عربي21:
2025-12-13@03:54:55 GMT

سيرة مدينتين

تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT

في أقصى خرائِطِ الوجع، حيث الرّمل يخضب بالملح والدّم، تنهض مدينة كان اسمها غزّة صار اسمها العزة، تنهض كرمح لا ينكسر وكراية لا تنكسها الرِّياح. وعلى بعد وجعين وشلاّل دمٍ؛ تلوِّح في الذاكرة ستالينغراد، مدينة صهرتها النّيران وهرستها جنازير الدّبابات، وبين المدينتين خيط دقيق من نار ونور، الأولى تحاصرها السّماء الضيقة والبحر المصلوب وطائرات الأعداءِ وبنادق الأخوة، والثّانية حاصرتها الثّلوج والمدافع والشتاء الطّويل.

كلتاهما علمتا العالم أن المدن حين تحشر في الزّوايا، تتحول إلى نار تشعل جذوة المقاومة.

في ستالينغراد، كانت المصانع سيوفا، والنّوافذ متاريس، والثلج غِطاء يخفِّف حرارة الحديد. وفي غزّة، أعاد حطام المباني تعريف أن البيوت ليست جدرانا فقط، بل عهد وذاكرة وأسماء على جدرانِ القلب.

هناك، كانت القنابل تحاول أن تخرس المدينة؛ وهنا، تحاول الصّواريخ أن تلغي التاريخ وتحرِف الجغرافيا. لكن المدن التي كتِبت بالدّم لا تمحى بالرّصاص، بل تتمدّد على خرائطِ الجغرافيا والتّاريخ.

ستالينغراد علّمت العالم أنّ الهزيمة ليست قدرا إن رفضتها الأزِقّة والخنادق المحفورة بالأظافر، وأنّ اللّيل وإن طال، لا يلبث أن ينسكِب مِنه فجر ساطع. وفي غزّة تمتد الأنفاق كأوردة سِرّية للمدينة، شرايين من ترابٍ وعناد، تسري فيها لوجِستيّات الحياة كما تسري الهمسة في صدرِ أمٍّ تخبّئ أبناءها خشية العاصفةِ وتهتف في وجهِ العاصفةِ:  لن تمرّوا وفينا بقيّة نفس.

 في بردِ ستالينغراد، كان الجنود يدفِّئون أصابِعهم بأنفاسِهم وبأعقاب سجائر «كوزموس» يديرونها بينهم، وفي الحِصار الحديث، تدفِّئ العائلات خبزها -إن وجد-على نارٍ من صبرٍ لا ينطفئ.

هناك إنهارت جدران، لكن لم تسقط الرّوح، وهنا هوت الأبراج؛ لكي ينهض الناس من تحت الغبارِ كأنه بعث مبكر. في ستالينغراد، كانت المدينة تملي على التاريخ فقراتِه الصّعبة؛ وفي غزّة، يملي الأطفال على القرنِ تعريفا جديدا للكرامة. ما أشبه الحِصارين! كِلاهما امتحان للزّمن: هل يقوى الحديد على كسرِ الماء؟ وهل يفلِح الجوع في تجفيفِ نبعٍ حفر في أعماقِ الصّدر؟

المدينتان مِرآتان متقابِلتان: إذا نظرت إحداهما إلى الأخرى، رأت في عيونها بذور نجاةٍ عصيّة. في تلك المدينة البعيدة، انتصر النّاس حين قرّروا أن الشوارع ليست ممراتٍ فقط، بل خنادق من عزيمة. وفي غزّة، يقرّر الناس كلّ صباح أنّ الضوء مِلكهم، وأنّ أبواب النّهار تفتح بالنّداء: «نحن هنا». قد تتشابه الأصوات حين تضجّ المدافِع، لكن لكل مدينة لحنها: لحن ستالينغراد كان وقع الخطى على الثّلج، ولحن غزّة هدير البحرِ حين يهمِس للرّصيف اصمد.

ليس التّشبيه هنا احتفاء بالدّم، ولا تزيينا للحطام، بل طريقة لنفهم كيف يخلِق البشر معنى  للكرامةِ كي لا تبتلِعهم المعاناة، ليعيدوا تفسير الكرامةِ التي لا تقاس بالعدّةِ والعتاد، بل بِعددِ المرّات التي ينهض فيها القلب من كبوتِه؛ لينبِض صارِخا: سأواصل الهدير.

دخلت ستالينغراد عشيّة رأس سنةٍ على بعدِ نصرٍ ونيِّفٍ من الحرب، فلم أجد فيها إلا احتفاء بالحياةِ وتِمثالا للنّصرِ يذكِّر الماكِثين فيها بِأولئِك الذين عبروا، وسندخل غزة قريبا في الطريقِ إلى القدس لنحتفي بالحياةِ وبالخلاصِ من «المارّين بين الكلماتِ العابرة».  

