ردًا على "خرافة اليمن أصل العرب"
تاريخ النشر: 3rd, November 2025 GMT
ناصر أبوعون
لا شك أنّ أحداث الرُبع الأول من القرن الحادي والعشرين، ألقت بظلالها على العلاقات العربية- العربية، وفي المسار ذاته اشتغلت مراكز الأبحاث الصهيونية وفي أيديهم وسائل التواصل الاجتماعي على "تفتيت الهُويّة العربية"، ودعم التمايزات المناطقية، وتغذية الطوأفة بين المكونات الثقافية، وإشعال نيران التمذهُب الدينيّ، والتشكيك في التأريخ العربي، وإثارة نعرة النزاعات القَبليّة، والتشويش على الثوابت العقائدية، في محاولات دؤوبة لا تكلّ ولا تملّ.
                
      
				
كل ذلك من أجل سلخ أقطار هذه الأُمَّة من أصولها، وتمزيق وحدتها، وتفريق الجماعة العربية بعصا القُطْريّة ليسهل الانفراد بها، وامتصاص دمها، وذلك استنادًا إلى السرديات التوراتية "المُحرَّفة"، وتأويلات بعض المُستشرقين المُغرضين التي لا تخلو من حقدٍ دفينٍ، والتي كانت الوقود الذي يزيد نيران الفُرقة بين بني العروبة اشتعالًا. وللأسف هناك فصيل كبير من الكُتاب العرب يسيرون معصوبي الأعين خلف هذه التُرَّهات.
ولقد أثار فضولي مقالة تحت عنوان «خرافة اليمن أصل العرب» منشورة في جريدتنا "الرؤية" الغراء، ارتكز صاحبها على أقوال المُستشرقين وباحثين من اتجاه واحد وأيديولوجية واحدة؛ بل وباحثين من جنسية واحدة وإشارته إلى العديد من الفيديوهات التي تملأ السوشيال ميديا والتي لا يُعتد بها عِلميًا، ولا تُسمن النَهَم إلى المعرفة ولا تُغني المُتهافِت للمصداقية من جوعٍ إلى الموضوعية.. وللأسف هذه التُّرّهات رَدَّت عليها أطاريح أكاديمية كثيرة في سائر الجامعات الغربية المرموقة والعربية أيضًا، يضيق المكان عن ذكرها؛ ولذا وجب الرد بإشارات طفيفة على بعض المغالطات، أسردها فيما يلي:
أولًا: عندما ترد كلمة "العرب" في أي سياق تاريخي قديم ينصرف الذهن فورًا إلى المنطقة الجغرافية التي تشغلها المملكة العربية السعودية، وتُقدَّر مساحتها بأكثر من 2.250.000 كيلومتر مربع. فإذا ما عُدنا إلى المؤرخ اليوناني هيروتس في القرن السادس قبل الميلاد نجده يطلق كلمة "العرب" على نطاق جغرافي واسع يجمع بين شبه الجزيرة العربية كلها بامتداداها إلى عُمان واليمن وأدخلَ معهما نصف مِصر تقريبًا، وصولًا إلى الحد الشرقي من نهر النيل (راجع استراتيجية تطوير التربية العربية، ص: 51). إذن؛ نستخلص مما سبق أنَّ جُلّ سكان شبه الجزيرة العربية جنوبها وشمالها، يمنها وعُمانها، وصولًا إلى مصر، هم عربٌ خُلَّص، ومن عنصر واحد وعرق واحد. ونضع أصبعًا في عين من يُشعل نيران الفُرقة.
