بعد الحصول على الاستقلال الصوري من فرنسا وإرساء منظومة الاستعمار الجديد (الاستعمار الداخلي)، عرفت تونس نظام الحزب الأوحد. ولم يكن من المفكر فيه خلال فترة حكم "المجاهد الأكبر" و"سيد الأسياد" (أي في ظل هيمنة ثالوث الزعيم-الحزب-الوطن الذي حلله الرحل محمد أركون) تشريع قانون للأحزاب. فالأحزاب تعني التشكيك في شرعية "الزعيم" وفي احتكاره تمثيلَ الإرادة الشعبية بصورة مطلقة ونهائية؛ عكَسها تعديل الدستور وتنصيبه رئيسا لتونس مدى الحياة في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1974.

وخلال "الفاصلة الديمقراطية" التي أعقبت انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، أصدر "صانع التغيير" القانون الأساسي عدد 32 لسنة 1988 قصد تنظيم عمل الأحزاب، وهو قانون نصّ في أحد فصوله على منع تأسيس الأحزاب على أساس ديني. ورغم محاولة حركة النهضة التأقلم مع هذا الوضع بالقيام بعدة تنازلات قصد "تَونسة" نفسها والتقليل من مخاوف النظام وسائر النخب "الحداثية"، إلا أن النظام مسنودا بما يُسمّى بـ"القوى الديمقراطية" تمسك بموقفه الرافض لمنحها تأشيرة العمل القانوني، وفضّل التعامل معها بمنطق المقاربة الأمنية-القضائية، تلك المقاربة التي شرعنتها أغلب النخب "الديمقراطية"، ولكنها -من باب النتائج غير المتوقعة عند هؤلاء-كانت فاتحةً لتصحير الحياة السياسية في تونس حتى سقوط المخلوع يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011.

جاء المرسوم الرئاسي عدد 87 لسنة 2011 ليُلغيَ العمل بالقانون الأساسي المنظّم لعمل الأحزاب في عهد المخلوع، لكنّ هذا المرسوم رغم "تقدميته" من جهة الانفتاح على كل مكونات الساحة السياسية بعيدا عن منطق الإقصاء؛ لم يُنه الجدل حول وجود الأحزاب "الإسلامية" التي ارتضت العمل القانوني والخروج من منطق البديل إلى منطق الشريك، خاصة حركة النهضة. فهذه الحركة قد خلخلت منطق "التجانس المرجعي" داخل "العائلة الديمقراطية"، ذلك أنّ "البورقيبية" باعتبارها الخطاب الكبير، و"الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي"، كانا قد ذوّبا كل الاختلافات الأيديولوجية بين "الديمقراطيين" ووحّداهم ضد "الإسلاميين" الذين يُمثلون في السرديات "الحداثية" -منذ اللحظتين الدستورية والتجمعية للحكم- النقيض الفكري والموضوعي للفلسفة السياسية الحديثة. ورغم أن المرسوم الرئاسي المذكور أعلاه قد سمح للأحزاب الإسلامية بالعمل القانوني، إلا أنه قد استبقى روح المخلوع ونظامه بصورة مخاتلة وقابلة للتوظيف السياسي -من لدن السلطة والمعارضة على حد سواء- في صراع "الحداثيين" ضد "الإسلاميين" بعد الثورة.

في الفصل الرابع من المرسوم الرئاسي لسنة 2011 حجّر المشرّع على الأحزاب في النظام الأساسي أو البيانات أو البرامج "الدعوة إلى العنف والكراهية والتعصب والتمييز على أسس دينية أو فئوية أو جنسية أو جهوية". ورغم أنه لا يمكن لعاقل أن يعارض ما جاء في هذا الفصل، فإنه -كما قيل من قبل في القرآن الكريم- لا ينطق ولكن تنطق به الرجال، أو لنقل إنه لا ينطق بذاته ولكن تنطق به موازين القوة الرمزية والمادية داخل المجتمع. ولمّا كانت النخب الحداثية هي المهيمنة على مراكز إنتاج المعنى العمومي (الجامعة، الإعلام، الثقافة) ودورانه (الإعلام) وفرضه (القضاء، الأمن) فإن تأويل هذا الفصل وتنزيله سيكونان محكومين بالضرورة بمصالح "الأقليات" الأيديولوجية والجهوية والفئوية التي هددها ما يُسمّونه بـ"الإسلام السياسي"، سواء في ذلك ما كان تهديدا حقيقيا أو متخيلا أو مزيّفا، ويقع تضخيمه للتلاعب بالرأي العام وتحريضه على "الإسلاميين" باعتبارهم خطرا على الجميع، وليس فقط على "المتلاعبين بالعقول" وعلى مَن وراءهم في النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي.