هكذا تتجاور مدينتان وحّدتهما المأساة وجمع بينهما الصّمود، إحداهما من صقيعٍ وأخرى من ملحٍ، وبينهما، يمشي الإنسان ذلك الكائن الذي إذا حوصِر، حوّل الحِصار إلى ملحمة. 

ستبقى غزّة تدرِّس العالم صبر البحرِ حين يضيق الشّاطئ، وستبقى ستالينغراد تذكِّر التّاريخ أنّ المدن لا تقاس بمساحتِها، بل بِقدرتِها على تحويلِ الألمِ إلى معنى، والخراب إلى نهوض، واللّيل إلى فجرٍ يتعثّر أوّلا.. ثمّ يبزغ.
(الغد الأردنية)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه ستالينغراد غزة فلسطين غزة ستالينغراد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

"فيها إيه يعني".. يكتفي بـ 129 ألفًا في آخر ليلة

اكتفى فيلم «فيها إيه يعني» للنجم ماجد الكدواني، أمس الخميس، بـ 129,906 جنيهًا، في شباك تذاكر دور العرض السينمائي.

"السينمائيين" تنعي محمد هاشم مؤسس دار ميريت للنشر كم حقق فيلم السادة الأفاضل في آخر ليلة؟ إيرادات فيلم السلم والثعبان 2 تتخطى مليون جنيه أمس حصيلة إيرادات فيلم ولنا في الخيال حب أمس فيلم الست.. كم جمع في ثاني أيام عرض بالسينما؟ كم حقق فيلم السادة الأفاضل في آخر ليلة؟ فيلم السلم والثعبان .. إيرادات ضخمة في آخر ليلة متزوجة من رجل أعمال ثري .. هيدي كرم في شخصية جديدة بـ «عيلة دياب عالباب» هبوط بسيط في إيرادات فيلم "ولنا في الخيال حب" إقبال كبير على فيلم الست في أول أيام عرضه .. ماذا جنى أمس؟

وكانت الشركة المنتجة قد طرحت البرومو الرسمي للفيلم عبر منصاتها الإلكترونية، وحقق تفاعلًا كبيرًا، حيث ظهر الكدواني بشخصية رجل متقاعد يقرر السكن في شقة جديدة بمنطقة مصر الجديدة، ليعيد فتح صفحة قديمة في حياته، عندما يلتقي بحب سابق تؤدي دوره غادة عادل، بينما ترفض ابنته (أسماء جلال) هذه العلاقة، مما يشعل الخط الدرامي للعمل.

 

الفيلم يناقش فكرة أن الحب لا يرتبط بسن أو توقيت، وأنه قد يعود في أي لحظة، حتى لو بعد سنوات من الغياب، وتدور الأحداث في إطار اجتماعي يحمل لمسات إنسانية وخفيفة الظل، مع مواقف تجمع بين الحنين والتوتر والمفارقات الكوميدية.

 

ويشارك في بطولة «فيها إيه يعني» كل من: غادة عادل، أسماء جلال، مصطفى غريب، ميمي جمال، ريتال عبد العزيز، إلى جانب النجم ماجد الكدواني.

 

العمل من تأليف مصطفى عباس، محمد أشرف، ووليد المغازي، وإخراج عمر رشدي حامد، أما الإنتاج فتشارك فيه عدة شركات وهي: "ماجيك بينز" (أحمد الجنايني)، "سينرجي بلس" (تامر مرسي)، "رشيدي فيلمز"، و"روزناما".

مقالات مشابهة

  • هيئة مكافحة الفساد: الانقسامات ليست ذريعة والتحديات لن توقف العمل
  • "فيها إيه يعني".. يكتفي بـ 129 ألفًا في آخر ليلة
  • استشاري نفسي: ظاهرة التحرش بالأطفال ليست جديدة
  • وزارة الدفاع: روسيا تدمر 90 مُسيرة أوكرانية ليلا
  • "فيها إيه يعني" يتربع على عرش الإيرادات قبل عرضه على يانغو بلاي
  • ترتفع لـ15 كيلومترًا وتضبط المخالفات البيئية.. الأمن البيئي يستعرض مُسيرة مزودة بتقنيات الذكاء الاصطناعي
  • أحمد رحال لـعربي21: فلسطين في الوجدان.. والاتفاقية مع إسرائيل ليست تطبيعا أو سلاما دون مقابل
  • أحمد الرحال لـعربي21: فلسطين في الوجدان.. والاتفاقية مع إسرائيل ليست تطبيعا أو سلاما دون مقابل
  • مدبولي: مصر ليست أرض التاريخ فقط.. بل أرض العلم والابتكار
  • البابا تواضروس: الكنيسة ليست للصلاة فقط بل لإيجاد المواطن الصالح