الأدب العماني منذ المُبرِّد وحتى عبدالله الخليلي
تاريخ النشر: 8th, November 2025 GMT
محمد بن سليمان الحضرمي
بين عالم اللغة محمد بن اليزيد المُبرِّد (210 - 285هـ)، وأمير البيان عبدالله الخليلي (1920-2000م)، زمن طويل يمتدُّ إلى اثني عشر قرنًا، لكن الابداع يطوي الزمان ويقرِّب المسافات، ويجعل من الامتداد الطويل للحياة سهلًا ورخيًا وسخيًا، وها هي الأيام تؤالف بينهما في ضحوة من ضحوات مدينة «سمرقند» التاريخية بدولة أوزباكستان، التي خاضت أديمها أقدام الفاتحين الأوائل، وعانت من طغيان استعمار المغول، ليكون نهارها الدافئ شاهدًا على عبقرية صاحب «الكامل في الأدب»، والخليلي صاحب «وحي العبقرية»، ولأن الحياة تحرِّك بأقدارها المفاجآت، كرفَّةٍ من جناح فراشة أثار إعصارًا، فقد جاءت هذه الموائمة بين كلا الأديبين، بين أديب عاش الحياة بين البصرة وبغداد قبل ألف ومائتي عام، وآخر عاشها بين سمائل ومسقط قبل أعوام، وكانت الكلمات هي الحبل السريُّ بينهما، ليجتمعا معًا في احتفاء عالمي واحد، أدارته منظمة «اليونسكو»، للاحتفاء بالذكرى الخمسينية أو المئوية، للأحداث التاريخية المهمة، والشخصيات المؤثرة عالميًّا، خلال الفترة من 30 أكتوبر إلى 13 نوفمبر الجاري، في مناسبة أشبه بالعُرْس الثقافي، مُقِرَّة أنهما أديبان أثريا الإنسانية بإبداعهما الثر.
وفي الخبر الذي نشرته الصحف المحلية يوم السبت الماضي، بإعلان إدراج هاتين الشخصيتين الفذتين، لم ترفق معه تفاصيل تُلمِح إلى أهميتهما الأدبية، سوى أنَّ اعتراف اليونسكو بالمبرِّد جاء بمناسبة مرور ألف ومائتي عام على ولادته، ومائة عام على ولادة عبدالله الخليلي، وهذا كمبرر وحده لا يكفي، وبالتأكيد فإن في سيرة كل منهما ما يستدعي ذلك، إذ الاختيار لم يأت عشوائيًا، والموافقة من قبل منظمة عالمية كاليونسكو ليست بالأمر الهين، وإنما لمبررات تؤكد أنهما شخصيتان مؤثِّرتان ومثريتان.
ولننظر إلى الخبر من زاوية قِرائِيَّة أخرى، فبعد أكثر من ألف عام، تؤكد منظمة اليونسكو هوية ابن اليزيد المبرِّد العُمانية، وتمنحه وسام العالمية، وهو من هو، تلميذ كبار النحاة واللغويين والأدباء في عصره، شرب صفو الأدب من نبوغهم، فقد تتلمذ علي يد المازني والجاحظ والسجستاني والجرمي والزيادي والرياشي، وهذه أسماء كبيرة، لها دورها في إثراء التأليف الأدبي واللغوي بالكثير من المؤلفات، وهو كذلك أستاذ وشيخ لقائمة من الذين تتلمذوا على يديه مباشرة، وصاروا من كبار الأدباء في عصرهم، كالصُّولي، والأخفش الصغير، وابن نفطويه وأبو إسحاق الزَّجاج، وغيرهم كثير، والمبرِّد بالتأكيد أحد روضات الأدب، وأشجاره العملاقة المثمرة، وحلقة ذهبية في سلسلة الأدب الطويلة، الممتدة منذ فجر التأليف، وحتى العصر الحاضر، وفيها لمعت درر من نوابغ الأسماء.
وقبل المبرِّد والخليلي، أدرجت اليونسكو خلال السنوات الماضية سبعة من الأسماء العمانية وهم: عالم اللغة الخليل الفراهيدي عام 2005م، والطبيب راشد بن عُميرَة عام 2013م، والشيخ نورالدين عبدالله السالمي عام 2015م، والطبيب ابن الذهبي الأزدي عام 2015م، وفي عام 2019م تمكّنت من إدراج أبي مُسْلِم البهلاني، والملاح العُماني أحمد بن ماجد السَّعدي عام 2021م، والمؤرخ والشاعر حميد بن محمد بن رُزَيْق عام 2023م، وهذه شهادة من منظمة عالمية، دأبت على توثيق المعالم الأثرية، والاعتراف بالشخصيات المؤثرة في صنع الحياة الثقافية، في مختلف دول العالم، وهو برأيي أفضل من أي جائزة أخرى، لأن الأبداع الأدبي فيْصَلٌ في هذا الاختيار، وتشاء الأقدار أن تكون اليونسكو في صالح المبرِّد فوثقت هويته، وأعادته إلى انتمائه للمكان العماني، ونقلا عن الموسوعة العمانية، ذكر سرحان الإزكوي في كتابه «كشف الغمة»، أن أصول المبرِّد تعود إلى قرية «مقاعْسَة»، التي تقع بين صحم والخابورة في محافظة شمال الباطنة.
