نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرا أعده جوشوا يانغ وبريان بيرلمان، قالا فيه إن الأزمة الصحية في اليمن زادت سوءا بسبب قطع المساعدات الأمريكية الأجنبية والغارات الإسرائيلية والأمريكية. ويواجه اليمن اليوم ما يقول خبراء الصحة العالميون إنه أسوأ حالات تفشي مرض الكوليرا وسط تضرر المنشآت الصحية والمياه والنقل.

 

وأضافت الصحيفة أن اليمن يواجه أزمة إنسانية متفاقمة، وعلى وجه الخصوص، وباء الكوليرا، في أعقاب الغارات الجوية الأمريكية والإسرائيلية في الربيع، بالإضافة إلى تخفيض إدارة ترامب للمساعدات، وكذلك العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وفقا لأطباء وعاملين في المجال الإنساني عملوا في البلاد.

 

وقال أطباء وخبراء صحة إن الهجمات على الموانئ والبنية التحتية المدنية، مثل العيادات الصحية، قد قطعت شرايين الحياة للإمدادات الأجنبية وأضرت باقتصاد اليمن، الذي يعد بالفعل أحد أفقر دول العالم.

 

الهجمات على الموانئ والبنية التحتية المدنية، مثل العيادات الصحية، قد قطعت شرايين الحياة للإمدادات الأجنبية وأضرت باقتصاد اليمن

 

ودائما ما كافحت البنية التحتية الصحية الهشة في اليمن لاحتواء تفشي الكوليرا الصيفي السنوي.

 

وأدى توقف المساعدات الأجنبية وعدم وصولها لأجزاء البلاد الواسعة التي يسيطر عليها المتمردون الحوثيون في الربيع، إلى تدهور الوضع أكثر.

 

وسجل اليمن أكثر من 50,000 حالة اشتباه بالإصابة بالكوليرا، و149 حالة وفاة مرتبطة بها بين كانون الثاني/ يناير ومنتصف تموز/ يوليو، وفقا لنهى محمود، نائبة رئيس مكتب منظمة الصحة العالمية في اليمن.

 

وقالت إن وباء الكوليرا قد أثر على 96% من البلاد، و”لا يزال  يعد أحد أسوأ حالات تفشي المرض في العالم”.

 

 وقالت أمة الكريم، طبيبة في غرفة الطوارئ بالعاصمة صنعاء، إن الحالات بدأت في الارتفاع منذ حوالي ثلاثة أشهر. ويصل حوالي 30% من مرضاها الآن طلبا للعلاج من أعراض الكوليرا. وأضافت: “هذه هي المرة الأولى التي نواجه فيها مثل هذه الأزمة”. كنا نستطيع في السابق “التعامل معها، ولكن في الآونة الأخيرة انتشرت حالات الكوليرا في كل مكان”. وتحدثت بشرط عدم نشر سوى اسمها الأول.

 

وفي كانون الثاني/ يناير 2024 شنت القوات الأمريكية والبريطانية غارات على الحوثيين. وأوقفت القيادة المركزية الأمريكية بقيادة الرئيس جو بايدن العمليات في كانون الثاني/ يناير 2025، خلال وقف إطلاق نار قصير الأمد في قطاع غزة.

 

لكن إدارة ترامب استأنفت الضربات الأمريكية في آذار/ مارس، مما أدى إلى تسريع وتيرتها وتوسيع نطاق الأهداف المقبولة، وهو ما أسفر سقوط ما لا يقل عن 200 مدنيا، وفقا لتحقيق أجرته منظمة “إيرورز”، وهي منظمة مراقبة مقرها لندن.

 

وانتهت الضربات، التي أُطلق عليها اسم “عملية الفارس الخشن”، في أيار/ مايو، عندما أعلن ترامب وقف إطلاق النار مع الحوثيين مقابل توقف الجماعة المتمردة عن هجماتها على السفن الأمريكية.

 

وقال الكابتن تيم هوكينز، المتحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية: “تأخذ القيادة المركزية الأمريكية جميع التقارير عن إلحاق الضرر بالمدنيين على محمل الجد”. وأضاف: “يجري حاليا تقييم شامل للضرر الذي لحق بالمدنيين خلال عملية الفارس الخشن”.