ثانيًا: عندما نذكر كلمة "اليمن" في أي سياق يتبادر إلى الذهن والمخيلة المساحة التي لا تتجاوز 527.970 كيلومتر مربع، التي رسمها المستعمر البريطاني على عينه، بُغية إثارة النعرات العصبية والقبلية؛ لينعم هو ومَن وراءه بمقدرات أمتنا من المحيط إلى الخليج. إلّا أنَّ كلمة "اليمن" أعمّ من اليمن المعروف اليوم بحدوده السياسية! ولعل أوضح الحدود في العُرف الشرعي: قوله عليه الصلاة والسلام: "وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ" رواه البخاري ومسلم. فما وراء ميقات يَلَمْلَمَ يُعتبر من اليمن في القديم. وقال الأصمعي: "اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عُمان إلى نجران، ثم يلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشَّحْر حتى يجتاز عُمان فينقطع من بينونة"، وبينونة بين عُمان والبحرين، وليست بينونة من اليمن. وقيل: حَدّ اليمن مِن وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء، وما قاربها إلى حضرموت والشَّحْر وعُمان إلى عدن أبْيَن، وما يلي ذلك من التهائم والنجود. واليمن تجمع ذلك كله، وكانت تِهامة وما جاورها تعتبر أيضًا من بلاد اليمن، ولذلك يُقال لأبي هريرة رضي الله عنه: اليماني. كما في ترجمته، وهو دوسيّ ومن بلاد دوس، وقد يُطلَق على الحجاز عامة: اليمن. ألا تراهم يقولون: النبي اليماني؟! (صيد الفوائد، عبد الرحمن بن عبد الله السحيم عضو مركز الدعوة والإرشاد بالرياض). إذن؛ نستخلص مما سبق أن جميع سكان شبه الجزيرة جنوبها وشمالها وعُمانها وصولًا إلى مصر يمانيون أو يمنيون خُلّص، واليمن أصل العرب.
ثالثًا: لا فرق بين سكان شمال شبه الجزيرة وجنوبها؛ فكلهم ذوو أصل واحد وجَدٍّ واحد وأبناء عمومة، وكلهم سكنوا الجنوب وكلهم سكنوا الشمال. وقد اتفق سائر الباحثين الغربيين والعرب المُشتغلين بعلوم التاريخ والآثار، وأكدت الدراسات الجيولوجية والحفريات الآثاريّة أن شبه الجزيرة العربية كانت ذات تربة زراعية وأنهار تجري، وكان سكانها أصحاب حضارة وحياة مُترفة، ولأن سطحها الجغرافي يميل ناحية الجنوب فقد تَعرَّضَ الشمالُ إلى موجة جفاف طويلة فأجدبت الأرض، وتصحَّرت التربة، وصيّرتهم التغيّرات المناخية إلى حياة البداوة والرعي، فتوجّه الشطر الأكبر من سكان الشمال إلى جنوب شبه الجزيرة في هجرات جماعية متتالية لينعموا هناك بحياة أكثر ازدهارًا وعاشوا بين ظهراني أهليهم يبنون السدود، ويشقّون الأفلاج، وينظمون الزراعة؛ كما حكى القرآن: "لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ" [سبأ: 15]. فلمّا كفروا بأنعم الله، وأعرضوا عن شُكر ربّهم، وكذَّبوا رُسلَه عاقبهم الله بانهيار سد مأرب الأكبر "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ" (سبأ: 16)؛ فتحول الجميع إلى الشمال وتوالت الهجرات؛ فبعضهم سكن عُمان، وبعضهم هاجر إلى تِهامة، وولى بعضهم وجهه شطر بلاد العراق والشام. وكان يُضرَب بهم المثل في التَّفرّق. فقيل: "تفرّقوا أيدي سبأٍ وأيادي سبأ"؛ أي مذاهب سبأ وطرقها (القرطبيّ، ص:7373).
إذن نستخلص مما سبق، أنَّ الهجرة الأولى قام بها سكان شمال شبه الجزيرة نحو الجنوب على أثر موجات الجفاف والتصحر، ومع انهيار سد مأرب عاد سكان شبه الجزيرة العربية نحو الشمال، بعد أن زاد عددهم وتفرّعت أنسابهم بين قحطاني وعدنانيّ وأزديّ، وكلهم عن بكرة أبيهم يمانيون أو يمنيون خُلَّص لا تشوب أنسابهم شائبة.
رابعًا: سائر سكان شبه الجزيرة العربية جنوبها وشمالها ووسطها عرب ساميون دون تمايز، تربطهم وشيجة الدم والنسب لا فرق بين أدناهم وأعلاهم، وظلّت شبه الجزيرة العربية الموطن الوحيد الذي لم يخضع للنفوذ الأجنبي. فضلًا عن وشائج القُربى بين اللهجات السريانية التي كان يتحدث بها آدم وسيت ونوح وخنوخ شقيق إدريس والنبي إسماعيل بن إبراهيم، والهيروغليفية القديمة واللغة العربية الفصحى التي نتحدثها اليوم، بسائر لهجاتها، والتي كانت كل واحدة منها تعكس ثقافة تجمّعٍ عشائري.
