في أقصى خرائِطِ الوجع، حيث الرّمل يخضب بالملح والدّم، تنهض مدينة كان اسمها غزّة صار اسمها العزة، تنهض كرمح لا ينكسر وكراية لا تنكسها الرِّياح. وعلى بعد وجعين وشلاّل دمٍ؛ تلوِّح في الذاكرة ستالينغراد، مدينة صهرتها النّيران وهرستها جنازير الدّبابات، وبين المدينتين خيط دقيق من نار ونور، الأولى تحاصرها السّماء الضيقة والبحر المصلوب وطائرات الأعداءِ وبنادق الأخوة، والثّانية حاصرتها الثّلوج والمدافع والشتاء الطّويل.
في ستالينغراد، كانت المصانع سيوفا، والنّوافذ متاريس، والثلج غِطاء يخفِّف حرارة الحديد. وفي غزّة، أعاد حطام المباني تعريف أن البيوت ليست جدرانا فقط، بل عهد وذاكرة وأسماء على جدرانِ القلب.
هناك، كانت القنابل تحاول أن تخرس المدينة؛ وهنا، تحاول الصّواريخ أن تلغي التاريخ وتحرِف الجغرافيا. لكن المدن التي كتِبت بالدّم لا تمحى بالرّصاص، بل تتمدّد على خرائطِ الجغرافيا والتّاريخ.
ستالينغراد علّمت العالم أنّ الهزيمة ليست قدرا إن رفضتها الأزِقّة والخنادق المحفورة بالأظافر، وأنّ اللّيل وإن طال، لا يلبث أن ينسكِب مِنه فجر ساطع. وفي غزّة تمتد الأنفاق كأوردة سِرّية للمدينة، شرايين من ترابٍ وعناد، تسري فيها لوجِستيّات الحياة كما تسري الهمسة في صدرِ أمٍّ تخبّئ أبناءها خشية العاصفةِ وتهتف في وجهِ العاصفةِ: لن تمرّوا وفينا بقيّة نفس.
في بردِ ستالينغراد، كان الجنود يدفِّئون أصابِعهم بأنفاسِهم وبأعقاب سجائر «كوزموس» يديرونها بينهم، وفي الحِصار الحديث، تدفِّئ العائلات خبزها -إن وجد-على نارٍ من صبرٍ لا ينطفئ.
هناك إنهارت جدران، لكن لم تسقط الرّوح، وهنا هوت الأبراج؛ لكي ينهض الناس من تحت الغبارِ كأنه بعث مبكر. في ستالينغراد، كانت المدينة تملي على التاريخ فقراتِه الصّعبة؛ وفي غزّة، يملي الأطفال على القرنِ تعريفا جديدا للكرامة. ما أشبه الحِصارين! كِلاهما امتحان للزّمن: هل يقوى الحديد على كسرِ الماء؟ وهل يفلِح الجوع في تجفيفِ نبعٍ حفر في أعماقِ الصّدر؟
المدينتان مِرآتان متقابِلتان: إذا نظرت إحداهما إلى الأخرى، رأت في عيونها بذور نجاةٍ عصيّة. في تلك المدينة البعيدة، انتصر النّاس حين قرّروا أن الشوارع ليست ممراتٍ فقط، بل خنادق من عزيمة. وفي غزّة، يقرّر الناس كلّ صباح أنّ الضوء مِلكهم، وأنّ أبواب النّهار تفتح بالنّداء: «نحن هنا». قد تتشابه الأصوات حين تضجّ المدافِع، لكن لكل مدينة لحنها: لحن ستالينغراد كان وقع الخطى على الثّلج، ولحن غزّة هدير البحرِ حين يهمِس للرّصيف اصمد.
ليس التّشبيه هنا احتفاء بالدّم، ولا تزيينا للحطام، بل طريقة لنفهم كيف يخلِق البشر معنى للكرامةِ كي لا تبتلِعهم المعاناة، ليعيدوا تفسير الكرامةِ التي لا تقاس بالعدّةِ والعتاد، بل بِعددِ المرّات التي ينهض فيها القلب من كبوتِه؛ لينبِض صارِخا: سأواصل الهدير.
دخلت ستالينغراد عشيّة رأس سنةٍ على بعدِ نصرٍ ونيِّفٍ من الحرب، فلم أجد فيها إلا احتفاء بالحياةِ وتِمثالا للنّصرِ يذكِّر الماكِثين فيها بِأولئِك الذين عبروا، وسندخل غزة قريبا في الطريقِ إلى القدس لنحتفي بالحياةِ وبالخلاصِ من «المارّين بين الكلماتِ العابرة».
هكذا تتجاور مدينتان وحّدتهما المأساة وجمع بينهما الصّمود، إحداهما من صقيعٍ وأخرى من ملحٍ، وبينهما، يمشي الإنسان ذلك الكائن الذي إذا حوصِر، حوّل الحِصار إلى ملحمة.
ستبقى غزّة تدرِّس العالم صبر البحرِ حين يضيق الشّاطئ، وستبقى ستالينغراد تذكِّر التّاريخ أنّ المدن لا تقاس بمساحتِها، بل بِقدرتِها على تحويلِ الألمِ إلى معنى، والخراب إلى نهوض، واللّيل إلى فجرٍ يتعثّر أوّلا.. ثمّ يبزغ.