 

 وفي أواخر تموز/ يوليو، أعلن الحوثيون أنهم سيواصلون استهداف السفن التي تتعامل مع الموانئ الإسرائيلية بغض النظر عن جنسيتها. كما واصلوا إطلاق الصواريخ على إسرائيل، مما استدعى ردا انتقاميا إسرائيليا، بما في ذلك ضربات الأسبوع الماضي التي أودت بحياة رئيس الوزراء أحمد الرهوي وعدد من كبار المسؤولين الآخرين.

 

 وتقول الصحيفة إن الحملة الجوية الأوسع، التي شهدت أيضا ضربات على وسائل النقل والمرافق الطبية، أثرت سلبا على نظام الرعاية الصحية المحاصر بالفعل بعد عقد من الحرب الأهلية.

 

وفي بعض الحالات، قصفت القوات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية عمدا موانئ بحرية ومطارات، مدعية أنها “أهداف عسكرية مشروعة”. وفي بداية أيار/ مايو 2024، قصفت القوات الأمريكية والإسرائيلية أكثر من مرة، ميناءي رأس عيسى والحديدة، وفقا لبيانات منظمة “إيرورز”. وقالت الأمم المتحدة إن الحديدة وحدها كانت تستقبل عادة حوالي 80% من المساعدات القادمة إلى شمال اليمن.

 

وقالت ماريسا ليستر، المنسقة الطبية لمنظمة “أطباء بلا حدود”، والتي كانت تعمل في اليمن حتى أوائل آب/ أغسطس: “أصبحت سلسلة التوريد الدولية مصدر قلق كبير”، مضيفة: “بدأنا في دق ناقوس الخطر في  تشرين الثاني/ نوفمبر [لمنظمة أطباء بلا حدود] بأننا قلقون حقا من أن شحناتنا البحرية، التي كان من المقرر أن تصل في  كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير، لن تتمكن من الوصول”. وقالت ليستر إن شحنة كانون الثاني/ يناير وصلت قبل قصف إسرائيل للميناءين مباشرة. ولم تصل أي شحنات منذ ذلك الحين.

 

ووصفت الصحيفة المستشفى الذي تعمل فيه أمة الكريم وهو من أكبر مستشفيات العاصمة صنعاء، بأنه “شبه فارغ” من الأدوية والمعدات الطبية الأساسية، من الشريط اللاصق والجص إلى جهاز التصوير المقطعي الذي يعمل بالكمبيوتر. وأضافت: “حتى المحلول الملحي العادي، لا يمكننا توفيره للمرضى ونطلب منهم شراءه بأنفسهم”.

 

وأضافت أن النقص “موجود منذ فترة طويلة، لكننا بدأنا نلاحظ أثره. وفي السابق، كنا نحاول التعامل معه ببساطة، والبحث عن حلول بديلة. أما الآن، فقد استنفدت جميع الحلول البديلة والأمور تتدهور باستمرار، ولا ضوء في نهاية النفق”.

 

كما ألحقت الغارات أضرارا بالبنية التحتية للمياه، فقد أصابت غارة أمريكية في الأول من نيسان/ أبريل منشأة مياه في محافظة الحديدة وخزان مياه في قرية مجاورة، وفقا لتقييم أجراه أحمد ناجي، كبير محللي الشؤون اليمنية في مجموعة الأزمات الدولية.

 

الهجمات أدت إلى انقطاع المياه عن 50,000 شخص في اليمن. وقد يؤدي نقص المياه الصالحة للشرب إلى الإصابة بالكوليرا

 

وأفادت وسائل إعلام حوثية أن الهجمات أدت إلى انقطاع المياه عن 50,000 شخص. وقال أمة الكريم: “هناك المزيد من الغارات التي تحدث، وتسبب المزيد من الضرر لبنيتنا التحتية، وتلوث مياهنا”.

 

وقد يؤدي نقص المياه الصالحة للشرب إلى الإصابة بالكوليرا. وقد زادت الغارات الجوية على المرافق الطبية من صعوبة علاج العدد المتزايد من المرضى والجرحى. ففي ليلة الأول من نيسان/ أبريل، مثلا، دمرت غارة جوية أمريكية عيادة خارجية ريفية تمولها وتزودها منظمة العمل ضد الجوع الفرنسية غير الحكومية، حسب تقرير للمنظمة ووسائل إعلام الحوثيين الرسمية.

