هل ستحمي الأقفاص الذهبية الإسرائيليين؟
تاريخ النشر: 4th, November 2025 GMT
خلال الحرب الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة، ظهرت مشاهد غير مسبوقة؛ مبانٍ منهارة، قتلى وجرحى، وهرولة الملايين نحو ملاجئ لم تتّسع للجميع، إلى حد أن بعضها أُغلق في وجوه مَن قصدوها سواء لعنصرية أو إهمال.
وبينما تستبق حكومة نتنياهو جولة مقبلة من الحرب بتوسيع "الغرف الآمنة" داخل الشقق وتشديد مواصفاتها ورصد ميزانيات إضافية، يبرز سؤال: هل يكفي التحصين المعماري لخلق أمان يجعل البلاد قابلة للعيش على المدى الطويل؟ وهل تتحوّل هذه الغرف إلى حماية فعلية للمستوطنين الإسرائيليين أم إلى "قفص ذهبي" يضيف كلفةً وفجوةً جديدة دون أن يبدّد هشاشة الحياة تحت قصف الصواريخ الفرط صوتية وأصوات صفّارات الإنذار؟ هذا المقال محاولة للإجابة.
تمتلك دولة الاحتلال الإسرائيلي أحد أكثر أنظمة الدفاع الجوي تطوّرا. وعلى الأرض، أرست لوائح البناء لعام 1969 قاعدة الملاجئ المشتركة داخل المباني السكنية، ثم توسّع التطبيق في السبعينيات والثمانينيات ليُخصَّص ملجأ مشترك لكل طابق، بإشراف السلطات المحلية وقيادة الجبهة الداخلية. غير أنّ القصف العراقي بصواريخ سكود خلال حرب الخليج عام 1991 غيّر المعادلة جذريا، فصدر قانون يُلزم المقاولين بتشييد "غرفة آمنة" (ماماد) داخل كل مسكن جديد.
تُبنى غرف الماماد من خرسانة مسلّحة لا يقل سُمكها عن 30 سم، وتُجهَّز بأبواب ونوافذ مقاومة للانفجارات وأنظمة تهوية مستقلة، وبعضها مزوّد بوسائل حماية من الهجمات الكيميائية، إلى جانب تمديدات كهربائية واتصالات تسمح بالبقاء فيها لفترات مطوّلة.
هذا التحوّل نقل الأمان من منفعة عامة إلى سلعة يملكها مَن يدفع أكثر. فقد ارتفعت أسعار الشقق المزوّدة بماماد، وبدأت شركات البناء في تسويق "التحصين" بوصفه ميزة تفاضلية، بينما انزاحت مسؤولية الحماية تدريجيا من الملاجئ العامة إلى القرارات الفردية للمستوطنين وأسرهم.
إعلانومع تصاعد حرب الإبادة الإسرائيلية واتساع نطاق العنف خارج فلسطين، الذي جلب تهديدات جديدة على الإسرائيليين، نُسب إلى الماماد، بجانب منظومات اعتراض الصواريخ، فضلُ تقليل الخسائر البشرية لدى الاحتلال لكونها توفر ملاذا فوريا داخل الشقق، بخلاف الملاجئ العامة التي قد تكون بعيدة أو مكتظّة.
وحتى أواخر 2024، تُشير بيانات جمعية بناة إسرائيل إلى أنّ 56% فقط من المنازل تتضمّن غرفا آمنة، مع ندرةٍ في الأحياء القديمة، ومع ذلك ارتفع العدد بنحو 50% على أساس سنوي وفق معطيات جيش الاحتلال. وبفعل حرب الإبادة في غزة والاشتباكات مع حزب الله، تبدّلت أنماط الطلب بسبب النزوح عن مناطق التماس في الشمال وغلاف غزة، وتزاحم المستوطنين على المدن الأخرى، في ظل نقص العمالة وارتفاع كلفة البناء، ما دفع الأسعار إلى الصعود.
أصبح وجود الماماد محدِّدا رئيسيا للأسعار، إذ تُباع الشقق المزودة به بهوامش أعلى تتراوح بين 20–30% مقارنة بالبيوت المماثلة التي تفتقر إلى غرفة آمنة، وينسحب الفارق على سوق الإيجارات أيضا. ففي القدس مثلا، يدور متوسط إيجار الشقة المزوّدة بماماد حول 8 آلاف شيكل شهريا، مقابل 5 آلاف شيكل تقريبا لغيرها.
