ثورة فكرية.. ثروة مجتمعية
تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT
طارق سعيد علاي **
ماذا لو لم يعرف العالم الكهرباء؟ ماذا لو لم تُخترع العجلة أو المُحرك البخاري أو الإنترنت؟ ماذا كان سيحدث لو ظلت الأفكار التي غيَّرت مسار وشكل تاريخ البشرية وحاضرها، حبيسةً في عقول أصحابها؟ قد تكون هذه الأسئلة افتراضية إلى حد كبير، لكن إذا طرحنا إجابات افتراضية أيضًا ستكون النتيجة أننا حتمًا في واقع مختلف الآن، وسندرك أنه، وعلى الرغم مما أنتجته عقول البشر، هناك أفكار كثيرة كان لها أن تجعل من العالم أفضل، لكنها ظلت حبيسة في عقول أصحابها وخسرناها إلى الأبد؟
إنَّ تاريخ التطور البشري، ليس سوى تاريخ تطور الأفكار، وعندما نذكر الأفكار، نحن لا نقصد فقط تلك التي أسست لمشاريع كبرى أو قادت لاكتشافات عظيمة، بل نتناول أيضًا الأفكار التي قدمت أو ساهمت في أن تقدم للعالم حلولًا لتحدياته الكبرى، أو آليات صحيحة للتعامل مع الظواهر المُختلفة، أو نظريات جديدة في الفلسفة والعلوم الإنسانية، وإبداعات جديدة في الآداب والفنون.
من هذا التحليل يتأكد لنا بشكل أكبر أن الأفكار هي أعظم الثروات التي تمتلكها البشرية، ولكن، هناك مشوار طويل على الفكرة أن تجتازه حتى تصبح ثروة، وفي هذا المشوار الكثير من المحطات التي تنضج عبرها الفكرة وتتزود بكل ما تحتاجه لتصبح مشروعًا كبيرًا، فالأفكار تحتاج إلى حاضنة ثقافية واجتماعية ورسمية، وتحتاج إلى تبنٍ وتشجيع وتمويل وتوفير ما يحتاجه صاحبها لتطويرها؛ بل وتحتاج أيضًا إلى الرعاية والحماية من كل ما قد يضعفها.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد خلاف على ما ذكرناه حول مشوار الفكرة نحو الحياة، أو شروط تحولها إلى واقع مجسد، إلا أننا لا نرى الاهتمام العالمي الكافي بهذا النبع الذي لا ينضب من الثروات. الكثير من الأفكار استسلمت وتلاشت، وغيرها عانى وتعثر، وقليلها تحول إلى حقيقة وكان له نصيب في الخروج إلى النور.
في الواقع، هناك الكثير من الإجراءات التي يمكن أن نتخذها حتى تحقق البشرية الفائدة القصوى من أفكارها، وهنا سأتحدث عن إجراء واحد كونه يعد إجراءً محوريًا ترتبط به جملة كبيرة من العوامل وهو الاتصال بشكل عام والاتصال الحكومي بشكل خاص، فهذا الاتصال الذي تمارسه المؤسسات الرسمية هو الأكثر قدرةً على قيادة مسيرة الارتقاء بمكانة الأفكار والابتكارات والإبداعات في منظومة الموارد التي تمتلكها البشرية.
من أهم واجبات الاتصال الحكومي في هذا المجال هو تهيئة الحاضنة للمُفكرين والمُبدعين من خلال بناء شبكة من الشراكات بين مؤسسات القطاعين العام والخاص، ومن خلال غرس ثقافة مؤسساتية وأيضًا اجتماعية تهتم بالفكرة وصاحبها وتستمع له وتشجعه على تطويرها وتنفيذها.
في الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، لدينا تجربة تستحق الحديث عنها في هذا المجال، وهي تجربة منظومة المؤسسات التي تحتضن الأطفال واليافعين وترعى نموهم الثقافي والفكري.
