د.حكمت المصري
من خلف قضبانٍ باردة، خرجوا محمّلين بجراح الجسد والذاكرة، آملين أن يحتضنهم وطنهم مجددًا، لكنهم وجدوه حطامًا لا يشبهه. لم تكن رحلة الحرية نهاية المعاناة، بل بدايتها. هؤلاء هم أسرى قطاع غزة المحررون، الذين أُفرج عنهم ضمن"صفقة طوفان الأحرار"، ليكتشفوا أن غزة التي تركوها باتت اليوم أرضًا مدمّرة،ومخيمًا مفتوحًا للألم.
عذابات ما بعد القيد
بين جدران سجن "سدي تيمان" الإسرائيلي، أمضى الأسير المحرر سائد مصلح (37عامًا) أيامًا وصفها بأنها "تفوق الجحيم". اقتيد في 20 ديسمبر 2023، تاركًاخلفه عائلة مكونة من ستة أفراد. لم يكن يدرك أن ما ينتظره داخل السجن لن يكون مجرد اعتقال، بل انتهاك ممنهج للكرامة والإنسانية.
"تعرضنا لتعذيب جماعي ووحشي. كانوا يُشغّلون مكبرات الصوت طوال الليل داخل البركس، نجبر على التعري في البرد، ونُحرم من الطعام والعلاج. سكبوا الماء الساخن على أجسادنا كنوع من التعذيب"، يروي مصلح.
لكنه يضيف بصوت يغصّ بالألم أن الصدمة الكبرى لم تكن خلف القضبان، بل حين عاد إلى غزة: "كنت أظن أنني عائد إلى بيتي في بيت لاهيا، لكنني وجدت نفسي في مخيم نزوح بدير البلح. بيتي وبيوت إخوتي وأقاربي كلها دُمّرت. 90% من بيت لاهيا لم تعد صالحة للسكن ، أخي واعمامي استشهدوا ولم يبقى لنا أحد من العائلة ."
شهادات مروّعة من معتقلات الصحراء
مجدي الدريني (55 عامًا)، أب لخمسة أطفال من سكان مشروع بيت لاهيا، أُفرج عنه بعد اعتقال دام أكثر من عام ، عاش خلاله تجربة قاسية من التعذيب النفسي والجسدي.
"منذ لحظة الاعتقال وحتى وصولنا إلى الاستجواب في صحراء النقب، كنا مقيدين بالسلاسل وتعرضنا للضرب المتواصل. الليلة الأولى كانت كابوسًا، بعضنا كان ينزف، الكل يرتجف من البرد، وكنا نُمنع من قضاء حوائجنا."
لكن أكثر ما هزّ كيانه كان إعدامات ميدانية لرفاقه المعتقلين:
"طُلب منا الوقوف صفًا. كنت في الوسط، وفجأة أطلقوا النار على الأربعة من حولي. رأيتهم يسقطون واحدًا تلو الآخر. وقعت أرضًا من هول الصدمة، فانهالواعليّ بالضرب. قال لي أحد الضباط: لو لم تكن موظفًا في السلطة ومعتقلًا سابقًا،لكان مصيرك كمصيرهم."
نسيم الرضيع: العودة إلى فراغ
الأسير نسيم الرضيع (30 عامًا) خرج من المعتقل، لكن "الحرية" بالنسبة له كانت عودة إلى لا شيء. فقد منزله ، واستشهدت زوجته شروق، وطفله، وبنتاه، وحماته
خلال غارات إسرائيلية أثناء فترة احتجازه. لم يتبقَّ له سوى ابنته الوحيدة،ذات الأربع سنوات.
"خرجت لأتصل بزوجتي، فوجدت هاتفها خارج الخدمة. علمت لاحقًا أن الجميع استشهدوا. لم أعد أملك شيئًا، سوى ذاكرة محترقة وبقايا صور."
يقول نسيم إن العودة إلى غزة كانت أقسى من الأسر:
"الحرية حين تفقد أحبابك ليست حرية، بل وجع أكبر من السجن نفسه."
أجساد منهكة ووجوه غابت عنها الحياة
استقبل مستشفى ناصر في خان يونس المئات من الأسرى المفرج عنهم في حالة صحية ونفسية مأساوية.
يقول الدكتور إياد قديح، مدير العلاقات العامة في المستشفى: "وصل العديد منهم بكدمات وكسور واضحة، وآثار سحب وضرب، وعلامات قيود على المعصمين. نُقل بعضهم مباشرة إلى قسم الطوارئ."
وبحسب اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل، فإن هناك نحو 2800 معتقل
فلسطيني من غزة في السجون الإسرائيلية، معظمهم دون تهمة.
وأوضح مدير اللجنة، تال ستاينر: "منذ 7 أكتوبر، ارتفعت وتيرة التعذيب بشكل غيرمسبوق. هناك قرار سياسي واضح بإذلال الأسرى الفلسطينيين، ويقوده مسؤولون كبار
مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير."
أشباح خرجت من القيد إلى العدم
يوثق مكتب إعلام الأسرى أن عددًا كبيرًا من أسرى غزة عادوا وهم مصابون بإعاقات دائمة، أو بلا أطراف، وبعضهم على كراسٍ متحركة واوضح الأسرى أن التعذيب اشتد عليهم قبل الإفراج، وكأنها "هدية" أخيرة من السجّان. "ضُربنا بشكل متواصل أربعة أيام قبل إطلاق سراحنا. الكدمات تغطي أجسادنا، والبعض لم يكن يستطيع الوقوف"، يروي أحدهم.آخر أُجبر على حمل صورٍ لعائلته بعد أن قيل له إنهم "أُبيدوا جميعًا".