نتحدث إذن عن تغير شامل يضع الأمن احتياجا أساسيا في المنازل مثل الكهرباء والمياه، وبعد أن كان المطورون العقاريون يعلنون عن مزايا الأبنية، مثل الإطلالة وضوء الشمس وتوفر مواقف السيارات، فإن متطلبات اليوم التي تغير سوق العقارات تماما وتتحكم به هو سؤال واحد: "هل توجد غرف آمنة؟"، وتوفرها في العقار يرفع قيمته بأكثر من تكلفة بنائها.
عمليا، قد يرفع إدخال الماماد كلفة بناء المسكن الإجمالية بنسبة 12–15%. ورغم تشكّكٍ سابق في جدواها باعتبارها كلفة إضافية، بدت بعد انهمار الصواريخ على تل أبيب والقدس وحيفا وكأنها "الحلّ الآمن" المتاح للأسر القادرة، فتضاعف البحث عن شقق مزوّدة بها وتتابع ارتفاع أسعارها، بينما يسارع المهندسون إلى تعميم دروس 7 أكتوبر والحرب مع إيران في تصاميم تحصين أحدث.
قبل أشهر من طوفان الأقصى، خفّضت حكومة نتنياهو التمويل المخصّص للقروض والمنح المرتبطة ببناء الغرف الآمنة داخل المدن، فزادت الفجوات خصوصا في مناطق كالنقب حيث يشتكي السكّان العرب والبدو من غياب الملاجئ وتردّي البنية الأساسية. وباستثناء مستوطنات غلاف غزة ضمن نطاق 7 كلم التي نُفِّذت فيها مشاريع تحصين، أظهرت مستوطنات الشمال قصورا ملحوظا، ثم جاء إقرار الكنيست في مايو/أيار 2023 لميزانية 2023–2024 متضمِّنا تقليص بند "دفاع الشمال" ليكرّس هذا الاتجاه.
وبعد هجوم 7 أكتوبر، وبسبب تحديات صيانة الملاجئ العامة والمشتركة، اتّسع الاعتماد على بناء "ماماد" داخل الوحدات السكنية بوصفه الحلّ الأكثر عملية أمام تهديد الصواريخ. ولتسريع الوتيرة، أجازت قيادة الجبهة الداخلية تشييد الغرفة الآمنة بترخيص مباشر منها دون الحاجة إلى ترخيص البلدية، غير أنّ كلفة التنفيذ بقيت العائق الأبرز أمام شرائح واسعة.
إعلانورغم هذه الإجراءات، حين بلغ الضغط على منظومات الاعتراض ذروته خلال الهجمات الإيرانية في يونيو/حزيران الماضي، تَكشّفت محدودية القدرات الإسرائيلية، فلم تتوفر ملاجئ أو غرف آمنة لجميع السكّان على قدم المساواة. وتُظهر بيانات 2018 أنّ 38% فقط من الإسرائيليين يملكون غرفة مأوى داخل شققهم، مقابل نحو 34% يعتمدون على ملاجئ خاصة في المباني أو ملاجئ عامة، فيما يفتقر 28% لأي وسيلة حماية.
ورغم فرض قيادة الجبهة الداخلية بناء الماماد في المساكن الجديدة منذ 1992، بقيت الأبنية السكنية القديمة بلا تحصين كافٍ، وبقي الوصول إلى الغرف الآمنة مرتبطا بالدخل والموقع، بما يعكس اختلالات التخطيط وتوزيع الموارد.
كما لم يقتصر الانكشاف على فجوات طبقية وزمانية بين جديد وقديم، فقد بدت البلدات العربية عمليا خارج معادلة الحماية، حيث لم تُتخذ فيها سوى تدابير وقائية محدودة، ولم تخصص الحكومة الإسرائيلية ميزانيات للملاجئ العامة، ما يعني أنّ الحق في النجاة ذاته يخضع لمنطق تمييزي طالما عُرفت به إسرائيل منذ تأسيسها. في المقابل تتحرّك الحكومة اليوم بسرعة استعدادا لجولة مقبلة من الحرب عبر تعميق الاستثمار في التحصين.
