شهدت دولة جنوب السودان في 15 ديسمبر/كانون الأول 2013 اندلاع مواجهات مسلحة بين قوات الرئيس سلفاكير ميارديت والمعارضة بقيادة نائبه السابق ريك مشار، سرعان ما تحولت من صراع سياسي على السلطة إلى حرب ذات طابع إثني.

ومع تصاعد أعمال العنف التي استهدفت مدنيين من مجموعة النوير التي ينحدر منها ريك مشار على أيدي جنود الجيش الحكومي، لجأ الآلاف إلى مقار بعثة الأمم المتحدة في العاصمة جوبا وعدد من الولايات، ومع تزايد التدفق، اضطرت البعثة لتحويل مقراتها إلى معسكرات لحماية المدنيين، شكلت ملاذا مؤقتا تحول لاحقا إلى إقامة طويلة الأمد.

ورغم توقيع اتفاق السلام عام 2018 الذي نص على تقاسم السلطة وعودة ريك مشار إلى جوبا نائبا أول للرئيس، لم تتغير قناعة آلاف النازحين من هؤلاء المدنيين بإمكانية العودة إلى حياتهم الطبيعية، فقد تعرضت منازل كثير منهم للمصادرة والاحتلال من قبل قوات حكومية، في حين لا تزال هشاشة الاتفاقية تثير مخاوفهم من تجدد القتال.

معسكر حماية المدنيين الرئيسي غربي العاصمة جوبا (البعثة الأممية)

ورغم أن الحرب توقفت رسمياً، فإن ذكريات أحداث ديسمبر/كانون الأول 2013 وما أعقبها من أعمال عنف دامية ما زالت حاضرة في أذهانهم، الأمر الذي يدفعهم إلى التمسك بالبقاء داخل معسكرات الأمم المتحدة باعتبارها الملاذ الأخير الأكثر أماناً.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 229 ألف شخص ما زالوا يقيمون داخل معسكرات البعثة الأممية في العاصمة جوبا، بعد أن غادر قرابة مئة ألف نازح خلال السنوات الماضية إلى بعض الولايات.

وفي المقابل، فضّلت أعداد كبيرة أخرى مغادرة البلاد واللجوء إلى المعسكرات المنتشرة في أوغندا المجاورة، مما يعكس استمرار أزمة النزوح رغم مرور أكثر من عقد على اندلاع الحرب.

وبمرور الوقت تحولت معسكرات حماية المدنيين إلى مجتمعات شبه مكتملة، إذ أُنشئت داخلها مدارس مؤقتة ومراكز صحية وأسواق صغيرة لتلبية احتياجات السكان، ورغم أن الأمم المتحدة أعادت لاحقاً تصنيفها إلى "مخيمات نازحين" تحت إدارة الحكومة، فإن آلاف الأسر لا تزال تقيم فيها، مترددة في العودة إلى مناطقها الأصلية التي دُمّرت أو صودرت خلال سنوات الحرب، مما جعل المخيمات تتحول من مأوى طارئ إلى واقع دائم يكرّس معضلة النزوح.

النزوح يتحول لمعضلة

ويرى مراقبون أن استمرار اعتماد عشرات الآلاف على هذه المعسكرات يمثل عقبة أمام مشاريع المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار، فوجودها المستمر يذكّر يومياً بفشل الدولة في ضمان الأمن لمواطنيها، ويضع الأمم المتحدة في معضلة بين واجب الحماية وخطر تكريس واقع الانقسام.

أحد مراكز الرعاية الصحية داخل معسكر الحماية الأممية بالعاصمة جوبا (البعثة الأممية)

يقول الكاتب والمحلل السياسي سايمون قاج إن لجوء المواطنين إلى معسكرات الأمم المتحدة في جنوب السودان كان نتيجة الحرب التي اندلعت في سبتمبر/أيلول 2013، رغم أن الصراع بدأ كخلافات سياسية بين قادة حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان، فإن طرفي الحرب استخدما أدوات الاستقطاب الإثني لتعزيز مواقفهما، مما أدى إلى شرخ اجتماعي واسع وفقدان المواطنين الثقة في الحكومة، مشيرا إلى أن معسكرات الأمم المتحدة ملاذاً آمناً للمدنيين، توفر لهم الحماية من العنف المباشر وتخفف من آثار الانقسامات العرقية والسياسية التي أججت الأزمة واستمرت في تهديد استقرار المجتمع.