غزة بعد الأسر: وطن بلا بيت ولا مأوى
اليوم، يعيش غالبية الأسرى المحررين في مخيمات النزوح في الجنوب. لا منازل، لا مدارس، لا مساجد. فقط خيام، وبقايا حياة.
الأسير المحرر سائد المصري يختصر حالهم:
"غزة لم تعد كما كانت. لم تعد صالحة للحياة. المستقبل ضبابي، وذكرياتنا تحت الركام." أي حرية هذه؟
ما بين الزنزانة والخيمة، لا يجد أسرى غزة المحررون فرقًا كبيرًا. فالقيود التي كُسرت في المعتقل، أعادت تشكيل نفسها في مشاهد الركام، والخذلان، والفقد.خرجوا ليبحثوا عن الحرية، فوجدوا وطناً فقد ملامحه، وشعبًا جريحًا، ومستقبلًا محاطًا بالأسلاك والأسى.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
صحفي فلسطيني أسير محرر يكشف تفاصيل مروّعة عن التعذيب في السجون الصهيونية
الثورة نت /..
كشف الصحفي الفلسطيني الأسيرُ المُحرَّر شادي أبو سيدو، تفاصيلَ مروِّعة عن التعذيب الذي تعرّض له خلال عشرين شهرًا قضاها في سجون العدو الصهيوني، على خلفية عمله الصحفي وتوثيقه جرائمَ الإبادة في قطاع غزة.
ونقل مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين (PJPC)، اليوم الخميس، عن أبو سيدو (35 عامًا)، المصوّرُ الصحفي في قناة “فلسطين اليوم”، قوله إن قوات العدو اعتقلته في 18 مارس 2024 أثناء عمله داخل مجمّع الشفاء الطبي بمدينة غزة، بينما كان يوثّق مشاهد النزوح والدمار والجرحى.
وأضاف: “كنتُ أصوّر معاناة الناس، وفجأةً اقتحم الجيشُ المجمّع. لم يكن فيه مقاتلون، بل مدنيون. وعندما قلتُ لهم إنني صحفي، أجبروني على خلع ملابسي تحت المطر، وقيّدوني لساعاتٍ طويلة في البرد، ثم نُقلتُ إلى معتقل “ستيمان”، وهناك بدأ الجحيم”.
وأوضح أنه تعرّض في معتقل “ستيمان” للضرب المبرّح من قِبل عشرات الجنود فور وصوله، قبل أن يُكبَّل ويُغمى عليه لفتراتٍ طويلة.
وتابع: “كنتُ مقيَّدًا على ركبتي مئة يوم بلا نومٍ أو طعامٍ كافٍ. كانوا يصرخون في وجهي: قتلْنا أولادك وزوجتك وقتلْنا كلَّ الصحفيين. كان التعذيب جسديًا ونفسيًا معًا”.
وأشار إلى أنه أمضى أكثر من أحد عشر شهرًا في سجن “عوفر” العسكري في ظروفٍ قاسية تفتقر إلى أدنى معايير الكرامة الإنسانية”.
وأكد أبو سيدو أنه تعرّض خلال التحقيق لما يُعرف بـ”تحقيق الديسكو” القائم على الحرمان من النوم، وإطلاق أصواتٍ مرتفعة، وتعذيبٍ متواصل لعدة أيام.
وأردف: “كنتُ أقول لهم: أنا مصوّر فقط، ولا علاقة لي بأي عمل عسكري. لكنهم اعتبروا الصورة جريمة، والكاميرا سلاحًا”.
وكشف الصحفي الفلسطيني المحرر، أنه التقى خلال اعتقاله عددًا من الصحفيين الفلسطينيين المعتقلين، بينهم الصحفي أحمد عبد العال والصحفي عماد الأفرنجي، مؤكدًا أن “استهداف الصحفيين سياسةٌ منهجية تهدف إلى طمس الصورة وحجب الحقيقة عن العالم”.
ولفت إلى أنه رغم تدخل المحامية سحر فرانسيس، إلا أنه خرج من المعتقل مثقلًا بجراحٍ جسدية ونفسية عميقة، وقال لها آنذاك: “أنا لا أريد حقوق الإنسان، أريد حقوق الحيوان. ربما عندها رحمةٌ تطعمني وتعالجني”.
وتحظر اتفاقياتُ جنيف والعهدُ الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية استهدافَ الصحفيين أو تعذيبَهم أثناء النزاعات، وتكفل حمايتَهم بوصفهم مدنيين، غير أنّ منظماتٍ حقوقية فلسطينية ودولية تؤكد أن سلطات العدو الإسرائيلي تمارس سياسةً منظّمة لقمع الإعلاميين ومنع نقل الصورة من غزة، عبر الاعتقالات والاغتيالات وحجب التغطية الميدانية، وفق مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين.
وبعد عشرين شهرًا من الاعتقال والتعذيب، يعيش شادي أبو سيدو اليوم في خيمةٍ مؤقتة وسط القطاع عقب تدمير منزله في جريمة الإبادة الإسرائيلية، ويستعدّ للعودة إلى مدينة غزة لاستئناف عمله.
وختم الصحفي المحرر قائلًا: “سيحاولون دائمًا إسكاتنا، لكن لا يمكنهم إطفاء الصورة. عدستي هي سلاحي الوحيد، وسأعود لأُصوِّر الحقيقة من جديد”.