 

وقال دانيال نيابيرا، المدير الإقليمي للمنظمة في اليمن، إن منظمة العمل ضد الجوع أطلقت محاولة مؤقتة لتوفير العلاج الأساسي، بما في ذلك علاج أعراض الكوليرا، لـ14,000 شخص كانت العيادة تخدمهم سابقا، لكن الكثير من عمل المنظمة في المنطقة قد تضرر.

 

وقال: “في أجزاء من اليمن، تعد منظمة العمل ضد الجوع واحدة من المنظمات غير الحكومية القليلة التي تقدم الدعم، حيث لا تعمل إلا نسبة 50% من المرافق الصحية”، و”هذا مؤشر صارخ على الفجوة المتزايدة في الوصول إلى الرعاية الصحية”.

 

وتضافرت عوامل مثل تخفيضات إدارة ترامب للمساعدات الأمريكية والعقوبات على اليمن، في إلحاق المزيد من الضرر بالاقتصاد اليمني ونظام الرعاية الصحية.

 

ويعتمد أكثر من 24 مليون يمني، يمثلون حوالي 80% من السكان، على المساعدات، وفقا للأمم المتحدة، وجاء حوالي نصف تلك المساعدات من الولايات المتحدة. وقد رفعت إدارة بايدن تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية بسبب مخاوف من أن هذا التصنيف يمنع منظمات الإغاثة الأمريكية من العمل في اليمن.

 

وفي كانون الثاني/ يناير، قال الرئيس دونالد ترامب إن الولايات المتحدة ستعيد تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية. ومنذ ذلك الحين، اضطرت منظمات الإغاثة الأمريكية إلى وقف عملياتها لتجنب انتهاك العقوبات. وقال مسؤول إغاثة كبير تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إن أكثر من ثلث العيادات الصحية في اليمن البالغ عددها 767 عيادة، بما في ذلك في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وغير الخاضعة لسيطرتهم، قد أغلقت أبوابها في أعقاب تخفيضات المساعدات، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية. وهو ما سيزيد من مصاعب مواجهة تفشي الكوليرا. ولهذا باتت حالات المرض التي يسهل علاجها مهددة للحياة. قالت أمة الكريم: “علاج الكوليرا بسيط للغاية”، وعادة ما يقتصر على تعويض السوائل المفقودة في كثير من الحالات. لكن “لا يستطيع المرضى تحمل تكاليف الذهاب إلى المستشفى، لذا يستمرون في تأجيل العلاج حتى تبدأ المضاعفات بالظهور، ثم يأتون إلى المستشفى”.

 

أكثر من ثلث العيادات الصحية في اليمن البالغ عددها 767 عيادة، أغلقت أبوابها في أعقاب تخفيضات المساعدات، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية

 

وأضافت أمة الكريم أنه مع وصول المرضى وفحصهم، يكونون قد فقدوا الكثير من السوائل لدرجة أنهم لا يستطيعون ضخ ما يكفي من الدم إلى قلوبهم.

 

وشهد اليمن في الفترة ما بين 2016 و 2022 أسوأ حالات تفشي الكوليرا، حيث سجلت 2.5 مليون حالة، ووفقا لنتائج دراسة أجريت عام 2023 ونشرت في مجلة “لانسيت”، وارتبطت الغارات الجوية التي شنها التحالف بقيادة السعودية ضد الحوثيين خلال تلك الفترة “بشكل كبير” بحالات الكوليرا.

 

ويخشى أخصائيو الصحة العامة الآن من تكرار وباء بهذه الأبعاد. وتقول مايا تارناس، الباحثة في الصحة العامة والمؤلفة المشاركة في دراسة “لانسيت”: “الظروف الآن هي نفسها، إن لم تكن أسوأ مما كانت عليه بين عامي 2016 و2019”.

