رغم أنَّ الحداثة تُعتبر في إحدى قراءاتها تطورًا فكريًّا وعلميًّا عميق المدى، يتجاوز مجرد التطور التقني والعمراني، إذ بدأت ملامح هذا التحول الظهور في أوروبا، متأثرة بتبدل الرؤى الكونية، على غرار ما أحدثته النظريات الفلكية الجديدة، التي أدت إلى تغيير جذري في نظرة الإنسان إلى الكون وموقعه فيه.

حيث كان للفلسفة دور محوري في بلورة هذه المرحلة، خاصة مع بداية القرن السابع عشر، ولم يقتصر التغيير على أنماط الفنون والعمران، بل امتد ليشمل العلاقة الكلية بين المجتمع ومعتقداته الراسخة وسلطاته التقليدية، ممّا أسّس لولادة الفلسفة الحديثة التي غيّرت النظرة إلى مفاهيم السلطة والدين والمجتمع؛ رغم ذلك فإن استيعاب الحداثة وتوطينها لم يكن عملية سهلة أو سريعة، بل تطلّب قرونًا من الصراع والتحولات الجذرية داخل المجتمعات الأوروبية نفسها.

في المقابل، واجهت المجتمعات التي استجلبت أساليب التحديث تحديات في توفير الشروط الأولية لتوليد حداثتها الخاصة، مثل تكافؤ الفرص على نطاق واسع والاستثمار في الإنتاج العلمي.

لقد ساد اعتقاد، في مراحل تاريخية مضت، بإمكانية استيعاب الحداثة على نحو متسارع في منطقتنا، وهو ما أثبتت الوقائع عدم صحته. وقد انعكس هذا الإخفاق جليًا على التفكير في شروط النهضة العربية وفي العوائق التاريخية والبنيوية التي تعترض سبيل بلوغها.

ولهذا، في خضم هذه اللحظة العربية الراهنة التي تتسم بالارتباك المجتمعي والسياسي، يغدو لزامًا علينا التساؤل عن المقومات الكفيلة بإحداث حداثة ونهضة حقيقية في المنطقة، قادرة على تجاوز الثنائيات المتقاطبة وضمان الحقوق للجميع.

ومن هذا المنطلق، حاورت الجزيرة نت المفكر اللبناني الدكتور خالد زيادة، الذي يُعدّ أحد أبرز الباحثين العرب المعاصرين، لمساءلته عن العلاقة الشائكة بين التراث والحداثة، وموقع المثقف، وطبيعة السلطة في المنطقة.

إعلان

يمتلك الدكتور زيادة رصيدًا أكاديميًّا وعمليًّا ثريًّا؛ فقد حاز شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، وعمل أستاذًا في معهد العلوم الاجتماعية بالجامعة اللبنانية، مما شكّل أساسًا لعطائه الغزير في مجالي التاريخ الثقافي والاجتماعي.

كما جمع في مسيرته بين النشاط الأكاديمي والخبرة الدبلوماسية الرفيعة، إذ شغل منصب سفير بلاده لدى جمهورية مصر العربية ومندوبها الدائم في جامعة الدول العربية.

ويُصنَّف الدكتور خالد زيادة أيضًا باحثًا مُتبحِّرًا في قضايا الحداثة، والتاريخ العثماني، وعلاقات الشرق بالغرب. ويشغل حاليًّا منصب مدير فرع بيروت للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

وتتوزع مؤلفاته على فضاءات فكرية تعكس سعة أفقه وعمق تحليله، ومن أبرز هذه الأعمال: "المسلمون والحداثة الأوروبية"، و"المدينة العربية والحداثة"، و"تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا"، و"لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب"، إضافة إلى كتابيه "كاتب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين" و"أسباب الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة".

إنَّ هذه العناوين تؤكد رسوخ اهتمامه بتحليل بنى السلطة والمجتمع، واستجلاء مسارات التحديث ومقاربات العلاقة التاريخية والفكرية المعقدة مع أوروبا.

زيادة يقدم تحليلاً لتأثير التفاعل الفكري بين المشرق والمغرب، مشيراً إلى أن المغرب تفادى الصراعات الأيديولوجية التي أعاقت التفكير النقدي في المشرق (الجزيرة)

فلننتقل إلى الحوار:

اسمح لي بأن أستهلَّ حديثي بالتساؤل عن الإشكالية التي لا نزال نعيش تداعياتها: هل ثمة إمكانية لبلوغ نهضة حقيقية في العالم العربي؟

يمر العالم العربي حاليًّا بلحظة صعبة، نظرًا لجميع الأحداث التي نشهدها، لكن الأمل يظل قائمًا في تحقيق نهضة تخرجنا من الأوضاع العسيرة التي عايشناها في العقود السابقة.

تستلزم هذه النهضة العديد من المقومات، أبرزها: إشاعة حرية الرأي والديمقراطية، والاستماع إلى مختلف الآراء، واحترام التعددية الفكرية، بهدف تمكين جميع أطراف الأمة والمواطنين من المشاركة الفاعلة في إبداء الرأي والملاحظات حول قضاياهم المصيرية.

كشفت التجارب التي عاشتها العديد من الدول العربية، خاصة منذ عام 2011، عن افتقار للقيادات الوسيطة (ولا أعني بذلك الحكام أو مديري الشؤون)، بل الحاجة الماسة إلى تعددية سياسية وفكرية حقيقية. وتجلّى ذلك بوضوح في تحركات الشعوب التي طالبت بقضايا حياتية مباشرة، ورفعت شعارات الحرية والعيش والكرامة.

ورغم أهمية هذه الشعارات، فقد كانت تفتقر إلى برامج واضحة، مما عبّر عن غياب حياة سياسية قادرة على إفراز قيادات مستدامة ومتجددة. لذا فإن أول شروط النهضة يكمن في إتاحة المجال للتعبير أمام مختلف فئات الشعب والأجيال.