أيضًا، من مهام الاتصال الحكومي هنا، بناء الجسور بين المفكرين والمبتكرين ومصادر التمويل والدعم عبر تبني أفكارهم وتسليط الضوء عليهم والتعريف بأهمية إضافاتهم لمنظومتنا الحياتية، وهنا يجب أن تبقى قضية الموارد البشرية التي تعتبر أكثر الموارد تجددًا واستدامة في مركز اهتمام فرق الاتصال الحكومي، بحيث تصمم الحملات والبرامج الإعلامية بالتعاون مع وسائل الإعلام والجهات المعنية للتعريف بأهمية الأفكار في مسيرة البناء والتقدّم.
ولعل أهم ما يُمكن للاتصال الحكومي فعله في هذا السياق، هو تكريم أصحاب الأفكار المبدعة والتعريف بنجاحاتهم، فهذا النموذج القائم على التقدير، يشجع غيرهم ويخلصهم من الحواجز النفسية التي قد تحول دون الإفصاح عن أفكارهم مهما كانت غريبة.
نحن الآن نحيا عصرا جديدا بركائز وموارد جديدة، في هذا العصر تقدمت الفكرة على المادة في تشكيل الثروات الوطنية، وهذا يعني أن شكلًا جديدًا للمستقبل يتكون هذه اللحظة، ويكون دور رواد الاتصال تبني مبدأ الجهوزية والسبق، وليس مبدأ المواكبة فقط، والفارق بين المبدأين كبير، إلى درجة أنه يُحدد مكانة الأمم المستقبلية في المشهد الحضاري العالمي.
** مدير عام المكتب الإعلامي لحكومة الشارقة
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
استراتيجيات الموارد البشرية لمواجهة الأزمات
د. سعيد الدرمكي
في ظل ما يشهده الشرق الأوسط من صراعات مُتكررة، لم تعد الأزمات مجرد حالات طارئة، بل أصبحت واقعًا دائمًا تتعامل معه المؤسسات بشكل مستمر ويومي. ومن أبرز هذه التوترات، الصراع المتصاعد بين إيران وإسرائيل، الذي يُلقي بظلاله الثقيلة على أمن واستقرار المنطقة، لا سيما في دول الخليج العربي. هذه الأزمات لا تقتصر على الجانب الجيوسياسي فحسب، بل تتغلغل في حياة العاملين، لتنعكس على الاستقرار النفسي، والولاء الوظيفي، وحتى على قراراتهم المتعلقة بالبقاء أو مُغادرة مواقعهم.
في خضم هذه التحديات، يبرز دور إدارات الموارد البشرية لتكون خط الدفاع الأول، ليس بصفتها جهة تنفيذية فحسب، بل كعنصر استراتيجي يعزز التماسك المؤسسي، ويدير المشهد البشري بإدراك يتجاوز المعادلات التقليدية. فهي مطالبة اليوم بتوفير بيئة عمل داعمة نفسيًا، وتطبيق سياسات مرنة وسريعة الاستجابة تراعي ظروف العاملين، وتُبقي المؤسسة متماسكة رغم الضغوط الخارجية.
حين تتزلزل المعادلات الجيوسياسية، لا يبقى العامل في منأى خلف جدران المكتب. تتسرب أصداء الأزمات إلى مساحات العمل، وتتحول التحديات النفسية إلى عنصرٍ مؤثرٍ في الأداء والإنتاجية. الأثر الإنساني للصراعات يتجاوز الخسائر الاقتصادية، ليمس استقرار الإنسان نفسه، ويخلق بيئة عمل مشحونة بالقلق والخوف، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاج، وضعف الروح المعنوية، وربما فقدان بعض الكفاءات التي تسعى إلى أماكن أكثر أمانًا.
من هنا، يتوجب على إدارات الموارد البشرية الانتقال من نمط الإدارة التقليدية إلى نموذج القيادة الاستراتيجية. ويتضمن ذلك تفعيل خطط الطوارئ، وتشكيل فرق استجابة سريعة، وتوفير الدعم النفسي والمشورة المتخصصة، إلى جانب تطوير سياسات للعمل عن بُعد أو إعادة توزيع القوى العاملة في مواقع أقل تأثرًا لضمان استمرارية العمل. كما يشمل الدور التنسيق مع الجهات الحكومية المعنية لضمان الامتثال والتأمين المهني.