 

وقالت امرأة في صنعاء، تحدثت شريطة عدم الكشف عن هويتها: “لم تختف الكوليرا قط بقدر ما انخفضت وتيرتها لبعض الوقت. لكن قبل أربعة أو خمسة أشهر، بدأت تعود بقوة”. وأضافت أن هذا ليس مصدر القلق الوحيد، “لا يقتصر الأمر على تدهور الاقتصاد ولا على ارتفاع أسعار كل شيء، ولا على محاولة تعليم أطفالنا بأفضل طريقة ممكنة، فنحن لا نملك الأمان لنفكر: سأستيقظ غدا وقد أكون على قيد الحياة”.


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: اليمن امريكا اسرائيل الحوثي غارات جوية العیادات الصحیة کانون الثانی أسوأ حالات أمة الکریم فی الیمن أکثر من

إقرأ أيضاً:

صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان

في 25 فبراير/شباط 2024، وبعد أشهر قليلة على بدء العمليات الوحشية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الجندي القوات الجوية الأميركية آرون بوشنِل (25 عاما) أمام سفارة إسرائيل في واشنطن بالولايات المتحدة، وأشعل النار في نفسه، احتجاجا على تواطؤ بلاده وجيشه الصريح مع الإبادة الجارية في غزة، وصرخ "فلسطين حرة" حتى فارق الحياة.

لم يكن بوشنِل الوحيدَ الذي لم يحتمل وطأة الإبادة في غزة، رغم أنها تبعد عنه آلاف الأميال.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دوليlist 2 of 2لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟end of list

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد قرار تسليح إسرائيل المفتوح من قبل إدارة بايدن، قال المسؤول الأميركي جوش بول، المدير السابق للشؤون العامة والتشريعية بهيئة الشأن العسكري-السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، في خطاب على "لينكد إن": "لقد تنازلت عن معاييري الأخلاقية في هذا المنصب مرات لا حصر لها.. وعاهدت نفسي دوما أن أبقى طالما أن الضرر أقل من الفائدة التي أحققها.. لكنني أرحل اليوم لأنني أعتقد أن مسارنا الحالي.. جعلني أصل إلى نهاية تلك المعادلة".

في يوليو/تموز 2024، لحق به المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، مايكل كيسي.. "لقد سئمت الكتابة عن القتلى من الأطفال.. وأن أبذل جهدا باستمرار كي أثبت لواشنطن أن هؤلاء الأطفال ماتوا بالفعل.. كلما ازداد علمك بتلك القضية، واجهتك حقيقة لا مفر منها وهي أن الوضع سيئ للغاية".. هكذا صرّح كيسي في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية.

على حد وصفه، بدأ بعض زملائه يمزح حول عدم جدوى التقارير في التأثير على صناع القرار في واشنطن، الذين فضّلوا دوما الانحياز إلى السردية الإسرائيلية، قائلا إنه لا أحد في الإدارة يقرأ تقاريره ولو وضع فيها نقودا هدية.

منذ بدء طوفان الأقصى قبل عامين، تباينت ردود الأفعال في أنحاء العالم بين التضامن والصمت والتضييق، وظهر بون شاسع بين التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع وبين الرغبة في التضييق على الحقائق وعلى أي محاولة للتضامن من جهة الحكومات الغربية، مما دفع بعض المسؤولين -مثل كيسي وبول- إلى تغليب بوصلتهم الأخلاقية على منصبهم الرسمي.

إعلان

وقد جرى الحديث لفترة في الأسابيع الأولى حول "تناسُب" رد الاحتلال على العملية الفلسطينية، لكن مع استمرار الحرب على غزة اتسعت دائرة المتابعين والمهتمين حول العالم، وتغيّرت القناعات واتجاهات الرأي العام لما شكّله الحدث من اختبار حقيقي للأخلاقيات والقيم والمواقف السياسية التي يعتنقها الكثيرون في المجتمعات الغربية، بالإضافة للاختبار الحقيقي الذي مثّلته هذه الحرب للقوانين الدولية التي تدّعي الحكومات التمسك بها.

بعد مرور شهور، وتأمُّل التأثير الواسع للطوفان، يمكن القول إن صدمة عميقة أصابت الشعوب حول العالم إزاء ما يحدث في غزة من إبادة يومية. فمنذ بداية الطوفان، بدأ كثيرون يكتشفون أن رد الفعل الإنساني الطبيعي تجاه ما يحدث للفلسطينيين -وهو التعاطف والتضامن معهم- غير مقبول أو مسموح به من قبل كثير من الحكومات حول العالم.