تُسلّم أطروحتكم في كتاب "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب"، بتراجع القارة عن كونها مصدرًا للأفكار الكبرى في عالم ما بعد الأيديولوجيا، لذا هل تفرض علينا هذه الحتمية القطيعة الكاملة مع المقولات الأوروبية الكبرى، أم أن المطلوب هو تجاوز موقع "المستهلك للمفاهيم" عبر تبني مراجعة نقدية جذرية تُؤسس لمشروع فكري عربي أصيل يُعالج إخفاقاتنا التاريخية وينتج أطرًا جديدة للتعددية؟ إعلان

أشكر لك هذا السؤال الذي يُتيح التوضيح بأن الاتصال العربي بأوروبا، منذ مطلع القرن التاسع عشر، أتاح لنا الاطلاع على منجزاتها في مجالات العلوم والتقنيات، ودفعنا إلى تقليد بعض مؤسساتها واقتباس عدد من تجاربها. هذا صحيح، لكن ما ركزت عليه في الكتاب هو الأفكار الكبرى التي قدمتها أوروبا للعالم منذ الثورة الفرنسية، والتي طرحت شعارات مثل الحرية والمساواة والأخوة، وانتشرت عالميًّا.

وجدت هذه الأفكار صداها في الصين مع "سون يات سين" (孫逸仙) مطلع القرن العشرين، وظهرت في الانقلاب الدستوري عام 1908، حيث رُفعت شعارات الحرية والمساواة والعدالة، بل أُضيفت مفاهيم من القاموس الفقهي الإسلامي. كذلك انعكست في حركات أميركا اللاتينية. المقصود هو أن أوروبا كانت مصدرًا رئيسيًّا لأفكار كبرى أثرت في العالم كله.

واصلت أوروبا تصدير الأفكار في القرن العشرين، من القومية التي تبناها القوميون العرب، إلى الفاشية الإيطالية، والاشتراكية والشيوعية التي انتشرت عبر الأحزاب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية مرورًا بالعالم العربي. لكن بنهاية القرن العشرين، تراجعت فاعلية هذه الأفكار لأسباب متعددة. غير أن بعض مفاهيمها، كالحرية، أصبحت من المُسَلَّمَات التي لا يُنكر أحد أهميتها، وإن لم يتم تطبيقها دائمًا في النظم السياسية عالميًّا. لكن المفهوم نفسه أصبح، كما يُقال بالفرنسية (Acquis) من المكتسبات؛ أي مُستوعبًا ومُتقبلًا في الوعي العام.

استُهلكت الأفكار الكبرى التي سادت في القرن العشرين بفعل تحولات جذرية، كانهيار المنظومة الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوفياتي في الثمانينيات والتسعينيات، والتخلي عن الماركسية اللينينية. حتى الفكرة القومية التي ازدهرت في بدايات القرن تحللت إلى وطنيات. نحن اليوم في عصر ما بعد الحداثة، الذي يعيد النظر في مفاهيم الحداثة الكبرى، وينتقد الطروحات الشمولية والقومية، لصالح أفكار التعددية والنسبية، وهذا ما نشهده عالميًّا.

وبالعودة إلى سؤالك، لم تعد أوروبا مصدرًا للأفكار الكبرى. وهذا لا يعني غياب الأفكار فيها، بل إن ما تُنتجه اليوم لا يهدف إلى تغيير الأنظمة أو إلهام الشعوب بحركات كبرى، بل ينصبّ على قضايا نقدية وأكاديمية. في المدرسة الفرنسية مثلًا، نجد مفكرين كبارًا أثّروا في المغرب العربي، مثل ميشيل فوكو وألتوسير الذي قدّم نقدًا للماركسية، وغيرهما من المفكرين الذين ساهموا بأفكار ذات طابع فلسفي ونقدي، لكنها ليست مشاريع فكرية لبناء المجتمعات.

من هنا أقول إن العرب مطالبون اليوم بإنتاج أفكارهم بأنفسهم. ليست هذه مهمة سهلة، إذ تتطلب بيئة ملائمة تشمل الحرية الفكرية، ونشاطًا سياسيًّا ونقابيًّا حقيقيًّا. ومع ذلك تبقى الحاجة قائمة إلى إطلاق عملية فكرية نقدية، تبدأ بنقد تجاربنا السابقة، وهو ما لم يتم بعد بصورة منهجية أو شاملة. منذ هزيمة 1967 مثلًا، لم نشهد نقدًا صريحًا وعميقًا لأسباب الهزيمة، رغم أن الأنظمة المسؤولة استمرت في الحكم وكأن شيئًا لم يكن.

لذا نحن بحاجة إلى إعادة نظر جذرية. والمثقفون العرب مدعوون إلى مراجعة تجارب العقود الخمسة أو الستة الماضية، من أجل بناء تصورات جديدة لهذا العالم العربي الذي يجمعنا، ليس كقومية، بل كعالم ثقافي واقتصادي وتاريخي ذي قواسم مشتركة.

في كتابه "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب" يرى خالد زيادة أن أوروبا فقدت دورها كمصدر للأفكار الكبرى، ويدعو إلى إنتاج فكر عربي أصيل يقوم على مراجعة نقدية للتجارب السابقة (الجزيرة) لماذا تعثر العالم العربي في استيعاب المكتسبات الفكرية للحداثة؟ وهل يعكس هذا التعثر عجزًا عن حسم هويتنا بين "المواطنة" و"الرعوية"، و"المجتمع المدني" و"البنية القبلية"، و"الدولة الحديثة" و"الدولة السلطانية"؟ وهل أصبحت هذه الثنائيات جزءًا متأصلًا من الهوية العربية يجب التعايش معه؟ إعلان

يجمع سؤالك بين عناصر متعددة ومهمة وعميقة، وهذه العناصر تُشخِّص أزمة حقيقية تتمثل في: علاقة الحداثة بالتراث، وعلاقة الدين بالمجتمع المدني، وكذلك علاقة الدين بالأنظمة الحديثة القائمة على القوانين. هذه الأزمة قائمة ولا نصل فيها إلى حلول حاسمة، إذ ما زلنا نَتَأرجح بين تجاذبات وهمية تحت عنوان "الأصالة والحداثة".

الواقع أننا لم ننجز الحداثة الحقيقية؛ لا أقول إن الحداثة تعني التقليد الحرفي لتجارب الآخرين، ولكننا لم ننجز حداثتنا الخاصة، ولم نُحَدِّث أيضًا نظرتنا إلى تراثنا. التراث ثابت بمعطياته التي أتت من الماضي ولا يمكن تغييرها، لكن يمكن تغيير نظرتنا إليه والتعامل معه بطرق مختلفة، لا تقتصر على مناهج علمائنا وفقهائنا في القرون الوسطى وما تلاها.