(الغد الأردنية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه ستالينغراد غزة فلسطين غزة ستالينغراد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الحكومات ليست بشرا
إسماعيل بن شهاب البلوشي
في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتبدل فيه الموازين، يكثر الحديث عن الحكومات وكأنَّها أشخاص من لحمٍ ودم، تمتلك القدرة على القرار والإصلاح والتغيير بجرة قلم أو بإشارة من مسؤول. هذه النظرة المُبسطة والمثالية تغيب عنها حقيقة جوهرية: أنَّ الحكومات ليست بشرًا، وإنما هي منظومة مركبة من أدوات، ونظم، وعلاقات اجتماعية واقتصادية، وثقافة مجتمعية متراكمة، تشكل جميعها كيان الدولة ومصدر قوتها أو ضعفها.
من الخطأ أن نختصر مفهوم الحكومة في أشخاصٍ يجلسون على مقاعد القرار، فهؤلاء مهما بلغت إرادتهم يظلون جزءًا من منظومةٍ أوسع تحكمها القوانين والعادات والمؤسسات والسلوك الجمعي للأفراد. إنّ الإنسان يمكنه أن يضع القوانين، لكنه لا يستطيع أن يضمن التزام النَّاس بها أو احترامهم لها ما لم تتغلغل قيم النظام والانضباط في نفوسهم. ولهذا فإنَّ التغيير الحقيقي لا يبدأ من رأس الهرم فقط، بل من القاعدة التي تشكل روح المجتمع.
لقد أظهرت الدراسات التاريخية أنَّ المجتمعات التي تطورت لم تفعل ذلك بقرارٍ مُفاجئ، وإنما عبر تراكم طويل من الوعي، والإيمان بالعمل، واحترام القوانين، وتقدير الوقت، والتزام السلوك العام بروح المسؤولية. فالحكومة الناجحة لا تصنع شعبًا ناجحًا، بل الشعب الواعي هو الذي يصنع حكومة قوية وراسخة. وحين يغيب هذا الوعي، تتحول المؤسسات إلى هياكل شكلية، وتصبح القوانين أوراقًا بلا روح، فتسود الفوضى ويتفشى الاستهتار وتضيع الثقة بين المُواطن والدولة.
كثيرون يظنون أنَّ الفقر أو التراجع الاقتصادي سببه قرارات حكومية فقط، بينما الحقيقة أن الاقتصاد هو نتاج ثقافة المجتمع في الاستهلاك والإنتاج والادخار والتباهي والإسراف؛ فحين يتباهى الناس بما يملكون أكثر مما يعملون، وحين تغيب الحرفية ويُستهان بالجهد اليدوي والإتقان، يصبح طريق الرفاه بعيد المنال مهما كانت الثروات. إنّ سلوك الأفراد في إنفاق المال واحترام العمل لا يقل أهمية عن خطط التنمية والموازنات العامة؛ بل هو حجر الأساس في بناء دولة مزدهرة ومستقرة.
ومن بين المفاهيم المغلوطة أيضًا الاعتقاد بأنَّ الدولة يمكن أن تتغير بظهور مسؤول جديد، أو وزيرٍ مُختلف، أو بتعديل قانونٍ هنا أو هناك. إنّ ما يُسمى بـ«الدولة العميقة» ليس مؤامرة خفية؛ بل هو نتاج تراكماتٍ اجتماعية وإدارية وثقافية، تشكَّلت على مدى عقود. هذه التراكمات هي التي تحدد إيقاع العمل وطبيعة الأداء؛ فالإصلاح لا يتحقق بالشعارات، وإنما بتفكيك العادات السلبية وإعادة بناء القيم الإنتاجية والأخلاقية داخل المجتمع ومؤسساته.
حين نطالب بالتغيير، علينا أن نفهم أن الحكومة مرآة لشعبها؛ فإذا ساد بين الناس التذمر والكسل والاستهتار بالقوانين، انعكست هذه الصفات على المؤسسات نفسها. أما إذا ساد فيهم حب العمل، واحترام المواعيد، والتفاني في الإنتاج، فستجد أن الجهاز الحكومي يصبح تلقائيًا أكثر انضباطًا وكفاءة. الدولة ليست جسدًا منفصلًا عن مواطنيها؛ بل هي مجموع سلوكهم اليومي وإيمانهم بالمسؤولية العامة.
إنّ الوصول إلى مجتمع متوازن ومزدهر لا يتم بقرارات فوقية فقط، بل بالتزامٍ جماعيٍ متواصل من كل فرد في منظومة الوطن. فحين يؤدي كل إنسان دوره بصدق وإتقان، يبدأ التغيير الحقيقي من القاعدة إلى القمة، لا العكس. وحين تتحول القيم إلى سلوك، والأخلاق إلى ممارسة، يصبح الإصلاح تلقائيًا وليس فرضًا.
ولذلك..؟ فإن دعوة الإصلاح لا ينبغي أن تُوجَّه للحكومات وحدها؛ بل لكل مواطنٍ في بيته، ومدرسته، ومكتبه، وشارعه؛ فالإصلاح مسؤولية جماعية لا تُختصر في القرارات ولا في الأشخاص، وإنما هي ثقافة تُغرس في النفوس وتُمارس في الحياة اليومية.
في النهاية، الحكومات ليست بشرًا، ولكن البشر هم الذين يصنعون الحكومات، ويشكلون صورتها، ويحددون مصيرها. فإذا أردنا رفاهًا حقيقيًا، فلنبدأ بإصلاح ذواتنا وسلوكنا، لأنَّ ما في الخارج ليس إلا انعكاس لما في الداخل. وبذلك فقط نكون قد فهمنا جوهر المعادلة بين الإنسان والدولة، بين السلطة والمجتمع، بين القرار والإرادة.
رابط مختصر