لجريدة عمان:
2025-11-08@20:41:48 GMT

في جذل الخيانة

تاريخ النشر: 8th, November 2025 GMT

هذه رواية عن الخيانة... عن خياناتنا كلنا المفضوحةِ لولا سترُ العليم الخبير.

المونولوج الداخلي للحفيدة الأمريكية بطلةُ الروائية العراقية إنعام كجه جي يقتاد قارئه إلى الزنزانة الانفرادية -المكانِ المثاليّ لنقد الذات أو جلدها- هاويةِ النزولِ إلى الدرك الأسفل من الذاكرة للتفكير في خيانتنا الصغيرة والكبيرة التي عدَّت عبر حياتنا، أو لمراجعة ما نعيشه من خيانات روتينية في يومياتنا من خيانة الآخرين إلى خيانة الأفكار المثلى، وبالعودة دائمًا إلى خيانة الذات لذاتها قبل كل شيء.

كنتُ أقرأ كمن يتقفَّى الخيط الداخلي الخفي الذي تتبَعه الشخصية البطلة زينة بهنام في اختبار الخيانة المُسلسَل هذا، وهي تعود إلى وطن الآباء مترجمة في جيش الأعداء؛ حيث يقعُ على عاتقها مرافقةُ الجنود الغزاة في مداهماتهم لبيوت العراقيين بحثًا عن صدام حسين ورجال نظامه. غير أن زينة لا تكتفي بالترجمة المباشرة لما يقوله السكان، أو ترجمةِ الوثائق المبعثرة داخل أحد قصور الرئيس العراقي في تكريت، والذي حوَّله الأمريكان إلى مقر عسكري (ويا لدهشتها ودهشتنا حين عثرتْ بين كومة أوراق مكتوبة بالعربية على شهادة الجنسية العراقية لساجدة خير الله طلفاح زوجة صدّام، وجلست تتخيل الأصابع التي تلمَّست هذه الورقة قبل أن تصل إلى يديها). أقول: إنها لم تكتفِ بالترجمة فقط، بل تجلَّت خدمتها الحسَّاسة للأمريكان بقدرتها على فكّ شفرات اللغة ومجازاتها المحلية التي لا يدرك بلاغتها إلا من كان جلده عراقيًا. وكانت تقدم خبرتها الاجتماعية أيضًا، فتنصح الجنود بألا يدخلوا المساجد بالأحذية، وأن عليهم التمهل قبل اقتحام البيوت حتى يتسنى لـ«الماجدات» -كما كان صدام يسمي النساء العراقيات- أن يغطين رؤوسهن. وتخبرهم أيضًا بأن الناس لا ينفرون من كلاب التفتيش خوفًا منها، بل لأنهم يعتبرونها نجسة.

مهمتها في التعاطي مع شفرات اللهجة العراقية تبدو لنا أشبه بمهمة الجنود المحليين الذين يُدفعون عادة إلى المقدمة كدروع بشرية يفحصون أرضًا ملغومة يعرفون تفاصيل تربتها جيدًا؛ وذلك كي يفرشوها للقوات الأجنبية التي تتبع المترجمين بحذر وكأنهم خبراء في فكّ الألغام. ولا يمكن للمرء إلا أن يستشف ويؤكد أن اللغة المتبادلة في الحرب بين الغزاة وسكَّان البلاد بين المُستعمِرين والمستعمَرين هي بالحق حقلُ ألغام!

مهيمن شقيقها بالرضاعة- المنتمي إلى «جيش المهدي»، والذي لا تعترف بأُخوته، بل تستفزه بنظرات إغراء لاستدراجه إلى حبٍ محرَّم- يُذكرها بمصير المترجمين الفيتناميين الذين تعاونوا مع الجيش الأمريكي خلال الحرب على بلادهم أولئك الذين صورتهم مشاهد عمليات الإجلاء الأخيرة في سايغون يحاولون التشبث بعجلات مروحيات الهليوكوتبر وهي تُقلع مبتعدة بالجنود وموظفي السفارة الأمريكية تاركةً العملاء الفيتناميين لبئس المصير. لكن زينة تمتعض لسماع هذه الموعظة من عراقيّ ناكر لجميل السيد جورج بوش بعد أن خلَّصه وشعبه من حكم الدكتاتور. تكره هذه المقارنة المتكررة بين فيتنام والعراق، كما تكره أن يناديها مهيمن بـ«أختي العزيزة» وهي تأكله بنظرات صامتة تفوح منها الشهوة المحرَّمة.

إنها الخيانة التي يصبحُ العيش داخلها ومن خلالها تجربةً وجوديةً تسلطُ ضوءَها الحارق على تصدعات التكوين الأول للشخصية. حالة تصورها إنعام كجه جي بتدفق سردي يمارس الإنكار والاعتراف التَّطهري في وقت واحد، وفي صور أعمق بكثير من مجرد الإحساس بالذنب أو العار.