كل هذا سيوضع في الحسبانفي يوليو/تموز الماضي، أقرَّ الكنيست تعديلا يتيح توسيع غرف الماماد إلى 12 م²، وأحد الدروس المستفادة من حرب السابع من أكتوبر أن هذه الغرف الآمنة ستُزوَّد بحمّام بمساحة 3 م²، ليمكن البقاء فيها لوقت طويل، وستكون الغرف قابلة للإغلاق من الداخل حتى تكون في مأمن من هجوم خارجي، ونظرا لأن أغلب هذه الغرف تُستخدم في أوقات السلم مكاتب أو غرف نوم، وتحتاج إلى دخول ضوء النهار، فستحتوي المنازل على مصاريع فولاذية خارجية إلى جانب النوافذ الزجاجية.
وتوصي التعليمات الفنية المقاولين بتركيب مصاريع فولاذية على عجلات علوية حتى لا تتراكم الأوساخ أسفلها فتعوق الإغلاق أثناء الطوارئ. في المقابل، تبحث قيادة الجبهة الداخلية إمكانية تصميم أبواب أكثر قدرة على امتصاص الموجات الصدمية ومقاومة الرصاص لتكون متاحة تجاريا قبل نهاية العام الجاري. وإلى جانب بدائل الخرسانة السميكة التقليدية، يدرس جيش الاحتلال موادَّ أكثر صلابة وجدرانا بسُمكٍ أعلى، مع تجهيزات اتصال إذاعي داخل الغرف المحصنة.
وبشكل مستمر، يجمع مختصون عسكريون وفرق هندسية بيانات الأضرار من مواقع القصف لتغذية تصاميم الجيل التالي من التحصينات. فالأبواب الفولاذية ستكون مُعزَّزة بتكلفة تُقدَّر بنحو 2000 دولار، وستُضاف معايير تستهدف قدرة حماية تمتد لساعات بدل دقائق، ما يعني كُلفة أعلى وحلولا مُتدرجة بحسب القوة الشرائية.
يرى القائمون على المنظومة أنّ سدَّ الثغرات وتوسيع شبكة الملاجئ ورصد التمويل الكافي هو الطريق الأقرب. لكنّ تجربة الحرب الأخيرة تُظهر محدودية هذا المنطق. فقد قُتل 24 إسرائيليا نتيجة الضربات الإيرانية، وهو رقم عدّته الحكومة الإسرائيلية "محدودا" قياسا بعدد الصواريخ الإيرانية، لكنّه يظل مؤشرا على فجوة في جدار الحماية الإسرائيلي.
ما زاد الشكوك أن بعض القتلى من المستوطنين كانوا قد التزموا البروتوكول الأمني، ونحو ستةٍ منهم كانوا داخل غرفٍ آمنة ساعة القتل بالفعل، فيما خلّفت الجولة خسائر مادية جسيمة ودفعت بكُلفةٍ نفسية لم تُنهِها إجراءات التحصين.
يحاول أستاذ علم النفس السياسي دانيئيل بار-طال الإجابة عن سؤالٍ مُحرِج: كيف يخاف مجتمعٌ يمتلك قوّة عسكرية ضخمة إلى هذا الحد؟ يفرّق بار-طال بين الخوف (أي الاستجابة التلقائية للخطر) وانعدام الأمن (وهو حالة ذهنية تتكوّن حين يُقيِّم الفرد أو الجماعة قدرته على الاحتماء فيجدها قاصرة).
إعلانحين تصبح هذه الحالة معتقدا جمعيا، تغدو محورا للنقاش العام ودافعا لفعل اجتماعي. وفي مجتمع يعيش صراعا مزمنا كالمجتمع الإسرائيلي، صار انعدام الأمن جزءا من روح الصراع، ومنظارا يُرى به العالم وتنعكس مفاهيمه في الثقافة والسياسة.