يستطيع أي مشتغل على الشأن التونسي أن يلاحظ بسهولة أن السجال العمومي لم يركز إلا نادرا على التمييز على أسس فئوية أو جهوية، ولكنه كان مكثّفا فيما يتصل بالتمييز الحقيقي أحيانا والمتخيل أو المتخوف منه في الأغلب على أسس دينية، وبصورة أقل على أسس جنسية (المساواة بين الجنسين، القضايا الجندرية). فالحديث عن البنية الجهوية للسلطة منذ الاستقلال أو الحديث عن خارطة الفقر الجهوية لم يكونا يوما محل اهتمام جدي من لدن "النخب الحداثية"، وذلك على خلاف القضايا الهوياتية المرتبطة بمنزلة المرجعية الدينية في التشريع أو بحقوق المرأة والأقليات الجنسية. كانت السرديات الحداثية تنطلق دائما من فرضية أساسية مدارها أن التشريع الوضعي يحقق المساواة والعدالة ويضمن الحريات الفردية والجماعية، أو على الأقل سيفي بذلك كله يوما ما، على خلاف المرجعية الدينية الرجعية نشأة ووظيفةً ومؤسساتٍ. وهو تفكير "طوباوي" يرتبط بتصور مثالي ومفوّت للحداثة الغربية، ولا يُدخل في الاعتبار سائر حلقات "الحداثة" وتحولاتها ومآلاتها الواقعية كما بيّن المرحوم عبد الوهابي المسيري، كما أنه تفكير يُسطّح الظاهرة الدينية ويختزلها في تصور استشراقي استعماري أساسه الأعمق هو مقولة "الاستثناء الإسلامي".

في صراعهم ضد "الإسلاميين"، أو في دفاعهم عن ميراث سايكس-بيكو وكياناته الوظيفية المرتبطة بميراث سايكس-بيكو، تتأسس السرديات الحداثية الرافضة للاعتراف بحق الإسلاميين في العمل السياسي القانوني على فرضية أساسية هي ضرورة فصل الدين عن السياسة، وبالتالي فصله عن الدولة من منظور لائكي فرنسي محض. وهي الفرضية الأصلية التي تحكم الموقف من سائر القضايا المشتقة، كالإرهاب والتخلف ووضعية المرأة والحريات الخاصة والعامة وإصلاح التعليم والخطاب الديني المسجدي.. الخ. وبصرف النظر عن أن هذا النموذج لا يختزل سائر النماذج العلمانية ولا يُقدّم أفضل الحلول لضبط العلاقة بين الدين والسياسة، فإن "الحداثي التونسي" قد وجد نفسه -بحكم عجزه عن التخلص من ربقة اللائكية وخرافات دولة الاستعمار الجديد- يمارس العنف اللفظي، بل يدعو إلى العنف المادي ويشرعنه سواء صدر عن الدولة أو عن "الديمقراطيين"، ما دام ضحيته هو "منبوذو النمط"، أي الإسلاميون.

ولسنا نحتاج في هذا الموضع إلى التذكير بأن بيانات الكثير من الأحزاب "الحداثية" وخطابات رموزها لم تخلُ إلا نادرا من الدعوة إلى العنف والتحريض عليه على أساس "الهوية". كما إننا لن نحتاج إلى التذكير بـ"سياسة المكيالين" التي اعتمدتها الدولة في التعامل مع خطابات العنف أو الدعوة إلى التقاتل بين المواطنين والتحريض الممنهج ضد فئة من المواطنين. ويكفينا هنا أن نطرح المسألة بصورة أكثر تجريدا، وهي تتعلق بإشكالية وجود "إسلام غير سياسي" من جهة أولى، وبإمكانية وجود سلطة لا توظف الدين -أي فهما معينا للدين- من جهة ثانية.

إن تعبير "الإسلام السياسي" الأثير لدى النخب "الحداثية" هو تعبير مشكل ولكنه يرتقي إلى درجة البداهة عندهم. فهذا التعبير الاستشراقي يصادر على وجود إسلام غير سياسي، أي يقيس ضمنيا الظاهرة الإسلامية على التراث المسيحي الغربي نشأة ومساراتٍ. ولا شك عندنا في أننا أمام قياس مغالطي أساسه فرض تمثل غربي للدين ولدوره في التشريع، كما أن هذا التمثل للدين يخفي حقيقة أنه لا وجود لأية سلطة "كمالية" (نسبة إلى كمال أتاتورك) ومنها "البورقبية" كانت تتحرك خارج فهم/توظيف معين للدين. فلا وجود لسلطة خالية من "الدين"، وهو ما كان ينبغي أن يحمل النخب "الحداثية" على طرح الأسئلة التالية: ما هو البعد الديني الذي لا نريد "تسييسه": هل هو القيم أم الشريعة أم المخيال أم المؤسسات؟ هل إن "الدولة" بتأويلها اللائكي للدين قد حققت ما وعدت به من تحديث وتقدم وعدالة وحرية.. الخ، أم إنها استبعدت "الدين" من المجال العام فقط من أجل حماية مصالح أقليات أيديولوجية وجهوية وعسكرية وطائفية تابعة؟ هل يمكن بناء حقل سياسي سوي دون وجود الإسلاميين، ولماذا ينبغي على عموم التونسيين تأسيس حقل سياس يشتغل بالضرورة "ضد" الإسلاميين وليس "معهم"؟ ماذا استفاد التونسيون -والعرب عموما- من الأساطير المؤسسة للدول الوطنية؟ ولماذا ينبغي الدفاع عن تلك الأساطير من منظور "حداثي" نقدي وليس من منظور تحديثي مزيف؟ وبأي معنى يمكن للإسلاميين -باعتبارهم شركاء لا بدائل- أن يساهموا في تحقيق ذلك؟

إنها أسئلة كانت وما زالت في دائرة اللامفكر فيه دخل الخطابات الحداثية التي استمرأت الإشكاليات والحلول "الاستعمارية" التي فرضتها منظومة الاستعمار الداخلي، وروجت لها باعتبارها خيارا "وطنيا" وباعتبارها أيضا انبثاقا عفويا من فلسفة "التنوير"، وأساسا لا غنى عنه لأن تلتحق تونس بـ"ركب الدول المتقدمة"، كما روجت الآلات الدعائية الرسمية منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. ومهما جادل "الحداثيون" بمختلف مرجعياتهم البورقيبية والقومية واليسارية في الحاجة إلى المكون الإسلامي لبناء المشترك المواطني بعيدا عن منطقي الاستعلاء والإقصاء، فإنهم لا يستطيعون المجادلة في المحصول البائس لدولة الاستعمار الجديد، وبالتالي في ضرورة التجاوز الجماعي لأساطيرها التأسيسية ولخياراتها الكبرى المبنية على "اللائكية الفرنسية" المأزومة في فضائها التداولي الأصلي؛ قبل تَونستها في دولة الاستعمار الداخلي وواجهاتها السياسية المختلفة.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء تونس الحداثية الدينية تونس الدين اسلاميين ايديولوجي حداثي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاستعمار الداخلی على أسس

إقرأ أيضاً:

تونس.. بيان من أجل الديمقراطية للاستئناف

وضعت مرحلة ما بعد الربيع العربي قوى التغيير والإصلاح في المنطقة، أمام تحديات كبرى. فالحلم بالتغيير والتحول السياسي في بلدان المنطقة، والذي بدا مع انطلاق الربيع العربي من تونس قاب قوسين أو أدنى أن ينبسط حقيقة وواقعا، وأن يتجلّى حريات وتعددية، ويتجسّد مؤسسات دستورية منتخبة، ونظاما سياسيا تشاركيا يعبّر عن إرادة المواطنين وتطلعاتهم، تحوّل بسبب إخفاقات ذاتية وإكراهات خارجية إلى كابوس، أو "خريف عربي" حسب ما يروق للبعض تسميته.

