الوعد الزائف في وقف إطلاق النار بغزة
تاريخ النشر: 8th, November 2025 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
بعد أقل من شهر، يتعرض وقف إطلاق النار في غزة لضغط هائل. بل إن المرء ليتساءل، في واقع الأمر، إن كان غير قابل للإصلاح. فثلاثي الوساطة الأمريكية ـ أي نائب الرئيس جيه دي فانس، والمبعوث الخاص ستيف ويتكوف، وجاريد كوشنر ـ لم يقدروا على كبح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مهاجمة غزة مرتين في الأسابيع الماضية.
ولقد تعرض عشرات الفلسطينيين للقتل انتقاما من قيام عناصر مارقة من حماس والجهاد الإسلامي بالهجوم على أهداف تابعة للجيش الإسرائيلي أسفر عن مصرع وإصابة حفنة من الجنود الإسرائيليين.
فضلًا عن أنه سيكون من الصعوبة الشديدة، ما لم يكن من المحال، إقناع بلاد عربية وإسلامية بالإسهام بقوات في قوة إحلال الاستقرار الدولية في ظل الظروف الراهنة، وبخاصة لو أن عليهم أن يقاتلوا كوادر حماس من أجل نزع سلاحهم. ولذلك فإن مرحلة الهدنة التالية التي تتضمن نزع سلاح حماس وإقامة نوع من السلطة الحاكمة في غزة لتحل محلها تبدو الآن غير قابلة للتطبيق. ولهذا الاستنتاج المتشائم أسباب قريبة وأخرى بعيدة.
أولا، سوف يكون من المستحيل إقناع حماس بتسليم جميع أسلحتها والانسحاب إلى غياهب النسيان، وهذا مطلب إسرائيلي أساسي تقرّه الولايات المتحدة. فمن شأن التخلي عن السلاح أن يقوض سبب وجود حماس المعلن بوصفها منظمة مقاومة وطنية ملتزمة بمكافحة الاحتلال الإسرائيلي. وستكون حماس كمن يوقع شهادة وفاتها إن هي أذعنت. فضلا عن أنه في حال موافقة حماس غير المرجحة على هذا المطلب، فإن منظمات أخرى أشد راديكالية (من قبيل الجهاد الإسلامي الفلسطيني) سوف تظهر على الأرجح لتحل محلها.
ثانيا، يتبين من الرد العسكري غير المتناسب أن الحكومة الإسرائيلية لا تطيق صبرًا لاستئناف حملتها العسكرية في غزة. فلم يقبل نتنياهو وقف إطلاق النار إلا بسبب الضغط الهائل من الرئيس ترامب. لكن عددًا كبيرًا من أعضاء مجلسه الوزاري يعارضون وقف إطلاق النار ما لم يتم تدمير المقاومة المسلحة الفلسطينية وإعادة احتلال غزة بالكامل. فستظل الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى فرصة لاستئناف الحملة العسكرية في غزة من أجل تحقيق الأهداف القصوى التي حددها نتنياهو في مستهل الحرب. والواقع أن كثيرين في الحكومة ـ بمن فيهم الجيش ـ سوف يجدون هذا الخيار جذابا الآن وقد أطلقت حماس سراح جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء.
كما أن تطوير الـ 53% من مساحة غزة التي لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر وتحويلها إلى «ريفييرا الشرق الأوسط» ـ بما يقر ضمنيا فكرة نقل السكان بأحجام كبيرة ـ قد يكون أمرا ذا جاذبية عظيمة لنتنياهو وحلفائه اليمينيين. وذلك يصب في الوقت نفسه في مصلحة نشطاء حماس؛ إذ يؤكد أسوأ مخاوف الفلسطينيين وهو أن الهدف الأساسي لإسرائيل والولايات المتحدة هو إخلاء غزة من سكانها وضمها إلى إسرائيل. وسوف يقوي ذلك عزيمة الفلسطينيين على معارضة الخطط الإسرائيلية والأمريكية ويساعد حماس على استعادة مصداقيتها لدى شعب غزة.
والأهم، في المدى البعيد، أن الترتيبات المقترحة في أعقاب الهدنة، إذا ما صمدت، تقوم على افتراض أن الهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط سوف تدوم. فلقد أدت نجاحات إسرائيل في تدمير قدرات حزب الله العسكرية، وحضورها الموسع في سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد الحاكم، وقدرتها بمساعدة أمريكا على إضعاف قدرات إيران النووية والصاروخية إضعافا كبيرا، وتدميرها شبه الكامل لغزة، أدى ذلك كله مجتمعا إلى تكوين صورة زائفة بأن إسرائيل قادرة على إعادة صوغ الشرق الأوسط ليلائم تفضيلاتها دونما معارضة ذات شأن. وبرغم وضعها العسكري الذي لا منافس له، تبقى إسرائيل عملاقا ذا قدمين من طين.