مدخل أحد الملاجئ في القدسيشير الكاتب إلى أن اليهود في إسرائيل يرون أنه لا أمن فيها، وقد تأسس هذا الشعور منذ بداية المشروع الصهيوني، وعززته منذ البداية الحرب مع الدول العربية ونضال الشعب الفلسطيني، بحيث تحول المجتمع بتعبير الكاتب إلى "أمة في بزة عسكرية"، وتحول الأمن إلى مصطلح متداول على جميع المستويات، فهو الهدف الذي يتقبله المجتمع الدولي، وهو الهدف من مفاوضات إسرائيل مع جاراتها، وبالتالي له وظيفة حاسمة في السياسة الإسرائيلية، وهذا ما يفسر استخدام الأحزاب السياسية لمصطلح الأمن باعتباره هدفا مهما وموضوعا للإقناع.
ينبع انعدام الأمن من عدة أسباب يضع بار-طال في مطلعها مصلحة القيادات في التوجيه نحو مواقف سياسية بعينها، يؤدي فيها الأمن غالبا دورا مهما، فيعرضون المعلومات بما يتلاءم مع رؤيتهم ويُقنعون الجمهور بقبولها، يؤكد الكاتب هنا أن انعدام الأمن والخوف يُعطِّل التفكير العقلاني وبالتالي سهَّل اقتياد الخائفين "كالقطيع"، ولهذا تستخدم القيادات التهديد كثيرا لتقود أبناء شعبها بانضباط وامتثال، ويواصل الكاتب مؤكدا أنها حالة تُشجِّع الهرولة خلف القيادات من نموذج "سيد الأمن" (اللقب الذي أطلقه بنيامين نتنياهو على نفسه).
في السبب الثاني يشير الكاتب إلى الذاكرة الجماعية لصدمة الماضي، فقد رفعت الحرب والإبادة الحساسية لأي تهديدٍ تواجهه إسرائيل وأبقتا الاستنفار النفسي مُزمنا، وهي قراءة يشاركها باحثون عديدون، إذ ظلّ الصراع عاملا مُشكِّلا لهويّة الدولة منذ تأسيسها.
المجتمع المحصن والخطر الماثل دائماتقسّم سياسة الدفاع المدني في قيادة الجبهة الداخلية درجات الطوارئ إلى أربع مراتب: من الحياة اليومية العادية في أدنى السلّم، وصولا إلى تعطّل شبه كامل للحياة العامة وتشديد الحركة في أعلاها، وبينهما مستويان وسيطان يضبطان وتيرة الأنشطة والقيود.
يرصد بحث منشور في دورية "Environment and Planning D: Society and Space" عام 2016 كيف تميّز النظام الاجتماعي الإسرائيلي منذ خمسينيات القرن الماضي بقدرة عالية على الانتقال السريع بين حالتي الأزمة والطبيعي. وقد رأى عالم الاجتماع السياسي باروخ كيمرلنغ في هذه السمة شرطا لبقاء المشروع الصهيوني، أي أن يكون المجتمع قادرا على العودة السريعة إلى نسقه اليومي بعد كل انقطاع أو عسكرة مؤقّتة للنشاط المدني.
حتى تسعينيات القرن الماضي، ظلّ تدفّق الحياة اليومية غالبا منتظما، لا يقطعه سوى تصعيدات عسكرية متقطّعة، كانت فيها الملاجئ العامة تحضر بوصفها حلًّا مؤقّتا يتيح عسكرة الحيّز المدني ثم العودة إلى "الوضع الطبيعي". هكذا تشكّلت الهوية المدنية الإسرائيلية بوصفها "الدولة الحصن".
لكن متابعة مسار السياسات الوقائية تكشف تحوّلات متكرّرة بعد كل حرب، وكأنّ معيار الأمان الكافي لا يمكن الوصول إليه أبدا. فبعد صواريخ سكود العراقية في التسعينيات، فُرض إدراج غرفة الماماد في كل بناء جديد؛ فضاء منزليّ يجمع بين ملاذ الطوارئ وممارسة أنشطة الحياة اليومية. كان ذلك تحوّلا فارقا: كل شقّة جديدة تحمل معها تجسيدا للحماية وفي الوقت نفسه استحضارا دائما للتهديد، لترسّخ حقيقة أنّ المجتمع الإسرائيلي يعيش في حالة تأهب وجاهزية مستمرة.