جرت عقب نكسة "الربيع العربي" مياه كثيرة تحت الجسر، وجدّت أحداث كبرى، ووقعت تحولات لافتة في المشهد، عكست كلها في العمق، أن الربيع العربي انتهى فعليا. وانتهى معه زخمه الشعبي، وانحسار قواه الأساسية، التي مثلت لعقود المحرك الأساسية الذي تتركز حوله ديناميكية المجتمع، معارضة واحتجاجا، تدافعا وتوافقا. ومع استمرار مسار الثورة المضادة، كديناميكية لتقويض وإغلاق قوس الربيع العربي بكل محمولاته، تبدو البلدان التي عاشت تلك التجربة التغييرية عرضة لتحولات كبيرة، مثيرة للاهتمام والقلق، وتستوجب وقفة جادة من جميع الفاعلين المعنيين بأوضاع بلدانهم، أمنا واستقرارا.

المؤكد اليوم أن تحميل المسؤولية عما حصل من ردة على التحول الديمقراطي، لجهة واحدة أو تفسيره بعامل واحد سيكون تعسّفا ومجانبة للحقيقة. وإنما تعاضدت فيه عوامل ذاتية وأخرى موضوعية، وساهمت فيه عوامل داخلية وأخرى خارجية كانت سطوتها أحيانا أعتى وأشد تأثيرا وحسما.أولا ـ من الواضح أن منظومات الحكم التي قوّضت المسار الديمقراطي وحلّت محله، كما هو الشأن في تونس، قد فعّلت كل أدواتها الصلبة والناعمة، وحشدت كل أجهزتها وسلطاتها المطلقة، من أجل تفكيك ما أنجزته تجربة الانتقال الديمقراطي من قوانين ومؤسسات وفلسفة حكم، وحتى روح عامة، أساسها التعددية سياسة والتشاركية حكما والحقوق والحريات مبادئا، والتداول السلمي على السلطة أساسا للحكم. وأحلّت هذه المنظومة القائمة على أنقاض منظومة كانت واعدة، سلطة مطلقة ومنظومة حكم أمنية أو شبه عسكرية. فاستهدفت مبدأ فصل السلطات، فحوّلت القضاء لمجرد وظيفة، ومنحت الرئيس السلطة المطلقة، فحاز السلطة التشريعية كسلطة أصلية، وسلطة تنفيذية مطلقة الصلاحيات. بينما أقصت الأحزاب السياسية وحاصرتها، وهمّشت منظمات المجتمع المدني وسلّطت عليها القضاء، مكتسحة ومحتكرة بذلك كل الفضاء العام. ويمكن القول إن انقلاب كامل جرى على كل مكتسبات ومنجزات مسار ديمقراطي واعد ثبّت الحد الأدنى من الإجراءات والمبادئ الأساسية للحكم الديمقراطي، عبر جهد وطني جماعي تشاركي.

ثانيا ـ المؤكد اليوم أن تحميل المسؤولية عما حصل من ردة على التحول الديمقراطي، لجهة واحدة أو تفسيره بعامل واحد سيكون تعسّفا ومجانبة للحقيقة. وإنما تعاضدت فيه عوامل ذاتية وأخرى موضوعية، وساهمت فيه عوامل داخلية وأخرى خارجية كانت سطوتها أحيانا أعتى وأشد تأثيرا وحسما. ولعل تشابه مآلات التجارب في بلدان الربيع العربي المختلفة، يعزّز ويدعم هذه الحقيقة عن أسباب "الانكسار الديمقراطي" في تونس والمنطقة. والحرص على تثبيت هذه الحقيقة، يندرج في إطار التماس أفق مستقبلي، يتجاوز الجدل والتلاوم المرضي بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية والنخب، والذي تحوّل إلى عائق في وجه محاولات الاستئناف والنضال المشترك من أجل التغيير لاستعادة التجربة الديمقراطية، كصمام أمان وأرضية صالحة للإقلاع الاقتصادي والتنموي، تحقيقا للعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد.