هناك إغراء خاص لا أسميه حنينًا، إغراء يخصُّ هذه الموصلية الأصل التي هاجرت العراق طفلةً مع أبويها الهاربَين إلى أمريكا من بطش البعث العراقي. نشأت على تقاليد الحياة الأمريكية في مدينة ديترويت وتعلمت في مدارسها. ولا تذكر من العراق سوى الشجن، الشجن الذي يتحشرج في الحلق، ويتسرب من نبر اللهجة، ويعبق من رائحة «الطوز» التي تُزكم الأنوف حين تحط الطائرة العسكرية فوق تراب العراق. وحين سألتُ الذكاء الاصطناعي عن معنى هذه الكلمة -الطوز- أجابني بأنه مصطلح يُستخدم في العراق والخليج العربي لوصف الغبار الناعم الذي يحمله الهواء. يا سلام... لو كنت أعرف هذه الكلمة من قبل لاستعملتُها لأغراض شعرية شتّى.

الشَّجَنُ، الشَّجَن... كم أحب هذه الكلمة وأنا أكتبها بالتشكيل! وكم تروق لي تلك الجملةُ الفاتنة التي تفتتحُ بها إنعام كجه جي روايتها: «لو كان الشجن رجلًا لما قتلته، بل لدعوت له بطول العمر»! وسندرك لاحقًا أن الجدة رحمة هي الملخَّصُ الرمزيُّ المكثف لهذا الشجن الذي أغرى الحفيدة الأمريكية بالعودة إلى الوطن، ولو في البدلة العسكرية الخائنة.

الإغراء الذي يقود خُطى هذه التجربة يتجاوز بالتأكيد إغراء الوعد المادي، الحلم الأمريكي الذي تحلم به زينة بعد أن تنهي عقد عملها مترجمةً في صفوف الجيش الأمريكي: «سبعة وتسعون ألف دولار في السنة... ماكل شارب نايم»! مقولة تسويقية تنتشر في الأشهر الأخيرة من عام 2002 بين عراقيي أمريكا وعربها الذين يتقنون اللغتين، فتحرك الغرائز.

تُلح عليَّ عبارةٌ لجان جينيه، عبارة تعترف بالمتعة السرية التي يعيشها المرء وسط تناقضات النفس المنساقة إلى التجربة الخائنة: «من لم يجرب جذل الخيانة لم يعرف عن الجذل شيئًا»! إنها «الثمالة الإيروسية» التي ترافق غواية الانتقال إلى الجبهة المقابلة، كما يُشرّحها الأديب الفرنسي في كتابه «أسير عاشق». وربما كان الإنسان في حاجة لاقتراف الخيانة أحيانًا، لا لشيء إلا ليكتشف حبه الحقيقي أو حقيقة حبه. هل يمكن القول على ضوء هذا المعنى بأن الخيانة قد تصلحُ لتكونَ طريقة أخرى لتجريب المتعة المعرفية؟ يمكننا أن نعتقد ذلك من غير جزم مطلق، ومن غير أن ننسى أيضًا ما يعصف بالشخصية الخائنة من قلق واضطراب هدَّام في رؤيتها المرتابة والمريبة للعالم والذات.

تنقُض الخيانة «الشرف» بكل ما تتنفسه الكلمة من علائق وعلاقات دلالية شعرية وأخلاقية شديدة التعقيد في الثقافة العربية: «يا حيفي عليك يا زيّون... يا ويلي على أصلك»! وقد تدفع الخيانة الفرسان النبلاء والأزواج العشاق للانتحار في الكلاسيكيات الرومانسية؛ تطهرًا من العار والإحساس السَّام بالذنب، وهروبًا من وحشة الضمير. لكن المترجمة العراقية في الجيش الأمريكي لا تنتحر، ولا تموتُ في انفجار سيارة مفخخة كما تراءى لها كثيرًا في كوابيس يقظتها، بل ستعود إلى ديترويت بعد خمس سنوات من الخدمة سليمةً بكامل أطرافها. ستعود مصابةً بداء الشجن الذي ورثته عن أمها بتول الساعور السيدة العراقية التي نتذكر دموعها وسط احتفال الأمريكان الجدد المبتهجين بحصولهم على الجنسية حين وقفوا رجالًا ونساءً يلهجون بقسم الولاء للأرض الجديدة منشدين مع فرقة الجاز: «يا رب احفظ أمريكا...» فكانت وحدها التي تنحَّت جانبًا لتبكي وسط الجموع بنشيجها المُعذَّب: «سامحني يا أبي... يابا سامحني»!

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

جامعة الدول العربية توفد بعثة لمراقبة الانتخابات العراقية

جامعة الدول العربية توفد بعثة لمراقبة الانتخابات العراقية

مقالات مشابهة

  • المالية العراقية ترد على منشور قطع رواتب الرعاية
  • بغداد عشية الاقتراع الخاص.. الأعلام العراقية تزيّن الشوارع والأنفاق (صور)
  • حملة اعتقالات واسعة لقادة المعارضة في تنزانيا بتهمة الخيانة
  • الإطار:الخيانة وراء شحة المياه في العراق
  • المالية العراقية تصدر توضيحاً بشأن إطلاق تعيينات جديدة
  • سهام صالح عن إيرلينج هالاند: مهاجم متكامل بكل معنى الكلمة
  • جامعة الدول العربية توفد بعثة لمراقبة الانتخابات العراقية
  • ماذا قال القرآن الكريم عن الخيانة؟
  • الانتخابات العراقية..  7744 مرشحاً و 848 مستبعداً حتى الآن