كان الانتقال من الاحتماء في ملاجئ سفلية مشتركة إلى وجود ملاذ داخل كل منزل نقطة تحوّل إضافية. فبينما ارتبطت الملاجئ العامة في المخيال الوطني الإسرائيلي بمفهوم "الصلابة الجمعية"، صار الصمود المنزلي هو العقيدة الغالبة في الحماية المدنية.
وبعد حرب 2006 مع حزب الله، طوّرت الدولة مفهوم "الصمود المدني" من خلال زيادة الكوادر العلاجية والنفسية في البلديات الأقرب إلى غزة ولبنان، وتمويل إنشاء غرف ماماد ضمن نطاق 7 كلم على الحدود الشمالية والجنوبية، ما عمّق فردنة الأمان ونقل جزء من مسؤوليته إلى الأسر.
صارت غرف الماماد رمزا للتفوق الوطني والقدرة على الوصول إلى الموارد داخل المجتمع الإسرائيلي، وحوَّلت في الوقت ذاته مسؤولية الأمن من الأجهزة الأمنية العامة إلى الأفراد، لكن المقال يرصد توترا في الحياة اليومية للمستوطنين من خلال مقابلات مع عدد من الإسرائيليين وعرب الداخل المحتل للتعرف على تجربتهم في الحرب عام 2014 باسم "عملية الجرف الصامد".
إعلانبسبب وجودها داخل المنازل، تتسبب غرف الماماد في تداخل حالة الحرب مع حالة السلم، واختلاط مسار الأنشطة الروتينية بحالة الطوارئ، فيما يسميه الكاتبان "روتين الطوارئ" (routinergency) في إشارة إلى ذلك الاستدعاء المستمر لحالة الطوارئ باعتبارها جزءا من الحياة اليومية متجسدة في تلك الغرفة.
رسّخت التعديلات القانونية هذه الثنائية. قبل ذلك، سُمح ببناء غرف صغيرة معفاة من الضرائب حتى 5 م² كانت تُستعمل مخازن في الأوقات العادية، ثم رُفع السقف عام 2007 إلى 9–12 م² دون ضرائب، فغدت الغرفة صالحة للنوم والعمل، مع بقاء وظيفتها ملجأ. النتيجة هي تمدُّد الطوارئ في الروتين وذوبان الروتين في الطوارئ، بلا حدود واضحة بين فضاءات الأزمة والحياة اليومية الطبيعية.
ولم يؤدِّ هذا التحصين المنزلي إلى جعل الحياة الروتينية قابلة للإدارة تحت الصواريخ بقدر ما أسّس لما يشبه انعدام يقين منظَّم، حيث في فترات الهدوء النسبي، يظلّ الاستعداد للحرب يقظا داخل البيت نفسه، للتذكير بأن حالة الطوارئ ليست حتمية فحسب، بل وشيكة أيضا.
يُعلِّق أحد المستوطنين على رفع الأسوار حول الكيبوتسات وتثبيت الألواح الخرسانية قائلا إن الحماية المادية وحدها غير كافية، فـ"الحياة في ملجأ بلا أمل حياة لا تستحق أن تُعاش". هنا تتجلّى صورة "القفص الذهبي" في صمود ماديّ مشحون بخيبة أمل وبرغبة عارمة في الخلاص. ولدى الشرائح الأكبر سنًّا، تُوقظ الماماد ذكريات الإبادة النازية ومعسكرات الاعتقال وغرف الغاز، وهي رمزية مقلوبة جعلت الفضاء الذي أُريد له أن يُجسِّد فرط الأمان يتحوّل إلى استعارة للتهديد، واستحضار لذاكرة مأساوية تُعمِّق شعور الرعب بدل تبديده.
صدمات نفسية أعمقأعاد تحوُّل الغرف الآمنة من كماليّات إلى ضرورة تعريف معنى "البيت" لدى الإسرائيليين. في كتابه "هندسة تهديدٍ وجودي" (Architecture of an Existential Threat, 2017)، يرصد المصوّر الأميركي آدم رينولدز محاولات تطبيع الحياة داخل الملاجئ بطرائق إبداعية على حد وصفه، فيها تتحوّل المساحات الخرسانية إلى أستوديوهات رقص وفصول دراسية وصالات رياضية وحانات وأماكن عبادة، لتبدو وكأنها تضمن حياةً شبه طبيعية لروّادها، غير أنّ هذه "الطبيعة" نفسها هشّة، لأنها معلّقة على شرط الخطر الذي بسببه شُيِّدت.