ثالثا ـ في تونس كما في غيرها، وبقدر الخراب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي الذي خلّفته منظومة الحكم المطلقة، القائمة على التسلّط والتغلّب والبطش، بقدر عجز القوى السياسية على استشعار المخاطر الاستراتيجية لهذا الخراب على البلاد وعلى تماسك النسيج المجتمعي ومناعته. إذ تدمن النخب السياسية رغم الدمار الشامل الذي حولها، والخراب الذي حل بمؤسسات الدولة، والصورة الباهتة للبلاد خارجيا، تدمن التخندق في معاقلها الأيديولوجية والحزبية والسياسية المتآكلة، بؤرا وجزرا معزولة عن بعضها البعض، تتراشق فيما بينها، وتتبادل التلاوم والتنابز والاتهامات، أكثر من انشغالها بمراجعة مسيرها وحصادها، أو بمواجهة منظومة حكم مطلقة، تنذر بانهيار الاجتماع السياسي، وتنزلق بالدولة إلى نادي "الدول الفاشلة"..منظومة حكم تمثل بكل المقاييس خطرا داهما على البلاد.

لا شك أن أخطر ما تعانيه تونس وغيرها من البلدان العربية، حالة الاحتباس الأيديولوجي، التي تعانيها القوى السياسية، وعدم قدرتها على كسر هذا القفص الحديدي، الذي يبدو في ظاهره أفكارا حداثية وتقدمية وإصلاحية ودينية ووحدوية، بينما يتجلى باطنه حالة من الانغلاق والتكلّس، والدوران في حلقة مغلقة، تنتهي حيث بدأت. هذا الاحتباس الأيديولوجي بمختلف مدارسه، بقدر ما يتحوّل بوعي أو بدون وعي إلى مظهر من مظاهر خراب العمران، بقدر ما يفوّت على البلاد فرصة الاستئناف والعزم على النهوض لفريضة الإصلاح والتغيير.

رابعا ـ آن الأوان للنخبة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، أن تثور على نفسها، وتعيد اكتشاف نفسها خارج قوقعة الأيديولوجيات الصارمة، والأحزاب غير المتجددة، والرؤى التقليدية المكررة. آن الأوان أن تتحوّل فضاءات المجال العام، سياسة واجتماعا وثقافة واقتصادا من ساحات للتجاذب والتصارع والانقسام الأيديولوجي إلى ساحات لخفض التوتر، والتصارع، ومغادرة المعادلات الصفرية القائمة على حرب الفرد ضد الفرد والجميع ضد الجميع، شيطنة وإقصاء وافتراقا. فالمرحلة اليوم مرحلة بيان من أجل الديمقراطية، بأفق سياسي رحب، يؤسس لاجتماع سياسي، ويكثف المشترك ويحشده في وجه الانقسامات ونوستالجيا الأيديولوجيا..مشترك متين وحصين، لا يلغي ولا يطمس التعدد والتنوع والاختلاف وإنما يحتفي به ضمن أفق سياسي وطني جامع.
ولئن كان التسلّح بالأفكار الكبرى، والأطروحات الأيديولوجية الملهمة، أمر محمود، فإن هذه القوى المؤمنة بالتغيير والإصلاح محمولة اجتماعا وسياسة، على الانخراط الجدي في تأسيس اجتماع سياسي، ركيزته تسويات تاريخية لتأمين تشكّل وقيام منظومة حكم واقعية تحقق للناس كرامتهم وتضمن العدالة الاجتماعية، إنجازات تنموية واقتصادية حقيقية، تعلي من المواطن وكرامته، لا الحزب وأيدولوجيته.