يُعد الاتصال الفعّال في مثل هذه الظروف المشحونة عنصرًا جوهريًا، إذ يسهم في بناء الثقة وطمأنة العاملين. وتلعب إدارات الموارد البشرية دورًا محوريًا في إصدار تحديثات دورية وشفافة حول الأوضاع، وتفنيد الشائعات من خلال تقديم معلومات دقيقة وموثوقة، فضلًا عن إنشاء قنوات تواصل مباشرة، كالمراكز الداخلية للاتصال أو الفرق المتخصصة بإدارة التواصل في حالات الطوارئ.
ولضمان استمرارية العمليات بكفاءة عالية، يجب أن تتبنى الموارد البشرية سياسات بديلة مرنة، بما يشمل تفعيل خطط التعاقب الوظيفي، وتحديث أنظمة العمل والدوام، مثل العمل الهجين أو بنظام المناوبات، بما يتماشى مع الظروف الطارئة. كذلك، من الضروري الالتزام بالقوانين المحلية إلى جانب السياسات الداخلية لضمان الحقوق والامتثال.
وقد أثبتت التجارب الحديثة، مثل جائحة كوفيد-19، والتوترات الإقليمية خلال عامي 2023 و2024، أن الجاهزية النفسية للعامل لا تقل أهمية عن الجاهزية المهنية. فقد لاحظت مؤسسات عديدة تراجعًا في الولاء والاستقرار، ما استدعى اعتماد برامج للدعم النفسي، وتقديم مرونة في الحضور والانصراف، مما ساعد في تجاوز الأزمة بأقل الأضرار.
في ظل هذه التحديات، يُصبح الحفاظ على الكفاءات أولوية ملحة. ويمكن أن تقدم الموارد البشرية حلولًا مرنة، مثل الإجازات الاستثنائية، وخيارات العمل المرن، وبيئة تواصل إنسانية. كما يمكن عند توفر الإمكانات صرف حوافز رمزية أو علاوات خطر للموظفين في الخطوط الأمامية، ما يعزز الشعور بالتقدير والانتماء.
وما ينبغي التأكيد عليه هو ضرورة عدم الاكتفاء بالنظر إلى الأزمات كعنصر تهديد، بل يجب التعامل معها كفرصة استراتيجية. ففي مثل هذه الأوقات، تستطيع إدارات الموارد البشرية أن تثبت جدارتها كشريك في صياغة القرار، وبناء ثقافة مؤسسية مرنة قادرة على التكيف والاستجابة، إضافة إلى تطوير خطط استباقية لإدارة المخاطر البشرية، تعزز من جاهزية المؤسسة على المدى الطويل.
في نهاية المطاف، يتجلى دور إدارات الموارد البشرية في شخصية القائد الهادئ الذي يوجّه دفة المؤسسة وسط العواصف، واضعًا الإنسان في صميم اهتمامه، قبل الإنتاج، وقبل الأرباح. وهكذا، تتحول من وظيفة دعم إلى ركيزة استراتيجية، تصون رأس المال البشري، وتحفظ استقرار المؤسسة في زمن الاضطراب.
لذلك، تُعد الجاهزية المؤسسية مسؤولية إدارات الموارد البشرية في المقام الأول، عبر تشكيل فرق تدخل سريعة، وتفعيل برامج الدعم النفسي والتوعية، وإعادة توزيع الأدوار الحرجة، والتعاون المستمر مع الجهات الرسمية، بما يضمن بيئة عمل مرنة، متماسكة، ومستعدة لمواجهة أي أزمة مستقبلية.
إدارات الموارد البشرية اليوم ليست رفاهًا تنظيميًا، بل صمّام أمان استراتيجي لضمان بقاء المؤسسات واستقرار مجتمعات العمل في زمن الاضطراب.