لم تُنجَز هذه الأمور حتى الآن بشكل منهجي وإجماعي، ومما يؤسف له أنني لا أعتقد بأننا في لحظة يمكن القول إنها بداية إطلاق هذا الأمر، ولعلي أريد أن أكون صريحًا في هذه النقطة؛ هناك أزمة حقيقية تتعلق بعلاقة الإنسان المسلم بالدين. هذه العلاقة غير واضحة؛ فمن جهة هناك العلاقة المباشرة بين الإنسان وإيمانه، ومن جهة أخرى هناك مشكلة المؤسسات الدينية.

لهذا، تتبلور الحاجة المُلحة في التوافق على نظرةٍ موحَّدة إلى الواقع المعيش؛ بوصفه المرجعية الأصيلة التي يجب أن تكون منطلقنا الأساس لبناء صروحنا الدستورية والحقوقية والسياسية. وعلى النقيض، ينبغي أن تظل المرجعية الأخلاقية والتاريخية هي المرجعية الدُّنيا التي نستنير بها.

ولكن ما دمنا مستمرين في هذا المنهج الذي يقدِّم فيه طرف رأيًا يُعقبه رأيٌ مضاد مصحوبٌ بالتكفير والتخوين، فإنني أرى أنَّ هذا يمثِّل أخطر المعوقات التي تحول دون صناعة لحظة إجماع حقيقية، ليس فقط حول ما نصبو إليه ونحتاج، بل وحول الكيفية التي بها نُقرِّر ملامح حاضرنا ونصوغ مستقبلنا المنشود.

في كتابه "المسلمون والحداثة الأوروبية" يرى خالد زيادة أن تعثر الحداثة عربياً ناتج عن غياب رؤية نقدية موحدة لعلاقة التراث بالدين والمجتمع (الجزيرة) بالنظر إلى إشكالية الدين والدولة في العالم العربي، التي تختلف عن النموذج الأوروبي، حيث يرى البعض أن المنطقة شهدت احتکار الدولة للدين بدلًا من احتكار الدين للدولة، مما أدى إلى تراجع التدين المجتمعي العميق: هل يمكن التسليم بأن هيمنة الدولة على المؤسسات الدينية قد أفضت حقًّا إلى إضعاف الجوهر الأخلاقي للتدين، وهل يشكّل هذا الاحتكار عقبة رئيسية تحول دون الانتقال الفعال من مجرد "التحديث" إلى تحقيق "الحداثة" المنشودة؟

لعل استعادة شيء من التاريخ تُجلي لنا المسار الذي اتخذته مجريات الأمور. فمن المعلوم أنَّ العالم العربي شهد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بزوغ مرحلة ما عُرف بالإصلاحية الإسلامية، وكان رائدها الأبرز شخصية فذة كالإمام محمد عبده. إنَّ نظرة الإمام عبده لا يمكن استيعاب حقيقتها استيعابًا كاملًا إلا في ضوء التأثير الأوروبي المُتنامي.

صحيح أنه كان عالمًا جليلًا، ومؤمنًا راسخًا، ومُتمكنًا من دينه، بيد أنَّ استبصاره بحقيقة العصر الذي عاش فيه، في أواخر القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين (إذ وافته المنية مُبكرًا في عام 1905)، قاده إلى فكرة محورية. ويمكننا اختصارًا، أن نقول بأنَّ جوهر فكرته كان يدور حول تحرير الإنسان من هيمنة المؤسسة. وكانت المؤسسة التي استهدفتها رؤيته بلا شك هي مؤسسة الأزهر، التي نظر إليها بوصفها رمزًا للجمود العقائدي. وله كتابات عديدة تُعنى بنقد الأزهر ونظام التعليم المتأثر به وركون شيوخه إلى السكون الفكري.

إذًا وتحت وطأة التأثير الليبرالي العام، كان محمد عبده داعيًا إلى تحرير المؤمن من أي سلطة تعلو سلطة النص المُبين. غير أنَّ هذا الطرح توقف عن المضي قدمًا. ربما كان له أثر محدود في فترة العشرينيات، متجليًا في صفوف قادة الحركة الوطنية، سواء في مصر أو سوريا، وامتد نفوذه إلى الجزائر وتونس بمسارات مختلفة. لكنَّ كلَّ ذلك لم يُفْضِ إلى نشأة تيار عريض أو تأصيل تيار راسخ.

فقد وجدنا لاحقًا أننا انزلقنا إلى مراحل مختلفة تأخَّرت فيها راية الإصلاحية الإسلامية، لصالح تيارات إسلامية متشددة. هذه التيارات لم تكن تملك أدنى تصالح مع مُعطيات العصر، بل أرادت استعادة الماضي بأمجاده التي نسجها الوهم والخيال. وبالتالي، فقد عشنا مآزق فكرية وواقعية عديدة في سياق علاقتنا بمصدرنا الأساس، وهو الإسلام. وهو المصدر الذي عبَّر عن نفسه في تراث عميق من الأدب والفكر والعلوم، الذي أهملناه جميعًا لصالح أيديولوجيا تختزل الدين في مجرد الصراع على السلطة.

إعلان

ومن هنا، تولَّد هذا الصدام الجوهري بين تصورين متناقضين للدولة؛ أحدهما متمثلٌ في التيار المدني العلماني التحديثي، والآخر متمثلٌ في التيار الذي يسعى إلى استعادة النظام الغابر الذي كان قائمًا. لقد تفاقمت هذه المعضلة لا سيما في العقود الأخيرة، وغدا وعينا يدرك أنه ما عاد هناك مجال لإيجاد مَخرج من هذا المأزق المستحكم.