يوثّق رينولدز ما يقارب مليون ملجأ في إسرائيل، ويعرض كيف تُمنح هذه المساحات ملامح طبيعية، فتُزيَّن بملصقات على الجدران، وتضاف إليها معدات رياضية، أو مقاعد دراسة. لكن الصور، على كثرتها، تكشف القلق الجماعي المختزن في المكان، وتُذكِّر بأن التهديد جزء من اليوميّ وليس طارئا عليه.
في المقابل، يرى ضابط كبير سابق في الجيش أنّ الماماد يُمثِّل سقف الحماية القصوى للمدنيين، ويُتيح للحكومة إدارة الحرب واتخاذ القرار دون تحمّل الكلفة الاقتصادية والسياسية للإنهاك النفسي للإسرائيليين.
بيد أنّ الأثر النفسي يُقاوم هذا المنطق، فبعد سنواتٍ من "التكيّف" مع التهديد، تُظهر دراسة منشورة عام 2024 ارتفاعا حادًّا في مؤشّرات الأمراض النفسية بعد 7 أكتوبر، إذ بلغت 29% لاضطراب ما بعد الصدمة، و42% للاكتئاب، و44% لاضطراب القلق العام، وهي نسب تقترب من ضِعْف ما كان قبل شهرين فقط من الهجوم.
وتُبيِّن الدراسة أنّ التعرّض المباشر يضاعف المخاطر، فسكان غلاف غزة سجّلوا احتمالا أعلى للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بثلاثة أضعاف، وبالاكتئاب بمرّتين مقارنةً بغيرهم، مع تحذير من أنّ استمرار الحرب وشدّتها قد يُبقي هذه المستويات المرتفعة لفترة طويلة.
ومع استمرار الصراع وما أعقبه من نزوح ما بين 200 ألف إلى 500 ألف إسرائيلي تسبب في حالة عدم استقرار خلَّفت آثارا اجتماعية ونفسية، تُشكِّك الدراسات في قدرة النظام الصحي العام، الذي كان يعاني سلفا من نقص الأفراد والتمويل، على التعامل معها في ظل توقعات بزيادتها.
في النهاية، مَن يعرف معنى البيت تحت القصف يعرف أيضا أن الأمان ليس جهاز تهوية مستقلا داخل غرفة خرسانية. الأمان اسمٌ آخر للعدالة. وما لم تُكسَر المعادلة الظالمة التي تجعل المحتلّ سيّدا على أصحاب الأرض، سيبقى "روتين الطوارئ" دَيْنًا يوميا يدفع ثمنه الإسرائيليون، حتى مَن يظنّون أنفسهم داخل "قفص ذهبي". فالفلسطينيون أبناء هذه الأرض، يعرفون أن الإجابة لن تكون مزيدا من الملاجئ، بل نهاية الحصار، وزوال الاحتلال.
ويوم تُرفع يد الاحتلال عن فلسطين، وتعود الأرض إلى أهلها، لن يحتاج أحد إلى أبواب فولاذية أو طمأنينة تُشترى بالتقسيط!
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: شفافية غوث حريات دراسات أبعاد قیادة الجبهة الداخلیة الملاجئ العامة الحیاة الیومیة انعدام الأمن
إقرأ أيضاً:
سبيس إكس تفوز بعقد بقيمة ملياري دولار لتطوير أقمار القبة الذهبية
في خطوة تعزز موقعها الريادي في صناعة الفضاء والتقنيات الدفاعية، تستعد شركة "سبيس إكس" المملوكة لإيلون ماسك لتوقيع عقد جديد مع الحكومة الأمريكية بقيمة ملياري دولار، لتطوير مئات الأقمار الصناعية ضمن مشروع دفاعي ضخم يُعرف باسم "القبة الذهبية".
وبحسب تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، فإن العقد الجديد يهدف إلى تطوير ما يصل إلى 600 قمر صناعي متطور قادر على تتبع الصواريخ والطائرات في الوقت الفعلي، ضمن نظام مراقبة واستشعار متكامل.
ويُعد هذا المشروع جزءًا من خطة أمريكية طموحة لإنشاء درع دفاعي فضائي قادر على رصد التهديدات الصاروخية والتعامل معها قبل أن تصل إلى أهدافها.