يقول المؤرخ الإنجليزي سايس: "كل الرويات تشير إلى جزيرة العرب موطنًا للساميين بدون شائبة، وكان أهلها يُغيرون على ما جاورَهم من بلاد في العراق والشام والفرس وبلوشستان وغيرها من الحواضر المجاورة؛ ولذا نجت شبه الجزيرة العربية من تسلُّط كيروش (ملك الفرس) وطغيان الإسكندر الأكبر (ملك اليونان)، وبقيت على استقلالها زمن الرومان (راجع: اللغة الآشورية، سايس، 1862م).
ومن ثمَّ، نستخلص مما سبق أنّ القبائل العربية بسائر بطونها وأفخاذها لم يُخالط دمها أجناس أخرى، ولم يدخل لغتهم مؤثرات ثقافية من شعوب أخرى، وأن نظرية انتماء العربية إلى عائلة "اللغات الهندأوربية" فِرية لا أصل لها، روّج لها الناقد المصري لويس عوض ومن لفّ لفَّه من دُعاة التغريب وراغبي سلخ مِصر عن أصلها العربي ومحيطها الثقافي وإلصاقها بحضارات حوض البحر المتوسط.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
خطة أمريكية مُثيرة للجدل: نقل نصف سكان غزة إلى مناطق تحت سيطرة الاحتلال |تفاصيل
قالت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» العبرية إن أحد المقترحات الرئيسية لإعادة إعمار غزة، التي قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للدول المانحة، يتضمن بناء ما يقرب من نصف المناطق السكنية في النصف الشرقي من القطاع، الذي يخضع حاليًا للسيطرة الإسرائيلية، بحسب ما ذكره دبلوماسيان عربيان.
وقال الدبلوماسيون إن «غزة الجديدة» هو المصطلح الذي يستخدمه المسؤولون الأمريكيون بشكل متكرر لوصف المشروع الذي سيقام على الجانب الشرقي من «الخط الأصفر»؛ وهي الحدود التي تم رسمها حديثًا وانسحب إليها جيش الاحتلال الإسرائيلي عند بدء اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين إسرائيل وحماس في 10 أكتوبر.
وأدى الانسحاب الجزئي إلى سيطرة إسرائيل على نحو 53% من مساحة غزة، غير أن خطة ترامب لإنهاء الحرب تتصور انسحاب جيش الاحتلال تدريجيًا إلى الجانب الآخر من حدود القطاع ومغادرته.
لكن هذا الانسحاب مشروط بنجاح «قوة الاستقرار الدولية» (التي لم تُنشأ بعد) والمكلَّفة بتأمين غزة بعد الحرب.
وبما أن هذين الشرطين لاستمرار الانسحاب الإسرائيلي يصعب تحقيقهما، فإن الولايات المتحدة قد لا تنتظر طويلًا قبل بدء عملية إعادة الإعمار.
وأشار مستشار ترامب، جاريد كوشنر، إلى أن واشنطن ترغب في البدء بالجانب الذي تسيطر عليه إسرائيل من الخط الأصفر، وبخاصة في مدينة رفح جنوب القطاع.
وتتضمن الخطة الأمريكية انتقال ما يصل إلى مليون فلسطيني — أي نحو نصف سكان غزة — إلى المناطق السكنية التي سيتم بناؤها على الجانب الخاضع للسيطرة الإسرائيلية من الخط الأصفر خلال عامين، حتى لو لم تنسحب قوات الاحتلال بحلول ذلك الوقت، وفقًا لما ذكره الدبلوماسيان اللذان وصفا هذه الفرضية بأنها «غير واقعية إلى حد كبير».
وقال أحد الدبلوماسيين العرب: «قد لا يرغب الفلسطينيون في العيش تحت حكم حماس، لكن فكرة استعدادهم للانتقال للعيش تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي والخضوع لسيطرة الطرف الذي يرونه مسؤولًا أيضًا عن قتل 70 ألفًا من إخوانهم هي فكرة خيالية».
من جهته، رفض مسؤول أمريكي الحديث عن تبنّي أي خطة محددة لإدارة غزة بعد الحرب، مؤكدًا أن الجهود لا تزال في مراحلها الأولى، وأن العديد من الأفكار قيد النقاش.