وتعزَّز ذلك الشعور حين توالت فصول الحرب على غزة، وازدادت بشاعتها بحيث لم يَعُد يمكن الدفاع عنها أو التبرير لها بوصفها "ردا" على عملية 7 أكتوبر. وفي خضم هذا الواقع، أدركت الكثير من الشعوب أننا في نظام دولي يسمح بارتكاب إبادة جماعية على الهواء، ولا يسمح حتى بالتضامن مع المظلومين.

آلاف الأشخاص يتظاهرون في مدينة شيكاغو بولاية إلينوي الأميركية دعما لغزة في 21 أغسطس/آب 2024 (الأناضول)الصدمة الأولى.. التضامن ليس مسموحا

قبل أن ينقضي شهر واحد على طوفان الأقصى، وأمام قتل الاحتلال آلاف الأشخاص في غزة، بدأت المظاهرات تَعُم العواصم الأوروبية والعالمية، في اليابان والنرويج وهولندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث خرج مؤيدو القضية الفلسطينية مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها لم تمض بسلام. ففي دول كثيرة رفعت الشرطة استعدادها واعتقلت عددا من النشطاء، وتعرّض المتضامنون مع القضية الفلسطينية لمشكلات قانونية.

بدا إذن أن الحكومات الغربية اتحدت في الانحياز السياسي إلى الاحتلال، فقيّدت عدة دول الاحتجاج من أجل فلسطين، واستهدفت الأعلام الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة تعرّض كثير من المتضامنين للطرد من وظائفهم وإلغاء عقودهم.

ومع اتساع دائرة الحرب، ودائرة المعرفة بها أيضا وبالقضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، توالت صور الإبادة والتهجير القسري والمجاعة، وطاردت المشاهدين حول العالم بشكل لا يمكن تجنبه.

بعد عامين من طوفان الأقصى، وبعدما جرت المذابح بالبث الحي والمباشر ودُمِّرت البنية التحتية وانهار النظام الصحي وتلوثت المياه وقُصِفت المساعدات الإنسانية والساعون إليها، ومع مشاهد التهجير وإجبار العائلات على النزوح عدة مرات داخل الأرض المحاصرة بالجوع والجفاف، فإن أكثر ما اتضح للمتابعين حول العالم لم يكُن تجاوز الحد فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الإنسانية، وإنما تجاوز الحد في الإفلات من العقاب.

فلسطينيون يتواجدون في أحد مخيمات النزوح بمدينة غزة، 12 أغسطس/آب 2025 على إثر سياسة جيش الاحتلال الممنهجة في تدمير كافة مقومات الحياة في القطاع المحاصر (رويترز)

تشير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إيتشاسو دومينغيث، إلى أنه بعد شهور من النقاش حول مدى تناسب القصف مع الطوفان، يبدو أن المجتمع الدولي اليوم أصبح مستعدا للاعتراف بالانهيار.

إعلان

ولكن دومينغيث تلتقط أيضا ذلك التحوّل الخطابي الذي جرى في هذه الحرب، والذي يميل إلى إدانة الكارثة الإنسانية في غزة دون النظر إلى الجانب السياسي والعسكري منها، فيُكرِّم الضحايا دون تسمية المسؤولين عن الجريمة، وقد أشارت إلى تداول عدد من وسائل الإعلام لصورة طفل جائع مثلا مع تجاهل صورة الجندي الذي يمنع قافلة المساعدات، أو صورة الساسة الذين اتخذوا قرارات الحرب، وهو استبعاد ليس بريئا على حد وصفها، وينطوي على منطق يُتيح للإبادة أن تتكرّر وللمجرم أن يُفلت من جرمه.

على الهواء مباشرة

هذا التدفق المستمر للأخبار والصور التي توثق المذابح، يواجه شعوبَ العالم بصور صادمة للإبادة الجماعية في غزة. ففي ورقة بحثية نشرتها مجلة "إنترناشيونال جورنال أوف مانجمنت" عام 2024، يستكشف الدكتور محمد بوحجي الأضرار والجروح النفسية والعاطفية للمتابعين لمسار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، ويشير إلى أن متابعة مشاهد الحرب عمّقت الشعور بالعجز والخيانة والذنب والعار، وسبّبت جروحا نفسية في المجتمعات أمام إدراك المتابعين لحجم المعاناة وحجم التواطؤ الذي أدى إلى حدوثها.