ويستند مشروع "القبة الذهبية" إلى فكرة مشابهة لمفهوم "القبة الحديدية" الإسرائيلي، لكنه مصمم بنطاق أوسع وقدرات تكنولوجية متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات في الزمن الفعلي. ووفقًا للمصادر، فإن المشروع حظي بدعم مباشر من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي أعلن عنه رسميًا خلال مايو الماضي باعتباره خطوة استراتيجية لتعزيز الأمن القومي الأمريكي في مواجهة التهديدات العابرة للقارات.
ورغم أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) لم تفصح حتى الآن عن التفاصيل التقنية الكاملة للمشروع، إلا أن المؤشرات تؤكد أنه سيكون واحدًا من أكثر برامج الدفاع الفضائي تطورًا في التاريخ الأمريكي.
وتشير التقديرات إلى أن العقد الممنوح لسبيس إكس ليس سوى جزء من سلسلة عقود أكبر تتشارك فيها شركات أخرى مثل "أندوريل إندستريز" المتخصصة في الأنظمة الدفاعية الذكية، و"بالانتير تكنولوجيز" المعروفة بحلولها المتقدمة في تحليل البيانات والمراقبة.
ويهدف المشروع إلى بناء شبكة من الأقمار الصناعية تعمل بشكل منسق عبر مدار الأرض المنخفض، لتوفير تغطية شاملة للكرة الأرضية، وستكون هذه الأقمار قادرة على اكتشاف الصواريخ فور إطلاقها، وتحديد مساراتها بدقة، وإرسال المعلومات إلى أنظمة الدفاع الأرضية لاعتراضها في الوقت المناسب.
وفي سياق متصل، تخطط وزارة الدفاع للاستفادة من شبكة "ستارلينك" التابعة لسبيس إكس – والتي تضم أكثر من 8000 قمر صناعي حاليًا – في مهام إضافية تشمل الاتصالات العسكرية الآمنة، وتتبع المركبات، ودعم العمليات الميدانية في المناطق النائية.
وتُعد شبكة "ستارلينك" أحد الأصول الإستراتيجية التي أثبتت فعاليتها في عدد من الأزمات، مثل الحرب في أوكرانيا، حيث استخدمتها القوات الأوكرانية للحفاظ على الاتصال الآمن أثناء العمليات العسكرية.
وبحسب التقرير، فإن إدارة المشروع تسعى لتسريع عملية التطوير بحيث يتم تنفيذ المراحل الأساسية قبل نهاية الدورة الرئاسية المقبلة، مما يعكس حجم الأهمية الإستراتيجية التي توليها الحكومة الأمريكية لنظام الدفاع الجديد.
ويأتي هذا التعاون ليؤكد المكانة المتنامية لسبيس إكس كشريك رئيسي في المشروعات الدفاعية والفضائية الأمريكية، بعدما كانت تركز في السابق على الإطلاقات التجارية والمهمات إلى محطة الفضاء الدولية.
فخلال السنوات الأخيرة، تحولت الشركة من مجرد مزود لإطلاق الأقمار الصناعية إلى لاعب رئيسي في منظومة الأمن القومي الأمريكي، بفضل تقنياتها المبتكرة وكفاءتها في خفض التكاليف وتسريع الإنتاج.
وبينما يترقب العالم تفاصيل إضافية حول "القبة الذهبية"، يرى الخبراء أن المشروع قد يمثل بداية حقبة جديدة من أنظمة الدفاع الفضائي، حيث لم تعد الأقمار الصناعية مجرد أدوات للاتصال أو المراقبة، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من البنية الدفاعية للدول الكبرى، وإذا نجحت سبيس إكس في تنفيذ مهامها ضمن الجدول الزمني المحدد، فقد يكون هذا المشروع بوابة لسباق تسلح فضائي جديد، يقوده الذكاء الاصطناعي والتقنيات المدارية المتقدمة.
بهذا العقد، تواصل سبيس إكس ترسيخ هيمنتها على مشهد الفضاء العالمي، مؤكدة أن مستقبل الدفاع لم يعد محصورًا في الأرض، بل بدأ يتشكل بالفعل في المدار.