سلطت صحيفة "واشنطن بوست" الضوء على المعركة السرية المحتدمة بين أجهزة الاستخبارات الروسية والغربية للسيطرة على العميل الروسي ياروسلاف ميخائيلوف، المشتبه في تنسيقه هجمات الطرود الحارقة التي استهدفت طرود شحن جوي بأوروبا، واستخدام جواز سفر مزور للفرار إلى أذربيجان.

وقالت الصحيفة في تقرير، ترجمته "عربي21"، إن أهمية ميخائيلوف للكرملين ظهرت في تدخل قادة أجهزة الاستخبارات الروسية الثلاثة - جهاز الأمن الفيدرالي، وجهاز الاستخبارات الخارجية، والاستخبارات العسكرية الروسية - بشكل مباشر في الضغط على أذربيجان لإعادة ميخائيلوف إلى روسيا بدلا من الموافقة على طلب التسليم المقدم من بولندا، بينما تسعى بولندا وبريطانيا وأوكرانيا وليتوانيا لمنع ذلك.



وقد استندت الصحيفة إلى مقابلات مع أكثر من عشرين مسؤولا أمنيا غربيا ووثائق تحقيقية؛ من بينها طلب سري قدمته بولندا إلى الإنتربول لاعتقال ميخائيلوف بتهمة القيام بعمليات "إرهابية" بتوجيه من "أجهزة الاستخبارات السرية للاتحاد الروسي".

في تلك العملية التي جرت في تموز/ يوليو من العام الماضي، نجحت طرود مزودة بمؤقتات ومركب ماغنسيوم القابل للاشتعال في الإفلات من الكشف في ليتوانيا وتم تسليمها إلى مستودعات في ألمانيا وبولندا وإنجلترا، حيث تسببت في حرائق انتشرت بسرعة قبل أن يتم إخمادها.

ويصف مسؤولون أوروبيون ميخائيلوف بأنه يمثل جيلا جديدا من العملاء الروس الذين جندهم جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية من المنظمات الإجرامية بسبب علاقاتهم وقدراتهم؛ حيث واجه ميخائيلوف سابقا تهما جنائية في روسيا بتهمة التهريب.

وأشارت الصحيفة إلى أنه ليس من الواضح مدى اعتماد روسيا على ميخائيلوف لتنفيذ مخطط الطرود، لكن محققا أوروبيا رفيع المستوى وصفه بأنه "الأهم" بين العملاء الذين ما زالوا طلقاء بسبب دوره كقناة اتصال بين عملاء جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية في روسيا والمجندين من المستوى الأدنى في أوروبا؛ حيث يواجه ما لا يقل عن 20 مشتبها تهم الإرهاب أو تهم أخرى في ليتوانيا وبولندا لتورطهم في العملية.

وأفادت الصحيفة لأن ميخائيلوف استخدم الاسم المستعار "جاريك ديبا" على "تليغرام"، ويعيش منذ عام في حالة من المراقبة بأذربيجان دون اعتقال رسمي ودون السماح له بمغادرة البلاد. كما ربطت التحقيقات بينه وبين عميل مشتبه به يستخدم أسماء مستعارة مختلفة على الإنترنت مثل "Warrior" (المحارب)، وكان نقطة الاتصال الرئيسية لميخائيلوف في روسيا.

وتم تتبع حسابات "Warrior" (المحارب) إلى أليكسي كولوسوفسكي، وهو عضو مشتبه به في اتحاد قرصنة روسي يعرف باسم "كيل نت" وهي منظمة لها علاقات وثيقة مع المخابرات الروسية وتشن هجمات عبر الإنترنت ضد من تعتبرهم أعداء للكرملين.



وأكدت الصحيفة أن الهجوم أثار قلقا بالغا لدى المسؤولين الغربيين، الذين وصفوه بأنه الأكثر تهورا ضمن حملة التخريب والاغتيالات الروسية ضد الدول الداعمة لأوكرانيا. ورغم أن الحرائق لم تسفر عن إصابات، إلا أن الأجهزة كانت قوية بما يكفي لإسقاط طائرة لو انفجرت أثناء الرحلة.