إعلان

ويضيف قاج في حديثه للجزيرة نت أن "معسكرات حماية المدنيين وزعت السكان على أساس مجتمعي، كما أن الاتفاق السياسي بين الحكومة والمعارضة لم يعالج الشرخ الاجتماعي الناتج عن الحرب، بل اقتصر على تقاسم السلطة والثروة، وبقي النازحون يشعرون بعدم الأمان رغم توقيع الاتفاق، فيما وفرت لهم المعسكرات مأوى وطعاما وماء وحماية واستقراراً أمنياً وهو ما عجزت عنه الحكومة".

ويرى الناشط المدني جيمس لادو أن استمرار معسكرات الحماية يعكس عمق أزمة الثقة بين النازحين والحكومة وأجهزة الأمن المحلية، مبينا أنه رغم توقيع اتفاقيات السلام، لا يزال كثيرون مترددين في العودة إلى مناطقهم، خوفاً من هشاشة الضمانات الأمنية واستمرار النزاعات المحلية على الأرض والموارد، مما يجعل المعسكرات ملاذهم الآمن الوحيد.

ويشير لادو -في حديثه للجزيرة نت- إلى وجود أبعاد إنسانية واجتماعية جديدة لاستمرار بقاء هؤلاء المدنيين داخل معسكرات الحماية الأممية لأكثر من 10 أعوام وهي أن "هناك جيل كامل تلقى تعليمه داخل الأسوار، حيث نشأ أطفال لا يعرفون سوى بيئة المخيم وما فيها من ضغوط اقتصادية وصحية نتيجة الاعتماد على المساعدات الإنسانية المحدودة، وتوترات مجتمعية بين سكان المخيمات والمجتمعات المضيفة خارجها".

أفراد البعثة الأممية يفتحون المجاري داخل المعسكر في فصل الخريف (أرشيف البعثة الأممية)أزمة النازحين

ويشير الكاتب الصحفي كواجوك لاكو إلى أن أزمة النازحين في معسكرات جنوب السودان بعد اندلاع الأحداث عام 2013 تمثل نقطة سوداء في ملف الحرب الأهلية والصراعات المستمرة، موضحا أنه في البداية، كان الفارون من مناطق مثل بانتيو وبور وملكال وجوبا، من العرقيات المتورطة في النزاع، يعتقدون أن الأزمة لن تطول وأن النزوح سيكون مؤقتاً، إلا أن مرور أكثر من 10 سنوات على اندلاع الحرب جعل هؤلاء يواجهون واقعاً مريراً، إذ تحولت المعسكرات من مأوى طارئ إلى إقامة دائمة، مع استمرار غياب الأمن والضمانات للعودة إلى ديارهم.

ويضيف لاكو في تصريحات للجزيرة نت أن "النازحين، بمن فيهم من التحق بهم خلال تجدد القتال بين أطراف الحركة الشعبية، لا يمكنهم التفكير في العودة إلى منازلهم بسبب استمرار الصراعات، خصوصاً في ولايتي أعالي النيل والوحدة، فقد عاش معظمهم أهوال الحرب وفقدوا بيوتهم التي استولى عليها خصومهم العرقيون، خاصة في مناطق مثل ملكال وجوبا، إذ ما زال الكثيرون يتحدثون عن مصير منازلهم المدمرة، بينما يظل احتمال تجدد الصراع قائماً في الأفق".

يذكر أن جنوب السودان شهد حربا أهلية دامية في ديسمبر/كانون الأول 2013، إثر خلاف سياسي بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار، تحوّل سريعًا إلى صراع قبلي، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح الملايين، وقد عمّقت المواجهات الانقسامات السياسية والعرقية، وسط انهيار مؤسسات الدولة وتفاقم الأزمة الإنسانية في بلد حديث الاستقلال يعاني من صراع على السلطة والثروة، خاصة في المناطق النفطية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات البعثة الأممیة الأمم المتحدة جنوب السودان العودة إلى

إقرأ أيضاً:

بعد مقتل 10 أطفال.. اليونيسف تندد بالهجوم على المدارس والمستشفيات جنوب كردفان

حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسف»، من أن قتل الأطفال وتشويههم في الهجمات على المدارس والمستشفيات، يمثلان انتهاكا جسيما لحقوق الطفل، وذلك في أعقاب مقتل ما لا يقل عن عشرة أطفال في ولاية جنوب كردفان السودانية.

