن الأمر يمتد إلى الشمال ذاته أيضا، كما أشار السياسي البريطاني جيمس شنايدر في مقال له، فالسعي كي يتحقّق التحرر الوطني للشعب الفلسطيني بقدر ما يُحارب الإمبريالية في الخارج، فإنه يُرسِّخ أيضا الاستقلال والديمقراطية في الداخل بالنسبة للدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها للدفاع عن غزة، ولهذا السبب يؤكد شنايدر "لسنا أحرارا حقا حتى تصبح فلسطين حرة".

في ورقة نشرتها مجلة "بابليك أنثروبولوجيست" في مايو/أيار الماضي بعنوان "فلسطين منهجا"، أوضحت الكاتبة آنا إيفاسيوك كيف تابع العالم بذهول العنف الإبادي الذي شنَّه الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسجَّلت بداية ملاحظاتها بالقول إنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يعلم عن الإبادة الجارية، في وقت يُدرِك فيه المتابعون أن ما يحدث على الأرض يفوق ما تنقله الصور والأخبار. وأضافت إيفاسيوك أن هذا الصمت واللامبالاة ما كانا ليحدثا لو تعرض له آخرون، لا سيما من ذوي البشرة البيضاء.

وأشارت آنا إيفاسيوك إلى التناقض الذي كشفته نقاشات داخل المجتمع الأنثروبولوجي الأوروبي بعد نشر بيان الجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيين الاجتماعيين (EASA) لإدانة العنف ضد غزة، وكيف رأى كثير من الأنثروبولوجيين أن هناك سردية واحدة في التعامل مع قضية أوكرانيا، في حين تعدّدت السرديات في حالة فلسطين، وأمكن للبعض الوقوف "على الحياد".

وتتساءل آنا في مقالها: "ما هو الحياد في مواجهة الإبادة الجماعية إن لم يكن تواطؤًا؟ وما هو تعريف إسكات من يتحدثون ضد الإبادة إن لم يكن دعم الإمبريالية؟". وختمت آنا مقالها قائلة إن ما يشهده العالم في غزة اليوم يدفعنا إلى نقطة اللاعودة، ونحو فهم ما تتعرض له شعوب العالم يوميا، والعنصرية والاعتراف الانتقائي في التضامن مع ضحايا الصراعات.

ويقول الكاتب الإسباني خافيير خورادو إن مشاهد عشرات الآلاف من الشهداء وبينهم أطفال، وما حدث من تدمير للبنى التحتية، تثير أعمق التساؤلات غير المحسومة في الخيال السياسي الغربي: كيف يمكن الاستمرار في دعم الكيان المحتل وتبني كونه ضحية تاريخية؟ لقد كانت الشهور الماضية للحرب على غزة كاشفة للحقائق بشأن عنف الاحتلال، وكسرت أمام المتابع الأوروبي رواية ظلت لعقود تُبرّر صمت الغرب إزاء الانتهاكات وتؤسس للاستثناء الإسرائيلي.

تشرح رابيا يافوز المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في مقال لها، كيف أن هذا الشعور بالحزن يعني أننا ما زلنا بشرا، وكيف أن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، وإنما بكيفية استجابة العالم لكل هذا الألم. فحين تتفوّق المصلحة السياسية على مبادئ العدالة، ويتعرّض المؤيدون والمتضامنون للقمع، فهذا يشير إلى فوضى عالمية أعمق، بما تُسبّبه من جرح في الوعي المجتمعي العالمي.

إعلان

أما حين يصبح الصمت الخيار الأكثر أمانا فإننا أمام عنف نفسي يُهدّد مجتمعاتنا، ويكشف عن وجه مخيف لعالم اليوم، فهذه "الفظائع" تخلف فراغا أخلاقيا لا يُحتمل، يهدد إحساسنا بتحقق العدالة وبإنسانيتنا نفسها، وتتساءل في النهاية: ما ثمن كبح المشاعر أمام المجازر؟

الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ (يمين) تظهر على متن سفينة تحمل ناشطين ومساعدات إنسانية بتهدف كسر حصار جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في 1 سبتمبر/أيلول 2025 (الفرنسية)ما بعد الصدمة

في مقال له حول أنجع العلاجات للجرح الأخلاقي، أوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، مايكل شوالبي، أن أفضل استجابة لما يجري من حولنا هي التكاتف مع الآخرين كي نحافظ على إيماننا بأنفسنا وبإمكانية أن يكون العالم أفضل وأن يُعرض المجرمون يوما ما للعدالة.

ووفقا لشوالبي، فإن موجات الاحتجاج والمسيرات والبيانات المُندّدة التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتسعى لوقف الحرب ضرورية أيضا، لا لوقف الحرب فحسب، وإنما لإنقاذ هؤلاء الذين يشعرون بالجرح الأخلاقي من الإصابة بالعجز الدائم.

لقد تحوّلت غزة -وهي على أعتاب السنة الثالثة للحرب- إلى مرآة تكشف حقائق مخيفة عن نفاق المجتمع الدولي، والرقابة على ما يمكن قوله حول فلسطين، والضغط الذي يُمارس لإسكات الفلسطينيين أو المتخصصين في إنتاج المعرفة بهذا الشأن، وهو ما يزيد أهميتها كمنهج لكشف زيف العالم "كما يُروى لنا".

اليوم لا يزال العديد من النشطاء والمتضامنين مع غزة حول العالم يواجهون عُنفا يطالبهم بالصمت حتى لا يطالهم العقاب، بينما تُهدِّد الحرب إنسانيتنا ويختار البعض التضامن مع دفع أثمانه، في حين يبقى البعض الآخر رهن الشعور بالعجز ومواجهة الصدمات النفسية التي يُسبّبها إدراكنا أن ثمن هذا التجاهل هو ألا يبقى أحد في أمان.

مقالات مشابهة

  • سفير البوسنة والهرسك يهنئ مصر بفوز الدكتور خالد عناني بمنصب مدير عام اليونسكو
  • «انسوا المشاكل إحنا مش في وقت تصفية حسابات» ميدو يوجه رسالة خاصة لجماهير الزمالك بعد الأزمة المالية
  • إدوار فيليب يحثّ ماكرون على الاستقالة وسط أزمة سياسية متفاقمة
  • أزمة سياسية غير مسبوقة في فرنسا.. مخاض عسير لتشكيل حكومة
  • بعد استقالة ليكورنو.. هل ينجو ماكرون من أعمق أزمة سياسية تهدد فرنسا؟
  • صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
  • أزمة تأشيرات المنتخب الإيراني تهدد مشاركته في قرعة مونديال 2026
  • استقالة رئيس الوزراء الفرنسي تفجر أزمة سياسية
  • عن الديكتاتوريات الثورية التي لا تُهزم
  • الرئيس الصربي: العالم يستعد لمواجهة حرب عالمية جديدة