وأضافت أن هناك مؤشرات على أن روسيا خططت لاستهداف الولايات المتحدة وكندا بطرود مشابهة، فقد واجه مسؤولون أمريكيون نظراءهم في موسكو السنة الماضية بعد أن أشارت المعلومات الاستخباراتية إلى أن الحرائق التي اندلعت في أوروبا كانت "تجربة" لاستخدام أجهزة مماثلة في شحنات البضائع عبر المحيط الأطلسي، كما أكد المسؤولون أن ميخائيلوف أرسل طرودا تجريبية غير قابلة للاشتعال إلى واشنطن وأوتاوا لجمع معلومات عن طرق الشحن وأمنها

وما زالت احتمالات تأمين تسليم ميخائيلوف غير واضحة، لكن أذربيجان، رغم ضغوط موسكو، تميل إلى تعزيز علاقاتها مع أوروبا بعد خلافات مع روسيا، خصوصا عقب إسقاط طائرة أذربيجانية فوق الأجواء الروسية العام الماضي. ويرى خبراء أن سعي روسيا لاستعادة ميخائيلوف يهدف إلى منع كشف معلومات محرجة في حال محاكمته بأوروبا.

وتأتي الضغوط للحصول على حضانة ميخائيلوف وسط مؤشرات على أن الحملة الروسية الهجينة ضد أوروبا تشهد تصاعدا جديدا، مع رصد هجمات بطائرات مسيّرة وتفكيك مخططات لإرسال طرود متفجرة إلى أوكرانيا.

وحصلت الصحيفة على وثائق ليتوانية تظهر أن روسيا خططت لاستخدام شبكة ميخائيلوف في موجات عنف إضافية، حيث عثر المحققون على مواد متفجرة مخبأة في أماكن غير متوقعة مثل متاجر البقالة ومقبرة، في مكان آخر، وعثرت السلطات على حوامل تتطابق مع أبعاد طرود الشحن، مما أثار مخاوف من أن روسيا كانت تنوي نشر قنابل بدائية على طائرات مسيرة في المطارات والمنشآت العسكرية أو أهداف أخرى.

وبشكل عام، توفر هذه المواد مخططا لكيفية استغلال روسيا للشبكات الإجرامية لإعادة بناء القدرات التي تضررت عندما طردت الحكومات الأوروبية مئات من ضباط المخابرات الروس المشتبه بهم بعد بدء الغزو الشامل لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022.

وأكدت الصحيفة أن ميخائيلوف شغل موقعا مهما في شبكة الوكلاء التابعة للاستخبارات العسكرية الروسية، حيث كان يتلقى التعليمات من مشغليه في موسكو وينقلها عبر "تليغرام" إلى مجموعة من الشبان ذوي السوابق الجنائية الذين نفذوا المهام مقابل مبالغ صغيرة من العملات الرقمية. وقد نشرت تفاصيل العملية ودور ميخائيلوف في تقارير إعلامية أوروبية مطلع السنة الجارية.

وقد نفذت روسيا عشرات الهجمات في أوروبا باستخدام هذا النموذج من الاستعانة بمصادر خارجية، من بينها حرائق متعمدة في مراكز تسوق ببولندا وليتوانيا، وحتى منزل في لندن مملوك لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، وهو أسلوب يمنح الكرملين غطاء للإنكار ويبعد عملاءه المباشرين عن المساءلة.

ويعكس سعي موسكو لاستعادة ميخائيلوف وجود طبقة خاصة من الوكلاء الموثوقين، إذ يعتبر بوتين أن من يخاطر في مهام خارجية لصالح الدولة لن يترك وحيدا. ويشير إريك سياراميلا، المحلل السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وخبير شؤون روسيا في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إلى أن هذا جزء من "رمز أخلاقي" يتبناه الرئيس الروسي تجاه من يسمّيهم "الوطنيين".

وقالت الصحيفة إن خلفية ميخائيلوف غامضة، فقد ظهر عام 2015 على قائمة المطلوبين لدى جهاز الأمن الداخلي الروسي بتهم تهريب مواد بيولوجية وإشعاعية خطيرة، لكن القضية أغلقت لاحقا في ظروف غامضة، ما يرجح أنها كانت جزءا من صفقة مع الاستخبارات. ومنذ ذلك الحين استخدم هويات مزورة وجوازات سفر متعددة، بينها أوكرانية، للتنقل في أكثر من عشر دول أوروبية.

وبحلول أوائل 2024؛ أوكلت إليه مهمة تنسيق هجوم الطرود الجوية، حيث جلبت المكونات من روسيا وتم تجميعها بمواد متاحة تجاريا، وكان له دور أساسي في تحديد مواصفات الأجهزة. وقد نقلت الطرود عبر شبكة معقدة من الضباط السابقين والوسطاء حتى وصلت إلى مكتب "دي إتش إل" في فيلنيوس، لتندلع بعدها حرائق في ألمانيا وبولندا وإنجلترا. أما الطرد الرابع الذي فشل في الانفجار فقد أتاح للسلطات البولندية فحص تصميمه.