خامسا ـ المؤكد أن هذا التحول المطلوب تحت عنوان بيان من أجل الديمقراطية، يستوجب تحولات في ثقافة النخب السياسية والاجتماعية والثقافية، ينعكس عمليا تحولا في طبيعة وبنية الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية وتجددها، بما في ذلك نخبها. ولا يعني ذلك قطيعة ونكرانا لتضحيات أجيال من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وإنما تثمينا وتثويرا لنضالاتهم، وتعهدا لأحلامهم وفق منظور تجديدي إبداعي أرحب وأوسع أفق، وأكثر فاعلية.     

سادسا ـ لم يعد متاحا اليوم التمادي ضمن هذا المأزق التاريخي، المكرس لحالة "انحباس أيديولوجي" قاتلة، باتت اليوم تلوّث الفضاء العام بمختلف مستوياته، وتتداعى عليه تعميقا للانقسام وتقويضا لثقافة التعايش، وإجهاضا لتشكل اجتماع سياسي هادئ. ويقتضي هذا تصفية إرث من المفاهيم والمصطلحات البالية، التي لا تقيم اجتماعا سياسيا، ولا تبني أوطانا، ولا تحقق تنمية ولا ازدهارا، ولا تصون حقوقا، ولا تحفظ كرامة. فالدوران في حلقة مفرغة حول وداخل جهاز مفاهيمي جدلي وإشكالي، على غرار "الدولة المدنية" و"الدولة الدينية" و"العلمانية" و"الإسلامية" و"اللائكية" و"الثيوقراطية" و"الحداثية" و"الظلامية" و"التقدمية" و"الرجعية"، لا يعدو أن يكون إلا إصرارا على الاحتباس الأيديولوجي، والدوران في حول الذات في نقطة واحدة، دون تقدم بأي اتجاه، وتحوّلت كل هذه المفاهيم إلى مجرّد مصطلحات جوفاء فاقدة للمعاني الجدية، بل باتت فجأة أشبه بذخيرة للتراشق، وتبادل إطلاق النار، بين المختلفين الأعداء، شيطنة واغتيالا سياسيا، وإبادة أخلاقية وثقافية، وتصفية عرقية.

لا شك أن أخطر ما تعانيه تونس وغيرها من البلدان العربية، حالة الاحتباس الأيديولوجي، التي تعانيها القوى السياسية، وعدم قدرتها على كسر هذا القفص الحديدي، الذي يبدو في ظاهره أفكارا حداثية وتقدمية وإصلاحية ودينية ووحدوية، بينما يتجلى باطنه حالة من الانغلاق والتكلّس، والدوران في حلقة مغلقة، تنتهي حيث بدأت.لم يعد يليق بقوى محمولة على الإصلاح والتغيير، بل وتمثل بشكل أو بآخر طليعة المجتمع ونخبته، أن تستمر متقابضة على مفاهيم أيديلوجية بالية، ترهن كل المشهد العام حولها، مؤجلة مواجهة الاستحقاقات الوطنية الحقيقة في التنمية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد.

سابعا ـ تبدو النخبة اليوم محمولة على الانخراط في منعطف تاريخي استثنائي وغير تقليدي، يتحرر من مسلمات الإرث السياسي لتجربة ما بعد الاستقلال ومن كل مقدساتها وتابوهاتها. لقد تآكلت دولة الاستقلال كمؤسسات وكمنظومة بل وحتى كفكرة، وتآكلت معها ثقافتها السياسية، ما يقتضي التأسيس تجديدا، والإقلاع تحررا، والإبداع خيالا. وليس ذلك خيانة للدولة وإنما إنقاذا لها من نفسها، وإعادة تأسيسها على غير منوالها التقليدي المتآكل والمستهلك. إذ تبدو الحاجة ملحة لرؤية سياسية غير تقليدية، تدور حول القضايا الحقيقية، قضايا البلاد والمجتمع: منظومة حكم معقولة قابلة للتطوير والتحسين الدائم، ورؤية سياسية متحررة من الأوهام الأيديلوجية والنماذج المستهلكة، ورؤية اقتصادية واجتماعية تلتقط آمال الناس وتطلعاتهم وتحقق كرامتهم.