يجب علينا أن نتبنى نظرة نقدية متعمقة، وأن نعمل على تأسيس تيار نقدي واعٍ، لا يقتصر على جهود الأفراد، بل يشمل حركة فكرية جماعية تُدرك غاياتها. إنَّ هذا العمل بالغ الأهمية؛ أن تكون واعيًا لأهدافك، لا أن تكتفي بمحاولات أكاديمية تجري في المعاهد الغربية يقوم بها متنورون يقدمون رؤى. فكل ذلك مفيد، لكننا بحاجة ماسة إلى تيار نقدي بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ تيار يستطيع أن يُنشئ مسافة فاصلة بين الماضي والتجارب القائمة، وأن ينظر إليهما نظرة تحليلية ناقدة.

بهذا المنهج، يمكننا استخلاص الخطوط الأساسية التي تُعيننا على بناء مشروع عربي قادر على استيعاب الاختلافات والتعددية العربية والإثنية الموجودة في أقطارنا. وهذا كله لم نُنجزه بعد إنجازًا حقيقيًّا.

بل أضيف أنَّ المشرق العربي عاش فترة زمنية طالت، أُهدر فيها الجهد حين كانت الصراعات بين المثقفين أيديولوجية خالصة. فقد خاض المثقفون المنتمون إلى التيار القومي أو الماركسي/الشيوعي، أو الديني، جدالات عَقيمة لم تُفضِ إلى نتيجة، مما أفقر الثقافة والفكر في المنطقة. لقد أُشغلت العقول النيرة في هذه الجدالات المُعقِمة التي لم تورث سوى الهزال الفكري.

وهذا الوضع يتباين إلى حد كبير مع المغرب العربي، الذي لم يعرف مثل هذه التأثيرات الأيديولوجية العنيفة التي استنزفت المثقفين. ولذلك، نجد فيه محاولات فكرية راهنة تتميز بجهد عقلي ونقدي معتبر، وهي محاولات تكاد تكون نادرة، إن لم نقل معدومة، في المشرق.

الخلاصة هنا هي وجوب مغادرة هذه الصراعات الأيديولوجية والعقائدية التي لم تُضئ لنا أي طريق. أين صارت الشيوعية؟ وأين أفضت التيارات القومية؟ وكذلك الأزمة التي عصفت بالتيارات الدينية المتشددة. كل هذه الصراعات لم تخدم سوى إضاعة الجهد الفكري.

يرى خالد زيادة في "كاتب السلطان" أن تحوّل الدولة بعد الاستقلال همّش المثقف النقدي، مما يستدعي اليوم تيارا فكريا نقديا جديدا (الجزيرة) انطلاقًا من تحليلكم لتاريخ "حرفة الفقهاء والمثقفين" في العالم العربي في كتابكم "كاتب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين"، وكيف تحوَّل دورهم من مؤسسات تقليدية متوازنة إلى نخبة تنويرية في مرحلة ما قبل الاستقلال، ثم إلى "مثقف مُهمَّش" في عهد الدولة الوطنية: ما هي الجذور التاريخية والتحولات البنيوية التي أدت إلى تقليص دور المثقف النقدي الحر في العالم العربي بعد الاستقلال؟ ولماذا نحتاج اليوم إلى "تيار فكري نقدي" يتجاوز دعوات التنوير القديمة؟

شكرًا لك. في الواقع، إنَّ إشارتك إلى كتابي "كاتب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين"– الذي مضى عليه بعض الوقت، وصدرت منه عدة طبعات في بيروت والقاهرة– كانت مقصودة لغاية أساسية. ففي حقبتي الثمانينيات والتسعينيات، حيث نشأت فكرة الكتاب في أوائل التسعينيات، كان الحديث عن المثقف يُربط دومًا بقضية دريفوس -صراع اجتماعي وسياسي حدث في نهاية القرن التاسع عشر في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة- وبالمثقف الفرنسي. ورأيت أنه من غير المعقول أن نعتبر أنَّ نشأة المثقف العربي تستند إلى قضايا أوروبية نشأت في القرن التاسع عشر، وأسفرت عن ظهور مفهوم "المثقف" مع إميل زولا وغيره.

لهذا السبب، اتجهتُ للبحث في تاريخنا، وطالعتُ الكثير من المراجع المتعلقة بالعلماء. وهنا تظهر حقيقة واضحة –وهي ليست من اكتشافي– مفادها أنَّ الدولة الإسلامية التقليدية كانت تحوي مؤسستين رئيسيتين للمعرفة: المؤسسة العلمية، التي تضم رجال الدين والعلم في المدارس، والمؤسسة القلمية، التي يمثلها كُتّاب الدولة الذين يمارسون الكتابة والشؤون المالية والمحاسبية والخارجية. وكانت تظللهما المؤسسة السيفية (العسكرية). هذا هو التصور المُختصَر لمؤسسات الدولة التقليدية.

هذا التصور تغيَّر جذريًّا بالاحتكاك بالغرب وثقافته، فنشأ مثقف ذو ثقافة غربية يفترض لنفسه دورًا تنويريًّا. لنأخذ أسماء مثل أحمد لطفي السيد، بطرس البستاني، وصولًا إلى طه حسين والعقاد. وقد مارس هؤلاء دورًا من التثقيف والتربية، وأشدد على كلمة التربية، لاعتقادهم أنَّ بناء المجتمع وازدهاره يتحقق من خلالها ومن خلال العلم وتأسيس المدارس والجامعات. وكان هدفهم تكوين نخبة تتولى إدارة شؤون الدولة بكفاءة.

لقد استمر هذا الأمر حتى حقبة الأربعينيات والخمسينيات، وبدأ يتضح أنَّ الواقع ليس كذلك. ولكن على الأقل في تلك الفترة، كان رأي هؤلاء "المثقفين" مُحترمًا ومتزامنًا مع مرحلة بناء الدول (في مصر، لبنان، تونس..)، ولا تزال أسماؤهم لامعة باعتبارهم قدَّموا رؤى لبناء الدولة ومؤسساتها (كمثل الأهمية التي يوليها المصريون لطه حسين، وكتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عن بناء النظام التربوي).

في مرحلة لاحقة، أصبحت الدولة تملك أجهزتها، وعَلَمها ونشيدها وجيشها ومكاتبها ودواوينها. وهنا رأت السلطة أنها لم تعد في حاجة للمؤسسات الفكرية أو النخبة التنويرية؛ لأنها أنجزت ما وُعدت به: الجامعات، البرلمان، والدستور. وتقلَّص دور المثقف؛ ليُصبح صوتًا ثانويًّا يُسمح له بالحديث.