ولفتت الصحيفة إلى أن ميخائيلوف تمكن بعدها من الهروب من بولندا إلى تركيا ثم أذربيجان مستخدما وثائق مزورة، حيث أوقف للاشتباه في استخدامه أوراقا مزيفة. ويعتقد أنه تجنب العودة مباشرة إلى روسيا خوفا من تبعات دوره في عملية كانت تنطوي على خطر تصعيد كبير في الصراع بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا، وهي عملية اعتبرت متهورة إلى حد أن بعض المسؤولين الغربيين شككوا في علم الكرملين بها قبل وقوع الانفجارات.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية العميل روسيا أوروبا روسيا أوروبا اذربيجان عميل صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العسکریة الروسیة إلى أن

إقرأ أيضاً:

استكمالُ الحصانةِ مِن ثغورِ المَيْدَانِ إلى حُصُونِ الوَعيِ الشعبيِّ

 

 

بعدَ أن تجلَّتْ معالمُ النصرِ المؤزَّرِ في مسرح العملياتِ الكُبرى، وبعدَ أن اضطلعتْ قواتُنا المسلحةُ الباسلةُ بدورِها المحوريِّ والتاريخيِّ في تحصينِ الثغورِ الجغرافيةِ للوطنِ وكبحِ جماحِ أيِّ غُلُوٍّ خارجيٍّ يسعى لتدنيسِ حياضِه واحتلالِه، وبَعدَ أن أرستْ وزارةُ الداخليةِ وأجهزتُها الأمنيةُ قواعدَ الأمنِ الصُّلبةِ، مُحكِمةً قبضةَ الحديدِ والنارِ على الجبهةِ الداخليةِ، حيثُ سُحقتِ العناصرُ التخريبيةُ واقتُلِعَتْ جذورُ الفتنةِ من مَنابتِها.
لقد تكلَّلَ هذا الجهدُ النوعيُّ بالقبض على خلايا التجسُّسِ المُنظَّمةِ والمُرتبطةِ بالشيطان الأكبر وأجندته الهدّامةِ، ممّا أفضى إلى إجهاض مخططاتِه الجهنَّميةِ في التآمُرِ والزَّعزعة.
إنَّ هذا الاستحقاقَ الأمنيَّ والعسكريَّ المهيب يفرضُ علينا اليوم، كنسيجٍ اجتماعيٍّ مُتراصٍّ وشعبٍ واعٍ ومُدرِكٍ لخطورةِ المرحلةِ، مسؤوليةً مُضاعفةً وواجبًا مُقدَّسًا: وهو الانتقالُ من مرحلةِ الدفاعِ الجغرافيِّ إلى مرحلةِ التحصينِ الذاتيِّ والتدريع المنهجيِّ لبيئتِنا المحيطةِ من مخاطرِ حربِ العدوِّ القادمةِ.
لقد غيَّرَ الصراعُ مع العدوِّ وَجهَهُ بشكلٍ حاسمٍ؛ إذ تحوَّل القتالُ من المدفعيةِ الثقيلةِ إلى المعلومةِ المُبهمةِ، فأصبحَ لزامًا على الفردِ أن يكونَ هو الحارس الأمينَ وخطَّ الدفاع الأخيرِ، مُستشعرًا أنَّ الوَعي هو السلاحُ الأفتكُ في المواجهةِ الشاملة ضدَّ الخطر السَيبرانيِّ والاستخباريِّ الذي يتربَّصُ بنا.
لقد وَلَجنا مرحلةً تَغدو فيها المواجهةُ أشدَّ وَطأةً وأعظمَ رِفعةً في سُلَّمِ المسؤوليةِ، حيثُ تتجلَّى التكنولوجيا الاصطناعيةُ كالبوابةِ الكُبرى لاختراقِ الخصوصياتِ، وإنّها لَفِتنةٌ تُغري، ولكنّها تُخفي جاسوسًا مُترصِّدًا، يُجاورُنا في كلِّ رُكن.
وهُنا يتعيَّنُ أن تكون اليَقظةُ الأمنيةُ درعًا حصينًا، فلا عُذر في الرِّهان على الجَهلِ بحقيقة هذه الأداة ذاتِ الوجهَينِ، فعدمُ الوَعي بخطرِها هو تَبديدٌ لِمَناعةِ الصَّرح.