وقد عاش البعض أعراض ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب التعرض المتكرر والمستمر لهذه الأحداث، وتجلَّت أعراضها في تقلُّب المزاج والقلق والاكتئاب واضطرابات النوم. هذا بخلاف تراكم طبقات من مشاعر الغضب والأسى لدى من يشاهدون الإبادة، مما يجعل أي سلوك طبيعي يعتاد المرء على القيام به في يومه بمثابة "خيانة" لدماء الشهداء ولمعاناة أهل غزة.

في العصر الرقمي حيث تُنتج المواد البصرية بسهولة، وتتعدّد مصادر الصور من الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية ومن السكان المدنيين في قلب الصراع، ومع التعرّض المتكرر لكل ذلك؛ يمكن أن يحدث ما يُعرف بإرهاق التعاطف (Compassion Fatigue) الذي ينشأ عن مشاهدة مكثفة للألم، فيتحوّل إلى نوع من الخدر العاطفي، ومن ثمّ تنخفض الاستجابة العاطفية مع كل مأساة جديدة نتعرض لها.

ومع ذلك، فإن ما يبدو تبلُّدا عاطفيا ليس شعورا نهائيا، بل محطة قد نمُر بها في الصراعات الطويلة. فما يحدث هو أن صورا أخرى سرعان ما تخترق هذا الحاجز العاطفي، فيتجدد التأثير ويتحرّك الشعور بالغضب، لذا فالحرب لا تتوقف عن إيلامنا ولا تُفقدنا إنسانيتنا كما يبدو لأول وهلة.

لذلك، يمكننا اليوم أن نضيف إلى تعداد ضحايا الحرب على غزة؛ آخرين لم يكونوا في القطاع من شعوب العالم التي تابعت العدوان والإبادة، وتعرّضت لما يُعرف باسم "الجرح الأخلاقي". ويشير هذا المصطلح إلى الصدمة النفسية التي يتعرض لها الجنود بسبب عدم قدرتهم على التوفيق بين قيمهم الأخلاقية وما يرتكبونه من أفعال غير أخلاقية مثل التعذيب أو القتل، والذي يظهر في معدلات مرتفعة من الاكتئاب والانتحار لدى المحاربين القدامى.

لكن الجرح الأخلاقي اليوم يُمكن أن يكون أثرا مُحتملا لمشاهدة الفظائع التي يرتكبها آخرون دون الانخراط في القتال، فهو استجابة إنسانية عميقة للأحداث التي تنتهك الأخلاقيات الراسخة، وتُسبّب جُرحا في الروح والضمير، سواء لدى من ارتكب تلك الأفعال أو حتى لدى من شهدها ولم يمتلك القدرة على وقفها.

وبخلاف اضطراب ما بعد الصدمة الذي يقوم على الشعور بالخوف، فإن الجرح الأخلاقي ينشأ من مشاعر الذنب والعار والغضب، ومن أزمة عميقة في المعنى. إنها أزمة يواجهها اليوم متابعو الحرب، وتتسع دائرة المصابين بهذا الشعور حول العالم بسبب قناعاتهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لوقف الإبادة في غزة. كما ينطوي هذا الجرح الأخلاقي على شعور بالخيانة من سلطات كان يُفترَض أن تكون جديرة بالثقة أو على الأقل أن تفعل شيئا لوقف هذه الحرب، ويمكن لهذا الجرح أن يصيب الأطباء والممرضين والصحفيين وغيرهم حين يشعرون بالعجز عن احتمال معاناة البشر.

إعلان

تُرسّخ مشاهد وصور الإبادة، وحقيقة استمرار الحرب، الاعتقاد بأن العالم مكان بشع ومخيف وغير إنساني، وأن الشر يُمكن أن يتغلّب في النهاية، مما يرسخ شعور الشعوب بأنها "مشلولة" وغير قادرة على الفعل الجماعي لمواجهة ما هو إجرامي وغير إنساني.