وبحسب مركز إعلام الأمم المتحدة، أشارت المنظمة إلى أن هجوما بطائرة مسيرة أودى بحياة أكثر من عشرة أطفال - تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسابعة - في روضة أطفال بمحلية القدير في كادقلي.

وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن هذه الهجمات تأتي في ظل تدهور حاد في الوضع الأمني في ولايتي كردفان منذ أوائل نوفمبر، مما أدى إلى نزوح واسع النطاق وتفاقم الاحتياجات الإنسانية.

وقالت اليونيسف، إن الخدمات الطبية تنهار، والإمدادات الأساسية على وشك النفاد، والتعليم معطل، مما يحرم الأطفال من فرص التعلم ويعرضهم لضغوط نفسية واجتماعية شديدة.

وقال «دوجاريك»، إن اليونيسف تواصل العمل مع شركائها لتقديم الدعم المنقذ للحياة في السودان، لكن حجم الاحتياجات يفوق بكثير الموارد المتاحة. ودعت اليونيسف المجتمع الدولي إلى تكثيف الجهود لحماية الأطفال وتقديم المساعدة العاجلة.

من ناحية أخرى، أدان المتحدث باسم الأمم المتحدة بشدة هجوما على شاحنة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي بالقرب من بلدة حمرة الشيخ الخميس الماضي.

وقال إن الشاحنة كانت جزءا من قافلة أكبر تضم 39 شاحنة في طريقها "لتقديم مساعدات غذائية حيوية لدعم الأسر الجائعة التي فرت إلى منطقة طويلة بشمال دارفور بحثا عن الغذاء والأمان"، حيث يدعم البرنامج حوالي 700 ألف شخص بالمساعدات الغذائية.

وقال «دوجاريك»، إن القافلة كانت قد قطعت أكثر من نصف مسافة الرحلة التي تقدر بألف كيلو متر عندما وقع الحادث، وأكد أن هذا يعد سادس هجوم خطير على شاحنات وأصول ومرافق برنامج الأغذية العالمي في السودان خلال العام الماضي فقط، مشيرا إلى مقتل ثمانية من العاملين في المجال الإنساني والشركاء، وإصابة آخرين.

وطالب «دوجاريك» بضرورة ضمان وصول المساعدات بلا عوائق إلى الأسر الأكثر ضعفا في دارفور وكافة المناطق المنكوبة بالمجاعة. ويجب ألا يكون العاملون في المجال الإنساني وممتلكاتهم هدفا أبدا.

اقرأ أيضاًمسؤولة أممية تدعو لحماية مليوني طفل مهددون بسوء التغذية جنوب السودان

الأمم المتحدة تعرب عن قلقها لاستمرار انتهاكات إسرائيل لاتفاق فض الاشتباك في سوريا

مجلس الوزراء: البرنامج القومي للقراءة والكتابة خطوة نحو تعليم متميز ومستقبل أفضل (فيديو)

مقالات مشابهة

  • تحذير أممي: نازحات ولاجئات في ‎السودان يتعرضن للعنف
  • الأمم المتحدة توثق انتهاكات جنسية مروعة ضد النازحات السودانيات
  • أونروا: إسرائيل طرف في اتفاقية امتيازات الأمم المتحدة التي تنص على حرمة المقار الأممية
  • اقتحام إسرائيلي لمقرّ الأونروا في الشيخ جراح وسط تنديد وتحذيرات من انتهاك الحصانة الأممية
  • سيغريد كاغ المبعوثة الأممية الخاصة في الشرق الأوسط
  • السفير حازم ممدوح: تقدير كبير لدور المصريين في بعثة حفظ السلام بجنوب السودان
  • بعد مقتل 10 أطفال.. اليونيسف تندد بالهجوم على المدارس والمستشفيات جنوب كردفان
  • الأمم المتحدة تدين هجمات على قوافل مساعدات وقتل أطفال في السودان
  • الأمم المتحدة تواجه تحدّيًا في السودان وتسارع الانهيار الأمني والإنساني
  • أﻃﺮاف الحرب اﻟﺴﻮداﻧﻴﺔ ﻓﻰ ﻗﺒﻀﺔ واﺷﻨﻄﻦ