وعلى الرغمِ من التحالُفِ الكَونيِّ في محاربتِنا، يَتوجَّبُ علينا أن نرقى لمستوى التحدِّي الجسيمِ من خلالِ صَقلِ وَعيِ شعبِنا وأمَّتِنا، وهو عُمدةُ المَسيرةِ والبوابةُ الذهبيةُ التي سنَعبرُ منها إلى التحصينِ المَنيعِ والارتقاءِ الحضاريِّ، وإنَّ تحصينَ كلِّ جبهاتِنا لا يتحقَّقُ إلّا بقوةِ وَعيٍ وحِسٍّ أمنيٍّ يتَّسِمُ بالبَأسِ الشديدِ.
لم تَعُد ميادينُ النِّزال محصورةً في خنادق الحروبِ التقليديةِ، بل امتدَّت لتَخوض صراعًا أثيريًّا يُعنَى بالعقولِ والأسرارِ، وإنَّ الساحةَ المعاصرةَ للصراعِ هي ساحةُ الوَعيِ والمعلومات، والمعركةُ التي نخوضُها اليومَ ليستْ مُجرَّدَ مواجهةٍ عابرةٍ، بل هي تجسيدٌ حاسمٌ لمبدأِ الاستخباراتِ العكسيةِ أو الاستخباراتِ المضادَّةِ، هذه المعركةُ هي اشتباكٌ فكريٌّ ومعرفيٌّ غايتُه تحصينُ الذاتِ وإجهاضُ المخططاتِ الخبيثةِ للعدوِّ التجسُّسيِّ والاستخباريِّ.
إنَّ أولى عَتَبَاتِ النصر تبدأُ بفَكِّ شفرةِ الأجندةِ العدائيةِ واستكشافِ مَكامِن الخطر، فالمواجهةُ اليوم هي بامتيازٍ نِدِّيَّةٌ معرفيةٌ تتطلبُ الإحاطةَ الكاملةَ بطُرق عمل الخصمِ وآلياتِه المُتقَنةِ، ويجبُ علينا تأمُّلُ المشهد بعُمقٍ ثاقبٍ، لفَهمِ كيفَ يقومُ العدوُّ بتنسيقِ خيوطِ مُؤامراتِه وإحكامِ قَبضتِه على المعلوماتِ الحسَّاسةِ، فالأمرُ يتجاوزُ المراقبةَ التقليديةَ لِيُصبحَ تَوغُّلاً مُمنهجًا يستهدفُ صَميمَ كيانِنا العمليِّ والشخصيِّ.
وفي السياقِ ذاته أصبحَ الهدفُ الأسمى للمعركةِ الحاليةِ هو اكتشافُ الوسائل المُستخدَمةِ، سواءٌ كانتْ أدواتٍ عتيقةً متوارَثةً في فُنونِ التجسُّسِ، أو تقنياتٍ ناشئةً ومُبتكَرةً، وإنَّ هذا الكشفَ ليس مُجرَّدَ ردَّ فعلٍ، بل هو جُزءٌ أصيلٌ من استراتيجيةِ الرَّدعِ الاستباقيِّ التي تهدفُ إلى شَلِّ حركةِ العدوِّ قبلَ أن يَتَمكَّنَ من إرساءِ قواعدِه التخريبية.
لقد أصبح الرِّهان الأعظمُ والمُدخل الأخطرُ إلى خصوصيتِنا هو الثورةُ التكنولوجيةُ بحدِّ ذاتِها، وتحديدًا أدواتُ الذكاءِ الاصطناعيِّ التجسُّسيةُ، إنَّ هذه الأدواتِ ليستْ مُجرَّد برامجَ صامتةٍ، بل هي أَذْرُعٌ رقميةٌ مُتغلغِلةٌ تتمتَّعُ بقدرةٍ فائقةٍ على الاختراقِ والتحليل العميقِ للبياناتِ، وحجمُ المعركةِ يَتَعاظَمُ والمسؤوليةُ تَتفاقَمُ كلَّما ازدادَ اعتمادُنا على هذه التقنياتِ.
ويجب أن ننظرَ إلى الجهازِ التكنولوجيِّ الذي نَحمِلُه بينَ أيدينا كـ»جاسوسٍ مُتَنقِّلٍ» كامنٍ في بيوتِنا ومكاتبِنا، هذا الجاسوسُ يعمل بـسُلطةٍ مُطلقةٍ في جمع المعلوماتِ، سواءٌ كُنّا نُدرِكُ عواقبَ استخدامِه أم لا، وأن نحذر هذا المدخلَ التكنولوجيَّ، واخشَ أن تجهل أساليب استخدامِه، سواءٌ كان ذلك بعلمٍ مُبَيَّتٍ أو بِجَهلٍ غيرِ مقصودٍ.