وهو ما يقتضي كتابة "بيان من أجل الديمقراطية" في قطيعة ذهنية وأخلاقية وسياسية وفكرية مع تواطأت عليه النخبة السياسية والاجتماعية والثقافية لعقود من الزمن، والذي بسببه عاشت بلداننا "احتباسا سياسيا" مروعا ومدمرا، جعلها تدور في حلقة مفرغة، لا تكاد تتقدم بالمجتمع خطوة إلى الأمام. فتعطّل "العمران" بسبب صراع سياسي يقوم على فلسفة المعادلات الصفرية العبثية.

ثامنا ـ إن الانخراط في "بيان من أجل الديمقراطية" يستوجب مغادرة الأفق الأيديولوجي والاندراج التلقائي في أفق سياسي رحب، وحده سبيلا، على طريق تشكيل "الجماعة الوطنية" الحاملة لرؤية وطني شاملة جديدة، هي أشبه بالعقد الاجتماعي الجديد، عقدا يعلي من شأن الإنسان والأوطان. ولكي ينعكس هذا البيان رؤية سياسية، ومشروع وطني، وينبسط سياسات عامة، وأهدافا تنموية، وانعطافة استراتيجية، فإنه يحتاج إلى انتقال جيلي، تلتقط فيه نخبة جديدة اللحظة التاريخية، وتتحمل مسؤوليتها الوطنية وواجبها الحضاري.. جيل سياسي جديد، لا يدمن الأيديولوجيات وملهاتها، وإنما قضايا الناس ومعاناتهم، وانشغالات الشباب وتطلعاتهم، جيل استوعب دروس الماضي، وتجارب الأجيال السالفة، وانفتحت بصيرته على أفق جديد، وطريق جديد، ورحلة جديدة. جيل يؤمن أن أرقى أشكال الأيديولوجيا، هي إعلاء كرامة الفرد صونا، وتكريس العدالة الاجتماعية واقعا، وحماية حقوق وحريات الناس سلوكا..جيل يتسابق ويسابق الزمن خدمة لبلاده وشعبه..جيل ينتزع شرعيته من الإنجازات التنموية والاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وليس من بالمرجعيات الأيديلوجية الصلبة.  

تاسعا ـ إن انكسار الربيع العربي بكل ما حمله من أحلام وآمال لشعوب المنطقة، خلّف حالة عامة من خيبة الأمل والإحباط. هذا الانكسار يجب اليوم أن يُستوعب ويتم احتواؤه وتجاوزه. فالاستسلام لحالة الانكسار والخيبة، سيعمق أزمة بلداننا ومجتمعاتنا، فتفقد هذه البلدان مقومات تماسكها، والمجتمع عناصر مناعته. فلا يمكن اليوم الاستسلام لهذا لانكسار، وإنما النظر إليه باعتباره فرصة من أجل الاعتبار واكتشاف الإخلالات، ومن ثم العزم نهوضا، والتوكل مسيرا.

مقالات مشابهة

  • تونس.. بيان من أجل الديمقراطية للاستئناف
  • مفكر سياسي: الوعد الزائف لوقف إطلاق النار في غزة
  • ملهاش علاقة بالدين.. علي الدين هلال: عادة الأربعين والخميس مصرية قديمة
  • أحمد ترك: جماعة الإخوان كانت تقلل من المقاومة المصرية ضد الاستعمار البريطاني
  • رسائل رسمية متناقضة وهجوم عنيف من الإسلاميين… هل تنجح الهدنة؟
  • باب البحر في مدينة تونس العتيقة لا يطل على البحر
  • عوض تاج الدين: 94% من الأدوية التي نستخدمها مصنعة بمصر
  • مصر تقترب من الاكتفاء الدوائي.. عوض تاج الدين: 94 % من الأدوية التي نستخدمها مصنعة بمصر
  • فوز زهران ممداني يعيد تعريف الديمقراطية الأمريكية ويكسر احتكار النخب