ومن هنا، ظهر مفهوم المثقف الثوري أو العضوي في مراحل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وهو مثقف عمليًّا خارج السلطة، يقدم رؤية مغايرة لرؤى الدولة. وعمومًا، لم تُتح لهؤلاء الفرصة الحقيقية؛ بل زُجَّ بهم في السجون واضطُهدوا وحُوربت أحزابهم واعتُبرت خارجة عن القانون. أي أنَّ المساحة المتاحة للمثقف المستقل والنقدي تقلَّصت كثيرًا مع استقرار أنظمة ما بعد الاستقلال.

هذه الأنظمة رأت أنَّ مهمتها الآن هي البناء وأنها تملك الخطط، مُعلنة عدم حاجتها للآراء النقدية. ولا يمكن إنكار الاختراقات التي حققتها هذه الدول على مستوى التنمية، وتنظيم الحياة من الريف إلى المدينة، وفي مجال الصحة وبناء المؤسسات الصحية. ولكن الخلل الجوهري أو الثقب الأسود تمثَّل في تضييقها على الآراء، واعتبارها أنَّ حقها في الحكم لا يتطلب مشاركة من أطراف أخرى، مما أفضى إلى سذاجة الحزب الواحد والرأي الأوحد.

إذًا، تختلف الأوضاع اختلافًا كبيرًا بين النصف الأول من القرن العشرين ونصفه الثاني؛ ففي الأول كان المثقف محترم الرأي ومؤثرًا، وتنتشر آراؤه بين الناس والحكومات. لكن بعد الاستقلال واستتباب الأنظمة الوطنية، تقلَّص دوره؛ ولم تعد هناك مساحة للمثقف الحر النقدي. فإما أن يكون حليفًا للسلطة أو يُجبر على الصمت، أو يمارس نشاطًا تخصصيًّا ضيقًا لا يتعارض مع القضايا الأساسية.

واليوم، نجد أنَّ الدولة (أو بعضها) تستقطب مثقفين يكتبون في كل الشؤون –الآداب، الثقافة، التراث، الشعر، بل وحتى الديمقراطية والتنوير– لأنَّ هذه القضايا لم يعد لها تأثير آني أو تهديد فعلي. فدعوات التنوير، على سبيل المثال، تناسبت مع القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أما الآن، فنحن في مرحلة تتطلب أكثر من مجرد الدعوة للتنوير، وعودة إلى النقطة الأساسية والمتمثلة في الحاجة المُلحة إلى تيار فكري ثقافي نقدي، واعٍ بمهمته ودوره في صياغة أهداف المستقبل.

كتاب "المدينة العربية والحداثة" يتناول التطورات التي لحقت بالمدن العربية، وخصوصًا المتوسطية، في الحقبة العثمانية، والتي بدأت تظهر ملامحها بوضوح مع المؤثرات الغربية (الجزيرة) انطلاقًا من تتبُّعكم لمسار المثقف العربي ودوره خلال القرن الماضي، وفي ضوء انتكاسات الحركات الاحتجاجية منذ عام 2011: كيف أثَّر غياب المثقف القيادي عن تلك الانتفاضات -وهو الذي كان يمكنه صياغة المطالب وتوجيه الاحتجاجات سلميًّا- في تداعيات تلك الانتفاضات ومآلاتها النهائية؟

صحيح، يمكنني القول إني عاصرت هذه المرحلة في المشرق، وتابعت كل فصول التحركات التي اندلعت في تونس، ومصر، وسوريا، وليبيا، شأني شأن أي مواطن مهتم. عندما انطلقت شرارة التحركات، سواء بحادثة البوعزيزي في تونس، أو بتجمعات الشباب في ميدان التحرير بالقاهرة، وغيرها من الأماكن، لاحظنا اندفاعة شبابية عفوية. في المقابل، كان المثقفون بعيدين عن توقع أو تشخيص حدوث أمر كهذا. ورغم أن بعضهم التحق بالساحة –كما كتبتُ في مقالاتي– فإن الاستقطاب الحقيقي الذي تبلور بعد أشهر قليلة في كل من تونس وسوريا ومصر، كان يدور بين تيارين رئيسيين.

وحتى عندما احتدم الأمر في مصر –وهي مثال ذو ثقل وتأثير– رأينا أنَّ المثقفين، في عام 2013، انحازوا اضطرارًا إلى الدولة الأمنية على حساب الإسلاميين. ورغم أن تقييم موقفهم ليس موضوعنا، فإنَّ ما يجب أن ندركه هو أنهم كانوا يرزحون في منطقة محايدة بين قطبين لا ينتمون إليهما فكريًّا. وقد أوضحت الانتخابات التي جرت في تونس ومصر أنَّ الاستقطاب الأساسي كان بين "العسكر والإخوان".

إنَّ هذا الواقع يفرض على هؤلاء المثقفين إدراك ضرورة خلق هذا التيار النقدي الذي أشرت إليه مرارًا. ولدينا مثال من لبنان؛ ففي انتفاضة عام 2019، ورغم التعقيدات المعروفة للوضع اللبناني، كان الافتقار الحقيقي يكمن في القيادات الفكرية والسياسية. ذلك أنَّ هذا الحراك الشعبي الواسع، الذي ضم عشرات الآلاف من اللبنانيين في مناطق لم تعتد التظاهر، أفرز في المقابل مئات الجمعيات الصغيرة المتضاربة، التي تفتقر إلى برنامج موحَّد وتوافق في الرأي.

ونتيجة لذلك، شهد هذا التحرك تراجعًا واضمحلالًا بعد أن راوح مكانه لأشهر. وبالإضافة إلى الانهيار المالي وكارثة انفجار مرفأ بيروت، يصب كل هذا في حقيقة أساسية: المثقفون لا يشكلون تيارًا فاعلًا. وإذا كنا لا ندعوهم إلى تشكيل حزب سياسي، فعلى الأقل يجب أن يستعيدوا دورهم عبر إنشاء تيار نقدي راسخ، يؤسس لرؤية عربية شاملة تقوم على التعددية، والديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، واحترام الآخر.

هذا الكتاب هو استكمال لمشروع بدأه، د. خالد زيادة، حين سجل أطروحته للدكتوراه، وهو واحد من ثلاثة كتب خصصها للبحث في العلاقات بين العالم الإسلامي وأوروبا (الجزيرة)إن دعوتكم للمثقف العربي لإنشاء تيار نقدي يدعم مفاهيم الديمقراطية والتعددية تصطدم بواقع تآكل الثقة في النموذج الغربي؛ أي كيف يمكن للعالم العربي أن يتفاعل مع متطلبات الديمقراطية في ظل مراقبته لـ"عجزها" الظاهر عن حل أزماتها الداخلية، وهل أصبحت الديمقراطية، بهذا القصور الملحوظ، مفهومًا غير قادر على إلهام نهضتنا أو تقديم حلول جذرية لأوطاننا؟

أجل ما تتفضل به صحيح؛ نحن نتابع عن كثب أزمة الديمقراطية الراهنة في البلدان التي نشأت فيها وتأصلت. بيد أنه يغيب عن أذهاننا أن هذه المجتمعات قد حققت مكتسبات حقيقية باتت جزءًا أصيلًا من بنيتها.

فلا يمكن اليوم محاكمة مواطن في تلك الأقطار دون تمكينه من حق الدفاع وتوكيل محامٍ. ولا يمكن للفاسد في سدة السلطة أن يستمر في فساده؛ إذ تابعنا محاكمة العديد من الرؤساء في فرنسا وغيرها. وهذا دليل على أنَّ سيادة القانون أضحت مكتسبًا لا يُراجع. وبالتالي، إن كنا نشهد خللًا في الممارسة السياسية، فهذا الخلل لا يطال بنية الدولة الراسخة القائمة على أسس ثابتة. وهذا بالتحديد ما نفتقده.

لا يجوز لنا أن نتذرع بأزمة الديمقراطيات الغربية، أو بضبابية الحدود بين اليمين واليسار، أو بتبعية الحكومات للولايات المتحدة. فكل ذلك قد يكون صحيحًا، لكنَّ الحقيقة الأعمق هي أنَّ هذه الدول قد أنجزت جلَّ ما تضمنته التصورات الديمقراطية عبر زمن طويل.

نحن لا نُقدِّس الديمقراطية، ولكننا نسعى إلى نظام يقوم على التداول السلمي للسلطة، وعدم احتكارها، وإلغاء التمييز بين المواطنين، وإرساء سلطة القانون الحقيقية. وكل هذه الأمور غدت من مكتسبات الغرب الثابتة.

فالمواطن الفرنسي، على سبيل المثال، قد لا يُعير اهتمامًا كبيرًا للسياسة أو يمتنع عن المشاركة في الانتخابات، لكنه بالمقابل، حين يرى مساسًا بمصالحه، ينزل إلى الشارع، وله الحق المطلق في إغلاق الطرق، ولا تستطيع أجهزة الأمن ممارسة الإرهاب تجاهه.

إذًا، لا يمكننا أن نشبّه أوضاعنا وأوطاننا بما حققته أوروبا. فإذا كانت هناك أزمة في الممارسة الديمقراطية عندهم، فليست هناك أزمة في دولة القانون، ولا في أداء المؤسسات الدستورية. والفساد ليس مقبولًا في السلطة أو المؤسسات. فالدولة بمؤسساتها تعمل بروح الشفافية، وتقوم بمهامها، وتحترم الفرد وحرياته.

علينا أولًا أن نصل إلى هذه المرحلة، وبعدها يمكننا الحديث عن أزمة الديمقراطية. المطلوب منا الآن هو بناء مساحة لسيادة القانون، ومساحة لحرية الرأي، ومساحة لتداول السلطة. إنَّ تحقيق هذه المرتكزات الثلاثة يمثل إنجازًا عظيمًا. ومطلوب من المثقفين والفئات السياسية بلورتها وجعلها شعارات أساسية؛ لأننا نفتقر في الوقت الراهن إلى الرؤية الواضحة لما يجب أن ننجزه.

يستعرض الكتاب التاريخ السياسي للدولة العثمانية، خصوصًا في فترة التنظيمات وعهد السلطان عبد الحميد الثاني، كما يستعرض بالتفصيل ظهور الحركات المعارضة، ولا سيما جمعية تركيا الفتاة (الجزيرة) انطلاقًا من التفاعل المستمر بين الدولة والحركات الاحتجاجية، وانتصار الدولة المتكرر رغم الإجماع على نقص حداثتها: هل يعود هذا التفوق لقدرة الدولة العربية على احتكار العنف، أم لامتلاكها خبرة تاريخية؟ والأهم، لماذا تبدو إمكانية الانزلاق نحو "الدولة الفاشلة" أيسر وأسرع من بلوغنا "الدولة الحديثة" الكاملة؟

أجل، لقد طرحتَ عدة إشكاليات محورية تتصل بمسألة الحداثة، وبجذور الدولة ومرتكزاتها الأساسية. ومع إدراكنا لتباين التجارب التاريخية بين الدول، يمكننا رصد إيجابية وسلبية في تعاطي العالم العربي مع الحداثة.

فهناك الانتقائية الشكلية؛ فقد أخذنا من الحداثة مظاهرها الخارجية دون جوهرها. شيَّدنا الجامعات الحديثة، وأقمنا البرلمانات، ووضعنا الدساتير، لكننا في الممارسة لم نلتزم بشروط العلم أو بمقتضيات الدستور. وينطبق هذا على العامة التي تُبهرها التقنيات الحديثة، بينما تنظر باستغراب واستنكار إلى تطورات الغرب المتعلقة بالأسرة، وتستمر في احتقار المرأة واعتبارها دونية.

لقد أخذنا إذًا شكل الحداثة وأهملنا مضامينها. ولا يعني حديثي الدعوة إلى التقليد الأعمى للغرب، فهذا غير ممكن؛ لكن هناك مكتسبات إنسانية أساسية تجاوزت الحدود الثقافية، وتقوم على سيادة القانون الذي يشمل الحقوق الإنسانية وحقوق المرأة والطفل، وهي ما نهمله. يجب علينا أن نطور نظرتنا إلى الإنسان كقيمة عالمية، وترك كل ثقافة تصيغ هذه الحقوق والحقوق السياسية بما يتناسب معها.

أما فيما يتعلق بـ"الدولة العربية"، فيجب علينا عدم إغفال دراسة أصولها. لقد توصلتُ في بحثي إلى اقتناع بأنَّ أصول الدولة، على الأقل في دول مثل مصر، تونس، العراق، وسوريا، تشهد استمرارية للتراث المملوكي منذ القرن الثامن عشر، رغم الثورات والتغيرات التي مرت بها. ولا أقصد هنا الدولة المملوكية القديمة، بل أقصد تسلط المُلك الذي ظهر مع ضعف الدولة العثمانية.

هذا التسلُّط الذي رسخ في القرن الثامن عشر، والذي كان يمثل سلطة منفصلة ومُركَّبة على الشعب، لم يندثر؛ فالسلطة هنا تُفهم بمعزل عن إرادة الشعب، وحتى لو تذرعت بأنها أتت عبر انتخابات شكلية ومراسم جمهورية، فإنَّ العمق المملوكي (بمعنى السلطة المنفصلة عن الشعب) ما زال متجسدًا، وتتغير وجوهه لكنه يستمر. وهذا ما يفسر الكوارث التي شهدناها؛ كتدمير بنية الدولة في العراق وسوريا. لا يسعنا الوقت للإفاضة، ولكن يجب أن نبحث عن جذور هذه السلطة المتسلّطة.

وفيما يخص المجتمع، هل نحن مجتمع مدني حقًّا؟ لا أعتقد أنَّ فكرة أننا وصلنا إلى مجتمع مدني صادقة، ولا تتناسب مع واقعنا. كان المفترض أن تتولى الدولة بعد الاستقلال مهمة أساسية هي بناء المواطن، ليس عبر المحاضرات المدنية، بل عبر إزالة التفاوتات الجذرية في البيئات. فما زالت هناك مجتمعات عشائرية تُحكم بأعرافها تحت مسميات حديثة، ومجتمعات زراعية تسودها العلاقات شبه الإقطاعية، إلى جانب المجتمعات المدنية الأكثر تقدمًا.

هذه التفاوتات الهائلة ما زالت قائمة؛ نتحدث عن مجتمعات عشائرية في سوريا، وعائلية في لبنان، وصعيد في مصر لم تصله الخدمات الأساسية. فكيف نتحدث عن مواطن أو مجتمع مدني في ظل هذا التفاوت البنيوي؟ هذا التفاوت ليس مجرد فقر وغنى، بل هو تعدد في المرجعيات القانونية والثقافية؛ فخارج المدن، تسود أعراف وأحكام مختلفة.

لم يُقدِّم علم الاجتماع العربي للأسف إسهامات حقيقية في دراسة هذه الفوارق، لأنَّ السلطات لا ترحب بالبحث في هذه التشوهات الاجتماعية، وتوجه الباحثين لدراسة الفلكلور والتراث. وهذا يمثل إحدى المشكلات الكبرى التي لا نلتفت إليها؛ إذ نفترض أنَّ كل هذه التباينات الجذرية تشكل شعبًا واحدًا ومواطنين متجانسين، بينما نرى تفاوتات هائلة تُكرر الانفجارات والعصيانات في بيئات تشعر بالحرمان التام من المكتسبات التي تستأثر بها فئات أخرى.

إنَّنا لم نتجاوز بعد القرن الثامن عشر فيما يتعلق بالتشوهات المجتمعية في الدولة الواحدة. ولا يمكن بناء وطن في ظل هذه التفاوتات الهائلة وتعدد المرجعيات (كشيخ القبيلة، والمرجعية الدينية، والعلاقات الإقطاعية). هذه هي إحدى العاهات الكبرى التي تعيق تقدم مجتمعاتنا، وعلى الشباب الدارسين أن يلتفتوا إليها لتأسيس رؤية تعالج هذه التباينات التي لم تُحل بعد.

كيف تصفون طبيعة التفاعل التاريخي والفكري بين المشرق والمغرب؟ وهل آلت حركة الأفكار بين هذين القطبين إلى التوحيد والتقارب أم إلى التنافر والتباعد؟

شكرًا لك على هذا التساؤل الهام الذي شغلني لوقت طويل. لطالما كان هناك تطلُّع من المغرب إلى المشرق يفوق نظيره من المشرق إلى المغرب. ويعود هذا جزئيًّا لأسباب دينية؛ فقد كان أهل المغرب يشدون الرحال للحج، وكثير منهم اختاروا الإقامة الدائمة، ولهذا نجد في كل مدينة مشرقية حيًّا أو عائلات ذات أصول مغربية.

في المقابل، لم يكن هناك تطلُّع مشرقي مماثل نحو المغرب، لا سيما في القرن التاسع عشر. الاهتمام بالمغرب بدأ يتنامى في المشرق بالتوازي مع حركاته الوطنية، كاستقلال المغرب بقيادة محمد الخامس الذي أصبح رمزًا له صداه في العالم العربي، وأيضًا مع الثورة الجزائرية.

الأمر الإيجابي البارز هو الحضور الفكري القوي للمغرب منذ سبعينيات القرن الماضي. فقد تُرجمت أعمال عبد الله العروي والجابري، وبدأ العروي يكتب مباشرة بالعربية بعد كتابه الأول "الإيديولوجية العربية المعاصرة" الذي ترك أثرًا كبيرًا (رغم ترجمته عن الفرنسية). وينطبق الأمر نفسه على هشام جعيط التونسي. لقد حضر هؤلاء بقوة، ولا يزالون حاضرين، ليس فقط عبر هذه الأسماء، بل عبر مجموعة واسعة من الجامعيين والمفكرين المغاربة الذين تشكِّل أعمالهم فارقًا في المشهد الفكري المشرقي.

ويعود هذا التقدم إلى سبب جوهري: وهو أنَّ المغرب عمومًا، والمفكرين المغاربة خصوصًا، لم تُشغلهم الأيديولوجيا بالقدر الذي استهلكت فيه مثقفي المشرق. ففي فترة معينة، كان المثقف المشرقي يُعرف بصفته (قومي، شيوعي) لا باسمه، وهو ما أفقر الفكر في المنطقة. أما المغرب فقد تفادى هذه المرحلة إلى حد كبير، ولم يشهد تناقضًا بين الحداثة والأصالة بالشكل المُشوّه؛ فكان الوطني في الوقت ذاته فقيهًا، وهو تطور نفتقده في المشرق.

وبغض النظر عن أي تقييم شامل، يمكن القول إنَّ المغرب حقق نهضة فكرية ملحوظة منذ السبعينيات، ولا تزال أسماؤه تترك بصمتها. ورغم تأثر البعض المبالغ فيه بالمدرسة الفرنسية، فإن هذا يعد ميزة؛ فهو يؤكد وجود اتصال حثيث بالتطورات الفكرية في الغرب (كالمدرسة التفكيكية والبنيوية)، ويظهر أثره في كتابات المفكرين.

هذا الحضور الفكري لم توازِه علاقة تبادل إنساني عميق؛ فالسياحة المشرقية في المغرب والعكس ضعيفة. الأفكار والكتب تصل إلى المثقفين، لكن الاحتكاك الإنساني المباشر آخذ في التضاؤل.

إنَّ هذا الحضور الفكري والثقافي المغربي يشكل ميزة نوعية، لا سيما إذا قارناه بتضاؤل تأثير مركزية فكرية كانت سائدة كمركزية مصر في المشرق والمغرب (باستثناء قامات كطه حسين ونجيب محفوظ). نأمل أن تثمر هذه الميزة وأن تتوسع، وأن يكون هناك تفاعل أكبر بين المشرق والمغرب لصياغة تصورات جديدة للمستقبل القريب.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات فی العالم العربی القرن التاسع عشر المشرق والمغرب بعد الاستقلال القرن العشرین الکبرى التی هذه المرحلة فی المقابل خالد زیادة فی المنطقة استیعاب ا فی المشرق فی القرن ولا یمکن لا سیما لا یمکن الذی ی من الم لم یعد یجب أن تیار ا لم تعد رغم أن فی مصر التی ت

إقرأ أيضاً:

رئيس الوزراء اللبناني: السلام في المنطقة لن يقوم إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة

بيروت- قال رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، خلال لقائه بابا الفاتيكان، السبت 25 اكتوبر 2025، إن السلام في المنطقة "لن يقوم إلا على العدل ولا سيما حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة".

جاء ذلك خلال مباحثات أجراها رئيس الوزراء اللبناني ونائبه طارق متري، مع البابا لاون الرابع عشر، في الفاتيكان.

وذكر بيان لدار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي، أن "قداسة البابا لاوُن الرابع عشر" استقبل رئيس الوزراء اللبناني ونائبه، وفق ما ذكره موقع "فاتيكان نيوز".

وأوضح أن الجانبين أجريا محادثات أعرب خلالها البابا عن "الرضا بالعلاقات الثنائية الجيدة" مع لبنان.

كما أعرب المسؤولون اللبنانيون إلى تطلعهما إلى زيارة البابا إلى لبنان المقررة من 30 نوفمبر/ تشرين الثاني وحتى 2 ديسمبر/ كانون الأول المقبل.

وفي اللقاء، تطرق الجانبان إلى "الآمال التي يعلقها الشعب اللبناني على عملية الإصلاحات والاستقرار في البلاد، مع التمنيات المشتركة بالتوصل قريبا إلى سلام كامل في منطقة الشرق الأوسط بأسرها".

وأوضح الموقع أن رئيس الوزراء اللبناني ونائبه التقيا لاحقا بالكاردينال بيترو بارولين، أمين سرِّ دولة الفاتيكان، بمرافقة المطران بول ريتشارد غالاغر، أمين سر العلاقات مع الدول والمنظمات الدولية.

وفي تعليقه على اللقاء، قال سلام في منشور على منصة شركة "إكس" الأمريكية: "سعدت هذا الصباح بلقاء قداسة البابا لاون الرابع عشر، وأكدت له أن اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم يتطلعون إلى زيارته بفرح".

وأضاف: "جدّد قداسته أمامي تعلّقه بمعنى لبنان وتضامنه مع الشعب الفلسطيني في محنته".

وقال سلام إنه شدد خلال لقائه البابا على أن "وحدة لبنان وسيادته وحريته حق لأبنائه جميعا، وأن السلام في المنطقة لن يقوم إلا على العدل، ولا سيّما على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة".

جدير بالذكر أن الفترة الأخيرة شهدت تصعيدا لافتا في هجمات جيش الاحتلال الإسرائيلي على لبنان وصل إلى حد تنفيذ أحزمة نارية في شرق وجنوب البلاد.

وتواصل إسرائيل خروقاتها لاتفاق وقف إطلاق، الذي توصلت إليه مع "حزب الله" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وتستمر باحتلال 5 تلال لبنانية سيطرت عليها خلال الحرب.

وفي أكتوبر 2023، بدأت إسرائيل عدوانا على لبنان حولته في سبتمبر/ أيلول 2024 إلى حرب شاملة.

ومنذ عقود تحتل إسرائيل فلسطين وأراضي في لبنان وسوريا، وترفض الانسحاب منها وقيام دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، على حدود ما قبل حرب 1967.

مقالات مشابهة

  • أبو الغيط: إسرائيل استفادت من موجات الاضطراب في المجتمعات العربية
  • يستمر 3 أيام.. متاحف قطر تنظم منتدى الشباب العربي الأول لتعزيز الوعي بأهمية التراث الثقافي
  • رئيس جامعة المنصورة يشارك في الاحتفالية الوطنية الكبرى "وطن السلام"
  • حقيقة زيادة الحد الأدنى للأجور للعاملين في الدولة
  • رئيس الوزراء اللبناني: السلام في المنطقة لن يقوم إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة
  • متاحف قطر تستضيف الدورة الـ27 لمؤتمر /ألكسو/ للآثار والتراث الحضاري في الوطن العربي الثلاثاء المقبل
  • ما الذي يجب معرفته عن الغاز الطبيعي ومراحل الاستكشاف والإنتاج والتسعير؟
  • إيطاليا تستحوذ على الحصة الكبرى من الصادرات الأردنية إلى أوروبا
  • ما تداعيات قواعد الاستدامة الأوروبية على صادرات الغاز التي حذرت منها قطر وأميركا؟