والسبب الأول لضعفها هذا هو قاعدتها الديمغرافية. إذ يبلغ عدد سكان إسرائيل، داخل حدود 1967، 9.6 مليون نسمة يشكل الفلسطينيون منهم 21% أو قرابة 1.9 مليون نسمة. وإجمالي عدد السكان الفلسطينيين، متضمنا سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، يبلغ 5.6 مليون نسمة. فإسرائيل الكبرى، وهي حلم نسبة كبيرة من الإسرائيليين والحكومة الراهنة بالقطع، ستكون ذات شعب مقسوم بالتساوي تقريبا بين اليهود والفلسطينيين. وإذن، فبحكم الوضع السكاني، من المحتم أن تكون دولة ثنائية القومية.
ومن شأن هذا أن يمثل لإسرائيل أزمة وجودية. إذ سيكون عليها أن تقبل الواقع السياسي والديمجرافي بوصفها دولة ثنائية القومية تكفل حقوقا متساوية لسكانها اليهود والفلسطينيين إذا ما أرادت أن تبقى بلدا ديمقراطيا مقبولا. وإلا فسوف يكون عليها أن تعترف علنا بأنها دولة أبارتيد تحظى فيها جماعة عرقية بالسيادة على جماعة أخرى، شأن جنوب أفريقيا في ظل حكم الأقلية البيضاء.
من شأن الخيار الأول أن يقضي على الحلم الصهيوني بدولة يهودية في قلب الشرق الأوسط. أما الخيار الثاني فإنه سوف يرسخ الوضع القائم، لكنه في الوقت نفسه سوف يفرض على إسرائيل طوفانا من العار الدولي. وأي من الخيارين سوف يتسبب في انقسام إسرائيل داخليا وعزلتها دوليا. وحفاظ دولة بهذا الوضع على الهيمنة في المنطقة وهي محاطة بمئات الملايين من الشعوب المعادية علنا أو ضمنا سيكون أمرا بالغ الصعوبة على المدى البعيد.
فضلا عن ذلك، جاءت هجمة سبتمبر الإسرائيلية على مفاوضي حماس في قطر، انتهاكا لوعدها بعدم الهجوم، لتقنع دول الخليج بأنها لا يمكن أن تعد إسرائيل صديقا، ناهيكم بكونها حليفا، موثوقا فيه. إذ يدرك حكام هذه البلاد الآن بأنها هي الأخرى قد تصبح أهدافا لهجمات إسرائيلية برغم بذلها الجهود من أجل تكوين صداقة وتعاون مع الدولة اليهودية، فكان هذا انتكاسا للحلم الإسرائيلي الأمريكي بتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية في الخليج.
وأخيرا، تسببت أفعال إسرائيل في غزة في تغير واسع النطاق في الرأي العام في الولايات المتحدة. وهذا أمر فائق الأهمية لأن طموح إسرائيل للسيطرة على الشرق الأوسط يقوم على افتراض بأنها سوف تحظى بدعم راسخ من واشنطن لكل أفعالها. وبرغم عدم وضوح الأمر عند النظرة الأولى، فإن تراجع الدعم الشعبي لإسرائيل في الولايات المتحدة منذور بأن ينعكس في السياسة الأمريكية في المستقبل غير البعيد كثيرا.
وبرغم أن دفع ترامب لنتنياهو لقبول خطة السلام لم يحقق جميع أهداف ترامب، فإن هذا الدفع قد يكون مؤشرا على القادم. لقد انكشف اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة أمام أعين الجميع حينما اتصل نتنياهو من البيت الأبيض برئيس الوزراء القطري ليعتذر له عن هجمة سبتمبر في الدوحة.
لم يكن الرأي العام الأمريكي قط معاديا لإسرائيل بمثل ما هو الآن. فقد تبين لاستطلاع رأي حديث أن قرابة 59% من الأمريكيين لديهم آراء سلبية في الحكومة الإسرائيلية. بل إن نسبة غير قليلة من اليهود الأمريكيين لديهم تحفظات كبيرة على أفعال إسرائيل في غزة. وأظهر استطلاع رأي حديث لواشنطن بوست أن 61% من اليهود الأمريكيين يرون أن إسرائيل اقترفت جرائم حرب في غزة، وأن 39% منهم يعتقدون أن إسرائيل ترتب إبادة جماعية.