كما يزداد هذا الجرج الأخلاقي لدى مواطني بعض الدول التي تقدم مساعدات عسكرية للاحتلال بسبب شعورهم بأنهم متواطئون كدافعي ضرائب، وكذلك بسبب فشل المؤسسات الدولية في وقف شلال الدماء، ما يتسبب في الشعور بانهيار الثقة بالنظام الأخلاقي العالمي.

إن الشعور بأن ظلما جسيما يقع بلا عواقب يولّد إحباطا عميقا، فهو خرق لما تعهّدت الإنسانية بعدم تكراره عقب الحرب العالمية الثانية، وتعود خصوصية التأثير العالمي في حرب غزة بسبب كونها أول إبادة جماعية تُبَث فصولها على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن لمشاهدي الأخبار ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجنبها أو تجاهل وجودها.

"القيد في أيدينا"

يمكن القول إن الادعاءات الأخلاقية الأوروبية فقدت مصداقيتها مبكرا بعد حروب العراق وأفغانستان و"الحرب على الإرهاب".

واليوم بينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي معدلات غير مسبوقة من العنف، تتابع شعوب العالم الحر وخاصة شعوب دول الجنوب العالمي وفي ذاكرتها العبارة الشهيرة التي قالها نيلسون مانديلا: "إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين"، والتي لا تعتبر تضامنا فقط، بل عبارة تحليلية تشير إلى أن الإمبريالية ستستمر في تقييد شعوب دول الجنوب طالما أن بإمكانها حرمان الفلسطينيين من حقوقهم على هذا النحو.

ولكن الأمر يمتد إلى الشمال ذاته أيضا، كما أشار السياسي البريطاني جيمس شنايدر في مقال له، فالسعي كي يتحقّق التحرر الوطني للشعب الفلسطيني بقدر ما يُحارب الإمبريالية في الخارج، فإنه يُرسِّخ أيضا الاستقلال والديمقراطية في الداخل بالنسبة للدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها للدفاع عن غزة، ولهذا السبب يؤكد شنايدر "لسنا أحرارا حقا حتى تصبح فلسطين حرة".

في ورقة نشرتها مجلة "بابليك أنثروبولوجيست" في مايو/أيار الماضي بعنوان "فلسطين منهجا"، أوضحت الكاتبة آنا إيفاسيوك كيف تابع العالم بذهول العنف الإبادي الذي شنَّه الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسجَّلت بداية ملاحظاتها بالقول إنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يعلم عن الإبادة الجارية، في وقت يُدرِك فيه المتابعون أن ما يحدث على الأرض يفوق ما تنقله الصور والأخبار. وأضافت إيفاسيوك أن هذا الصمت واللامبالاة ما كانا ليحدثا لو تعرض له آخرون، لا سيما من ذوي البشرة البيضاء.

وأشارت آنا إيفاسيوك إلى التناقض الذي كشفته نقاشات داخل المجتمع الأنثروبولوجي الأوروبي بعد نشر بيان الجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيين الاجتماعيين (EASA) لإدانة العنف ضد غزة، وكيف رأى كثير من الأنثروبولوجيين أن هناك سردية واحدة في التعامل مع قضية أوكرانيا، في حين تعدّدت السرديات في حالة فلسطين، وأمكن للبعض الوقوف "على الحياد".

وتتساءل آنا في مقالها: "ما هو الحياد في مواجهة الإبادة الجماعية إن لم يكن تواطؤًا؟ وما هو تعريف إسكات من يتحدثون ضد الإبادة إن لم يكن دعم الإمبريالية؟". وختمت آنا مقالها قائلة إن ما يشهده العالم في غزة اليوم يدفعنا إلى نقطة اللاعودة، ونحو فهم ما تتعرض له شعوب العالم يوميا، والعنصرية والاعتراف الانتقائي في التضامن مع ضحايا الصراعات.

ويقول الكاتب الإسباني خافيير خورادو إن مشاهد عشرات الآلاف من الشهداء وبينهم أطفال، وما حدث من تدمير للبنى التحتية، تثير أعمق التساؤلات غير المحسومة في الخيال السياسي الغربي: كيف يمكن الاستمرار في دعم الكيان المحتل وتبني كونه ضحية تاريخية؟ لقد كانت الشهور الماضية للحرب على غزة كاشفة للحقائق بشأن عنف الاحتلال، وكسرت أمام المتابع الأوروبي رواية ظلت لعقود تُبرّر صمت الغرب إزاء الانتهاكات وتؤسس للاستثناء الإسرائيلي.

تشرح رابيا يافوز المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في مقال لها، كيف أن هذا الشعور بالحزن يعني أننا ما زلنا بشرا، وكيف أن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، وإنما بكيفية استجابة العالم لكل هذا الألم. فحين تتفوّق المصلحة السياسية على مبادئ العدالة، ويتعرّض المؤيدون والمتضامنون للقمع، فهذا يشير إلى فوضى عالمية أعمق، بما تُسبّبه من جرح في الوعي المجتمعي العالمي.

إعلان

أما حين يصبح الصمت الخيار الأكثر أمانا فإننا أمام عنف نفسي يُهدّد مجتمعاتنا، ويكشف عن وجه مخيف لعالم اليوم، فهذه "الفظائع" تخلف فراغا أخلاقيا لا يُحتمل، يهدد إحساسنا بتحقق العدالة وبإنسانيتنا نفسها، وتتساءل في النهاية: ما ثمن كبح المشاعر أمام المجازر؟

الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ (يمين) تظهر على متن سفينة تحمل ناشطين ومساعدات إنسانية بتهدف كسر حصار جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في 1 سبتمبر/أيلول 2025 (الفرنسية)ما بعد الصدمة

في مقال له حول أنجع العلاجات للجرح الأخلاقي، أوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، مايكل شوالبي، أن أفضل استجابة لما يجري من حولنا هي التكاتف مع الآخرين كي نحافظ على إيماننا بأنفسنا وبإمكانية أن يكون العالم أفضل وأن يُعرض المجرمون يوما ما للعدالة.

ووفقا لشوالبي، فإن موجات الاحتجاج والمسيرات والبيانات المُندّدة التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتسعى لوقف الحرب ضرورية أيضا، لا لوقف الحرب فحسب، وإنما لإنقاذ هؤلاء الذين يشعرون بالجرح الأخلاقي من الإصابة بالعجز الدائم.

لقد تحوّلت غزة -وهي على أعتاب السنة الثالثة للحرب- إلى مرآة تكشف حقائق مخيفة عن نفاق المجتمع الدولي، والرقابة على ما يمكن قوله حول فلسطين، والضغط الذي يُمارس لإسكات الفلسطينيين أو المتخصصين في إنتاج المعرفة بهذا الشأن، وهو ما يزيد أهميتها كمنهج لكشف زيف العالم "كما يُروى لنا".

اليوم لا يزال العديد من النشطاء والمتضامنين مع غزة حول العالم يواجهون عُنفا يطالبهم بالصمت حتى لا يطالهم العقاب، بينما تُهدِّد الحرب إنسانيتنا ويختار البعض التضامن مع دفع أثمانه، في حين يبقى البعض الآخر رهن الشعور بالعجز ومواجهة الصدمات النفسية التي يُسبّبها إدراكنا أن ثمن هذا التجاهل هو ألا يبقى أحد في أمان.

مقالات مشابهة

  • ٧ أكتوبر.. لحظة انكشاف العالم ودور اليمن في كسر معادلة الاقتصاد والهيمنة
  • تقرير أمريكي: فيضانات وصراع وتجمد المساعدات يعمقون الجوع في اليمن
  • “اليد التي حركت العالم من أجل غزة.. كيف أعاد اليمن كتابة قواعد الحرب البحرية بعد الطوفان؟”
  • أكثر من 21 مليار دولار تدفقت من واشنطن لتسليح إسرائيل منذ اندلاع حرب غزة
  • ورشة حول واقع التصدير الزراعي والسمكي باليمن ضمن مهرجان خيرات اليمن الثاني
  • من أيزنهاور إلى ترومان.. كيف ولّى زمن البحرية الأمريكية وحضر اليمن بعملياته الإسنادية
  • صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
  • أحمد فؤاد أنور: الحديث عن إحياء النووي الإيراني يكشف فشل الضربات الأمريكية والإسرائيلية
  • الحديدة .. تدشين حملة جديدة لمقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية
  • محافظ الحديدة يدشن حملة جديدة لمقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية