غزة «عمان» د. حكمت المصري:

في غزة لا تقتصر الحرب على البشر. إنها حرب على الأرض، على جذور الحياة نفسها. تُقتل الحقول كما تُقصف البيوت، وتجفّ مياه الآبار كما تجفّ دموع المزارعين. ما يجري ليس فقط دمارًا بيئيًا، بل سياسة ممنهجة تستهدف الأمن الغذائي الفلسطيني وتحاول كسر إرادة البقاء عبر التجويع.

في شمال قطاع غزة، كانت بيت لاهيا تُعرف بـ"أرض الذهب الأحمر" لشهرتها بزراعة الفراولة التي كانت تُصدَّر إلى أوروبا والعالم.

بجانبها كانت بيت حانون تفيض ببساتين الحمضيات واللوز والزيتون، بينما تمتدّ الحقول الخضراء حتى البحر.

اليوم تحوّلت هذه المساحات إلى أراضٍ رمادية، تُغطّيها طبقات من الرماد والغبار والركام، بعد أن كانت تمثّل السلة الغذائية للقطاع.

على أطراف بيت لاهيا الشرقية، يقف المزارع صابر العطار (49 عامًا) بين ما تبقّى من ركام دفيئاته الزراعية، يحدّق في الأرض المحروقة ويقول: "كانت أرضي خضراء، أعمل فيها ليلًا ونهارًا مع مجموعة من العمال، لم يبقَ فيها شيء أخضر، حتى التربة تغيّرت رائحتها، كأنها احترقت من الداخل".

أشار بيده النحيلة إلى تلال من الرمال كانت قبل أشهر مزارع للفراولة: "كنت أزرع أكثر من عشرين دونمًا من الفراولة، كنا نسميها الذهب الأحمر، نصدرها إلى أوروبا، ولا تنمو إلا في تربة بيت لاهيا بسبب الماء العذب، كل شيء ضاع، لا أستطيع تحمّل ما حدث من خراب ودمار". بينما يتحدث، تمرّ طائرات استطلاع صغيرة فوق رأسه، فينظر إليها بلا خوف، ما يخشاه الآن ليس الموت، بل أن تذبل ذاكرة الأرض، "أطفالي يسألونني: متى نزرع من جديد؟ أقول لهم: حين تصبح السماء بلا طائرات".

في مواصي خان يونس، يجلس الحاج يوسف أبو عودة (56 عامًا) داخل خيمة مهترئة بعدما دُمّرت أرضه المزروعة بالبرتقال والزيتون واللوزيات، يحمل هاتفه ويقلب صوره القديمة قائلًا: "كانت أرضي كل حياتي، واليوم صارت خاوية على عروشها، لا أستطيع الوصول إليها لأنها أصبحت ضمن المناطق الصفراء التي يمنع الاحتلال دخولها، هذه الأرض علمت أبنائي الذين أصبحوا معلمين ومهندسين، الآن صارت مقبرة، كل من يصل إليها يتم استهدافه من قبل آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة على بعد أمتار منها". يمسك حفنة من تراب الأرض التي لم يعد إليها ويهمس: "أشعر أنني فقدت جزءًا مني، هذه الأرض لم تكن ملكًا فقط، كانت ذاكرة العائلة، قام أبي بشرائها بعد أن رفض مغادرة فلسطين عام النكبة، أعيش الآن في خيمة وكأن التاريخ يعيد مأساة أبي وجدي عام 1948م".

من شمال بيت لاهيا، أحمد فلفل (67 عامًا) وهو عضو مجلس إدارة جمعية بيت لاهيا التعاونية الزراعية فيتحدث بمرارة عن المشهد: "كنا نزرع آلاف الدونمات من الفراولة كل موسم، كان المزارعون يتلقّون تدريبات من وزارة الزراعة لتطوير قدراتهم، اليوم دُمّرت الأراضي والدفيئات بالكامل، بعد أن مارس الاحتلال الإسرائيلي سياسة الأرض المحروقة لتجويع السكان وإرغامهم على النزوح القسري". يضيف: "الاحتلال الإسرائيلي لم يدمّر فقط التربة والآبار، بل دمّر علاقة المزارع بأرضه. جعل من الفلاح الذي كان يزرع للحياة إنسانًا ينتظر المساعدات". يقول المهندس الزراعي أسامة المدهون من الاتحاد العام للإغاثة الزراعية إن ما يحدث هو تدمير للبنية التحتية الزراعية بالكامل، موضحًا: "تدمير المزارع ليس ضررًا آنيًا فقط، بل ضربة تمتد لسنوات، حتى لو توقفت الحرب اليوم، ستحتاج الأراضي إلى سنوات لتتعافى". ويشير إلى أن غزة كانت تُصدّر يوميًا أكثر من 40 شاحنة من الخضروات (الطماطم، والخيار، والبطاطس، والقرنبيط، والبطاطا، والفراولة). اليوم توقّف هذا المشهد تمامًا، وارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، إذ قفز سعر كيلو البصل من دولار واحد قبل الحرب إلى نحو 11 دولارًا أمريكيًا.