المواجهةُ الآنَ تَتّخذُ بُعدًا كونيًّا ومحليًّا، حيثُ تكونُ في أعلى المستوياتِ العملياتيةِ أو حتى في دائرةِ المُقرَّبين والأهلِ، ممَّن قد يُستخدَمونَ كـبَوّاباتِ عُبورٍ غيرِ واعيةٍ للبياناتِ.
إنَّ الحصنَ المَنيع في هذه الحربِ غيرِ المرئية هو الانضباطُ اللغويُّ وحِكمةُ الصَّمتِ، وإنَّ لُغةَ الحذرِ هي دِرعُنا الواقي ضدَّ التسريب غير المقصودِ، وهُنا يَكمُنُ صَميمُ التكتيكِ الدفاعيِّ، لا تَتحدثْ بما تَعرِفُ مع كلِّ مَن لا تَربطُه صِلةٌ مُباشرةٌ ومُصرَّحٌ بها بِسياقِ الموضوعِ، كلُّ هَفوةٍ لفظيةٍ، كلُّ كلمةٍ منطوقةٍ سَهوًا، سواءٌ كانت داخل سياقٍ مِهنيٍّ دقيقٍ أو خارج حديثٍ عابرٍ، هي بمثابةِ «مادَّةٍ خامٍّ ثمينةٍ» للعدوِّ، هناك دائمًا «المُلتَقِطُ اليَقِظُ» الذي يعملُ بـدهاءٍ وتحليلٍ مُتناهٍ، يلتقِطون هذه الشَّذَرات، يُحلِّلونَ دلالاتها الكامنةَ، ويربطونَها بخيوط المعلوماتِ المُبعثَرةِ، ليتَمكَّنوا في نهاية المطاف من إكمالِ نقاط النَّقص في مهمَّتِهم الاستخبارية.
إنَّ هذه الكلماتِ المُنبعثةِ هي جُسورٌ للعبور يستطيعونَ من خلالِها الوصولَ لأبوابٍ مُحكَمةِ الإغلاق واكتشافِ آخَرينَ يُشكِّلونَ هدفًا لمخططاتِهم، إنّها أهميةُ التأمُّل في المنطوقِ وَوَزْنِ الكلماتِ بميزانٍ من ذَهَبٍ.
وفي الختامِ يَبقى هذا النضالُ الشاقُّ، في لُغتِنا الأكثرِ بساطةً، هو ما يُعرَفُ بـ»الاستخباراتِ العكسيةِ» أو «الاستخباراتِ المُضادَّةِ»، وإنّها ليستْ مُجرَّدَ دفاعٍ، بل هي مُبادرةٌ استراتيجيةٌ تهدفُ إلى إحباطِ، تضليلِ، وتفكيكِ نشاطات أجهزةِ التجسُّس المعادية في معركةِ وَعيٍ شاملةٍ تتطلَّبُ يَقظةً مُتأصِّلةً، وفهمًا عميقًا لتغيُّراتِ العصرِ، وتطبيقًا صارمًا لمبدأِ التحصين اللغويِّ والرقميِّ.
فلنكن جميعًا الحُرّاس الأُمناءَ على سِرِّنا ومستقبلِنا، وكلُّ مِنّا جَبهةٌ لا تُخترَقُ.

مقالات مشابهة

  • أول عميل أجنبي يتسلم مقاتلات “سو-57” الروسية
  • بنمو 176%.. ارتفاع عملاء التمويل الاستهلاكي لـ5.8 مليون عميل في 7 أشهر
  • استكمالُ الحصانةِ مِن ثغورِ المَيْدَانِ إلى حُصُونِ الوَعيِ الشعبيِّ
  • بريطانيا.. تحذيرات من جواسيس صينيين عبر لينكد إن
  • تعميم صورة موقوفَين بجرم ترويج عملة مزيّفة.. هل من وقع ضحية أعمالهما؟
  • عملية تخريب غير مسبوقة.. بولندا تتّهم الاستخبارات الروسية بتفجير خطٍّ حديدي حيوي
  • اتفاق حول توحيد الإنفاق بين الشرق والغرب بـ”رعاية أمريكية”
  • عميل وفيّ لـ Verizon يتلقى صفعة بعد 25 سنة من الولاء!
  • الجيش السوداني ينسحب من أم سيالة وسط معارك محتدمة بكردفان