يعتقد كثير من الأكاديميين الأمريكيين ـ ومنهم معظم الباحثين في الإبادة الجماعية ـ أن سياسات إسرائيل في غزة تتوافر على التعريف القانوني للإبادة الجماعية. ويصدق هذا على معظم منظمات حقوق الإنسان أيضا. باختصار، يتجه الرأي العام الأمريكي الآن هذه الوجهة السائدة في البلاد الأوروبية التي أرغمت كثيرا من الحكومات على الاعتراف بدولة فلسطين برغم اعتراضات إسرائيل والولايات المتحدة.
من المؤكد أن هذا التحول في الرأي العام سوف يؤثر في نهاية المطاف على صناع القرار في واشنطن، وبخاصة وأن قسمًا كبيرا من قاعدة ترامب المؤمنة بشعار ماجا يعارض قيام إسرائيل باجتذاب أمريكا إلى «حرب أبدية» أخرى.
من المؤكد أيضا أن الدعم الأمريكية له أهمية حيوية بالنسبة لإسرائيل وقد تجلى هذا بوضوح باعتمادها الحيوي على واشنطن في محاولتها تقليل قدرات إيران النووية. فقد كان استعمال القنابل الأمريكية الخارقة للتحصينات في الهجوم على المنشآت النووية هو الذي أنهى الحرب بين إسرائيل وإيران لصالح إسرائيل.
وبوسع تغيير كبير في نهج واشنطن تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والشرق الأوسط بعامة أن يغير المعادلة كاملة بين إسرائيل وجيرانها. وتتأكد هذه النتيجة بحقيقة أن للولايات المتحدة مصالح استراتيجية واقتصادية كبيرة في الشرق الأوسط، وقد ظلت هذه المصالح حتى الآن في مرتبة تالية للدعم الثابت لإسرائيل. وقد يتغير هذا بسهولة في ظل الرئيس ترامب، نظرا لاتباعه في العلاقات الدولية نهج إبرام الصفقات ولإيمانه بعقيدة «أمريكا أولا»، فتأتي مصالح الحلفاء في مرتبة ثانوية بعد الأهداف الأمريكية، إن لم تعد غير ذات أهمية أصلا. ولو أن ترامب قادر على تطبيق هذا المنطق على أوروبا اليوم، فقد يطبقه على الشرق الأوسط غدا بكل يسر.
فضلا عن ذلك، في ظل تقليل قدرات إيران النووية والصاروخية وتفكك محور المقاومة التابع لقيادة طهران، فإن قيمة إسرائيل الاستراتيجية لدى واشنطن تقلصت. والواقع أن بعض الدوائر بدأت ترى في إسرائيل عقبة دون تحقيق أهداف أمريكا الاستراتيجية والاقتصادية الكبرى. ودونما دعم غير مشروط من أمريكا، سوف تتحطم أحلام إسرائيل في الهيمنة الإقليمية بلا رجاء في إصلاحها.
ليست الهدنة الهشة في غزة بداية لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ناهيكم بإعادة تنظيم المنطقة. فهي تعتمد اعتمادا كبيرا على الهيمنة الإسرائيلية المستدامة المستندة إلى دعم أمريكي راسخ، وهي ظروف لم يعد بالإمكان حسبانها ظروفا دائمة.
محمد أيوب أستاذ فخري في العلاقات الدولية بجامعة ميشيجن
الترجمة عن ذي ناشونال إنتريست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة وقف إطلاق النار الشرق الأوسط الرأی العام إسرائیل فی فی غزة
إقرأ أيضاً:
فيدان: نتطلع لاستمرار وقف النار بغزة والانتقال للمرحلة التالية
صفا
قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إن بلاده تتطلع لاستمرار وقف إطلاق النار في غزة رغم كل الصعوبات، والانتقال إلى المرحلة التالية، مشددا على ضرورة قيام المجتمع الدولي بدوره في هذا الشأن.
جاء ذلك في مؤتمر صحفي، الأربعاء، مع وزيرة الخارجية الفنلندية إلينا فالتونين، عقب لقائهما في العاصمة هلسنكي.
وأوضح فيدان أنهما بحثا الوضع في غزة، قائلا "منذ إعلان وقف إطلاق النار، قُتل نحو 250 فلسطينيا في الهجمات الإسرائيلية".
وأردف: "رغم كل الصعوبات، نتطلع لاستمرار وقف إطلاق النار والانتقال إلى المرحلة التالية، ونتوقع من المجتمع الدولي أن يضطلع بمسؤولياته في هذا الصدد".
وقال: "تُجرى في الأمم المتحدة مباحثات مكثفة بشأن كيفية تنفيذ خطة السلام. لكن دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع ما زال محدودا للغاية، ونعمل على كيفية جعل هذه العملية أكثر فاعلية".