وفقًا لبيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن الحرب قد تسببت في تدمير أكثر من 94% من الأراضي الزراعية في القطاع بالإضافة إلى انخفاض الإنتاج الزراعي من 405 آلاف طن سنويًا إلى 28 ألف طن فقط.

كما تقدَّر الخسائر بـ2.8 مليار دولار خلال عامي الحرب، فيما تراجعت مساحة الأراضي المزروعة بالخضروات من 93 ألف دونم إلى 4 آلاف فقط.

لم يقتصر الأمر على ذلك بل تزامن تدمير الأراضي الزراعية مع تدمير نحو 1,233 بئرًا زراعية و85% من الدفيئات الزراعية.

هذه الأرقام لا تصف فقط دمارًا اقتصاديًا، بل انهيارًا في قدرة المجتمع على البقاء، فالاحتلال بحسب منظمات حقوقية وإنسانية يستخدم الغذاء كسلاح في الحرب، في خرق واضح لاتفاقيات جنيف التي تجرّم استهداف مصادر المعيشة للسكان المدنيين.

يرى مختصون أن هذا النمط من التدمير المتكرر ليس عشوائيًا، بل جزء من استراتيجية تهدف إلى اقتلاع الناس من أرضهم، فحين تُدمَّر المزارع، يُدفع المزارعون إلى الاعتماد على المساعدات أو مغادرة أراضيهم بحثًا عن البقاء.

يقول المدهون: "غزة اليوم تواجه حربًا على رزقها أكثر مما تواجه حربًا على حدودها. الاحتلال يريدها بلا أرض، بلا زراعة، وبلا جذور، كان الاحتلال الإسرائيلي وما زال يرسخ مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض "في غزة، لا تزال الأرض تُحارب، لكنها لم تُهزم بعد، وبين الرماد يزرع الفلاحون ما تبقّى من الأمل، يروون ترابهم بالدموع لا بالماء، ويرددون أن الأرض التي تعلّمت أن تنبت تحت القصف، ستنبت من جديد.

لأنه في غزة، حتى الجوع لا يُطفئ الحلم، وحين تُدمَّر الزراعة، يبقى الفلاح يزرع بذاكرته ما لا يستطيع زرعه بيديه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاحتلال الإسرائیلی بیت لاهیا فی غزة

إقرأ أيضاً:

وزير الزراعة يستعرض مع نظيره الأيرلندي فرص الشراكة في الأمن الغذائي والتكنولوجيا الزراعية

التقى علاء فاروق وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، ونظيره الأيرلندي، "نويل جريلش"، وزير الدولة للشئون الزراعية والغذاء الايرلندى، وبحضور المهندس مصطفى الصياد نائب وزير الزراعة، وعدد من قيادات الوزارتين من الجانبين لبحث سبل تعزيز وتوسيع آفاق التعاون المشترك بين البلدين في القطاع الزراعي.

يأتي ذلك في إطار جهود تعزيز التعاون الثنائي بين جمهورية مصر العربية وجمهورية أيرلندا في مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني والبحث العلمي الزراعي، كما يأتي اللقاء على هامش زيارة وزير الزراعة الأيرلندي إلى القاهرة للمشاركة في افتتاح المتحف المصري الكبير.

وفي مستهل اللقاء، رحب "فاروق"، بنظيره الأيرلندي والوفد المرافق له، مؤكدا على عمق العلاقات التاريخية بين البلدين، وتطلعه الى تطوير التعاون في المجالات الزراعية ذات الاهتمام المشترك، بما يساهم في تفعيل الشراكة الاستراتيجية بما يخدم مصالح البلدين، وخاصة في مجالات الأمن الغذائي وتوطين التكنولوجيا الزراعية الحديثة. 
واضاف أن مصر، بفضل توجيهات القيادة السياسية، تسعى جاهدة لتعظيم الاستفادة من الخبرات العالمية، وفي مقدمتها التجربة الأيرلندية المتميزة في الثروة الحيوانية، وتحسين السلالات، والتحول الرقمي للقطاع الزراعي. هدفنا المشترك هو تحقيق مرونة أكبر في سلاسل الإمداد الغذائي وزيادة الإنتاجية بكفاءة، مع دعم متواصل لصغار المزارعين كركيزة أساسية للتنمية الزراعية المستدامة.

فيما أعرب وزير الأيرلندي عن تقديره للتطور الملحوظ في القطاع الزراعي المصري خلال السنوات الأخيرة، مشيرًا إلى أن مصر تمثل شريكًا استراتيجيًا مهمًا في مجال الأمن الغذائي الإقليمي. كما أبدى اهتمام بلاده بنقل الخبرات في مجال الرقمنة الزراعية واستخدام التكنولوجيا الحديثة في إدارة المزارع، والاستفادة من التجربة المصرية في مشروعات الري الحديث والتوسع الأفقي في الأراضي الجديدة.

وتناول اللقاء عددًا من الموضوعات ذات الأولوية، من بينها تعزيز التعاون في مجال الثروة الحيوانية والألبان، والاستفادة من الخبرات الأيرلندية في مجال تحسين السلالات،و بحث فرص التعاون في مجال البحوث الزراعية التطبيقية، لا سيما في مجالات استدامة الموارد المائية والتكيف مع التغيرات المناخية، وإمكانية تبادل الخبراء والتدريب الفني بين المعاهد البحثية المصرية والأيرلندية.

وأكد الجانبان على أهمية تعزيز التبادل التجاري في المنتجات الزراعية والغذائية، خاصة في مجالات الألبان واللحوم والتقاوى والأعلاف، مع بحث إمكانية فتح الأسواق أمام المنتجات المصرية في السوق الأيرلندية بما يتوافق مع المعايير الأوروبية، إلى جانب التعاون في تطوير نظم الاعتماد والفحص الزراعى والبيطري، إضافة إلى تشجيع الاستثمارات المشتركة بين البلدين، وتشجيع الكوادر المصرية لزيارة أيرلندا للاطلاع على أفضل الممارسات الزراعية.

وناقش الوزيران أيضا سبل دعم صغار المزارعين، وضرورة تعزيز البرامج التي تستهدف بناء قدرات المزارعين الصغار في مجالات الزراعة المستدامة، وتحسين الكفاءة الإنتاجية، وتوفير الدعم الفني والتدريبي اللازم لهم، وأهمية توفير القروض الميسرة لتسهيل تمويل صغار المزارعين، وكذا تشجيع التعاونيات الزراعية لإنتاج وتسويق المنتجات.

وبحثا أيضا سبل لاستفادة من برامج Horizon الأوروبية للبحث العلمي والتطوير الزراعي،لتبادل الخبرات في إنتاج التقاوى، تربية الماشية، والأسمدة العضوية، والزراعة المستدامة، مع التركيز على تطوير البحث العلمى والتعليم الزراعي وتدريب الكوادر المتخصصة، إضافة إلى تشجيع استغلال الطاقة الشمسية والرياح وإنتاج الهيدروجين الأخضر لدعم الزراعة والصناعات الغذائية، وتعزيز المشروعات الزراعية الحضرية على أسطح المباني ومشروعات الزراعة المستدامة.

وفي ختام اللقاء، تم الاتفاق على اعداد زيارات للكوادر الفنية من الجانبين بشأن تبادل المعلومات والخبرات في مجالات الإنتاج الحيواني والبحوث الزراعية وإدارة الموارد المائية، وكذا دراسة تنظيم زيارة ميدانية لوفد فني مصري إلى أيرلندا للاطلاع على التجارب الحديثة في مجالات التصنيع الغذائي والزراعة المستدامة، إضافة الى تحديد نقاط الاتصال من الجانبين لاستمرار التواصل ومتابعة ما تم الاتفاق عليه.

مقالات مشابهة

  • وفاة طفل صعقًا بالبرق أثناء تواجده في الأرض الزراعية لمساعدة أسرته بإيتاي البارود بالبحيرة
  • تطوير مقر نقابة المهن الزراعية بمدينة قنا
  • وضع حجر الأساس لمشروع تطوير مقر نقابة المهن الزراعية بقنا
  • محافظ قنا يضع حجر الأساس لمشروع تطوير مقر نقابة المهن الزراعية
  • تدمير الممتلكات واستهداف المدنيين.. الاحتلال يواصل خرق اتفاق وقف إطلاق النار في غزة
  • أيرلندا تعتزم فتح الأسواق الزراعية أمام المنتجات المصرية بمعايير أوروبية
  • وزير الزراعة يستعرض مع نظيره الأيرلندي فرص الشراكة في الأمن الغذائي والتكنولوجيا الزراعية
  • التنمية الزراعية من اجل السلام في السودان
  • روسيا تعلن تدمير 4 مسيرات أوكرانية كانت متجهة نحو موسكو