وقد يسأل سائل: ما قيمة هذا الاحتفاء والاعتراف بالمبرِّد، وهو الذي ملأ الأدب العربي بنتاجه الثقافي، أشهرها كتابه «الكامل»، الذي يأتي ضمن أربعة كتب، أسَّست لعلم الأدب العربي، ما قيمة ذلك واسمه يتكرر في كتب الأدب العربي، قديمها وجديدها، ويكاد لا يخلو كتاب في الأدب من ذكر اسمه، أو الإشارة إلى أحد كتبه المهمة، وهو أيضًا صاحب كتاب «المُقتَضَب» في النحو، الذي يأتي بعد «الكتاب» لسيبويه، وكتب أخرى بين مخطوط ومطبوع، إن هذا الاعتراف يضفي على الشخصية الأدبية الكبيرة مسحة عالمية، وبلا شك سيلتفت العالم إلى كتبه التي لم تترجم بعد إلى الآداب الأخرى، وما أجدرها بالترجمة ككتاب «الكامل»، الذي يمثِّل زهرة كتب الأدب العربي، تناقلته أقلام النساخ جيلًا بعد جيل حتى وصل إلينا، وتناوب عليه المحققون والشرَّاح، وصدر عن دور نشر كثيرة.
وجاء اعتراف اليونسكو بالمبرد أديبا عالميًا، مفاجأة للمهتمين بالشخصيات الأدبية العمانية التي عاشت خارج عُمان، فقد كان اسم محمد بن الحسن بن دريد (223-321هـ) أكثر رَواجًا وحضورًا في الساحة الثقافية العمانية، ولابن دريد محبة كبيرة لدى العمانيين، ونتاجه الثقافي مرتبط بهم، خاصة وأنه أقام فترة في عُمان، ورثى قتلى معركة «الرَّوضَة»، التي جرت وقائعها في ذلك الزمان بين مدينتي نزوى وتنوف، وهو صاحب قصيدة «المَقصُورة» الشهيرة، التي تعد ذؤابة المقصورات الشعرية: (يا ظَبْيةً أشْبَهَ شَيْءٍ بالمَها – تَرْعَى الخُزَامَى بينَ أشْجارِ النَّقا)، وهو صاحب معجم «الجمهرة»، الذي يأتي في المرتبة الثانية، من حيث أسبقية التأليف، بعد معجم «العين» للفراهيدي، ولابن دريد تنسب الجملة الشهيرة في وصف الكتب بمتنزهات القلوب، ولا تزال ندوة من أعلامنا الرابعة، التي نظمتها الهيئة العامة لأنشطة الشباب الرياضية والثقافية عام 1991م، حاضرة في البال، فقد تناول مجموعة من الباحثين بالنقد والدراسة والتعريف بابن دريد الأزدي، وهذا يؤكد حضوره العماني كشخصية أدبية كبيرة.
ونرجو أن يكون ابن دريد شخصية قادمة، تلحق بالأسماء العمانية التي أدرجتها اليونسكو، ضمن القائمة المحتفى بهم، كشخصيات مؤثرة عالميًا، ليبقى إبداعهم الأدبي خالدًا تتناقله الأجيال، كما تناقلت سابقًا مؤلفاتهم عبر أقلام النساخ، وهي وإن كانت حاضرة في وجدان الأدب العربي، ولكن عين الطموح تبصر مدَىً أبعَد، يروج فيه الانتشار عالميًا، وحين يتحقق ذلك، يصبح أئمة الأدب واللغة، من أهل المهجر العُماني في البصرة، في تلك القائمة المؤثرة، التي أسهمت في صناعة الحياة بإيجابية.
والحديث عن أمير البيان عبدالله الخليلي، الشخصية الشعرية الكبيرة، بوَحْيِ عبقريَّته، وببيانه الشعري المتميز، وبمحاولته كتابة الشعر والنثر، وتنوع أساليبه الكتابية في كليهما، جعله متميزًا بين أقرانه وأترابه، فالخليلي كتب في مختلف الأغراض الشعرية، عدا أنه عَفَّ بيانه عن الهجاء المُقذِع والمَدِيح الفج، وأبدع في كتابة الشعر الملحمي والوصفي والرثاء والشعر الوطني والقصصي، ولم يبق قافية يزيِّن بها قصيدته إلا أتى بها، ولا بحرًا عروضيًا إلا خاضه بمِكْنَةٍ وذكاء في نظم الشعر، وصدرت أعماله الشعرية في تسعة أجزاء، بتحقيق الأستاذ سعيد بن سالم النعماني، وهي: «وحي العبقرية»، و«من نافذة الحياة»، و«الموعظة»، و«المجتليات»، و«الخيال الوافر»، و«بين الفقه والأدب»، و«على ركاب الجمهور»، و«فارس الضاد»، وانفتح على كتابة الشعر القصصي، وعلى كتابة الشعر الحر، وديوانه «على ركاب الجمهور» أنموذج على ذلك، وكَتَب المقالة والمقامة والسيرة الغيرية أو التراجم، وله تجربة مفقودة في كتابة القصة القصيرة، وبهذا التعدد في الأساليب الكتابية، وانفتاحه على التجارب الحديثة، جاء تميزه الذي لم يتكرر في غيره من الشعراء العمانيين، وعُرِفَ بلقب «أمير البيان»، و«شيخ القصيدة العمانية»، وهي وإن كانت ألقابًا على سبيل التبجيل، إلا أن دلالتها تكشف عن حضور تجربته في ذائقة المُتلقِّي.
إن إدراج محمد بن اليزيد المُبرِّد، وعبدالله بن علي الخليلي، في قائمة الشخصيات المؤثرة عالميا، من قبل منظمة اليونسكو، باعتبارهما شاعرين كبيرين وأديبين متحققين، يفتح لهما وللتجربة الشعرية والأدبية العمانية، مجالًا أن تبقى في حراك دائم مع النقد، وتقديم قراءات في هذه التجربة العميقة، وتقديمها للقارئ العربي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عبدالله الخلیلی الأدب العربی کتابة الشعر محمد بن
إقرأ أيضاً: