في صبيحة مثقوبة بالصراخ والغبار، تحوَّل مخيم النجاة في مواصي خان يونس إلى ساحة موت مكتملة الأركان. لم يكد النازحون يلتقطون أنفاسهم بعد ليلة باردة حتى شقّت سماء المخيم ضربة إسرائيلية مباغتة انقضّت مباشرة على تجمع خيام في أطراف المخيم، لتتطاير أقمشة النايلون وتستقر فوق الجثامين، بينما هرعت الطواقم الطبية من مستشفى الكويت الميداني إلى موقع المحرقة.

لم تستوعب العيون ما يجري، فخمس جثامين انتُشلت دفعة واحدة، بينها طفلان، فيما تمددت بقع الدم فوق الرمال المبللة بالندى.

مجزرة النجاة

وعند مدخل المستشفى، ازدحم النازحون حول سيارات الإسعاف، يتعرفون على الأسماء التي تتلى من قوائم الشهداء. كانت عائلة فتحي أبو حسين حاضرة بكل أفرادها، لكن حضورًا محمولًا على الأكتاف. الأم غادة أبو حسين، والزوج فتحي، والابنة إسراء، والطفلان محمد وبلال... جميعهم قضوا في القصف ذاته. لم تطق العائلة المفجوعة تصديق ما حدث، ولم تحتمل أن صلاة الجنازة ستقام على خمسة نعوش دفعة واحدة.

وعند المشرحة في مستشفى ناصر الطبي في خان يونس، كان عم الأسرة، جمال أبو حسين، يتكئ على الجدار محاولًا تثبيت صوته الذي يتشقق مع كل كلمة ينطقها. قال لـ«عُمان» وهو يشير إلى الأجساد المسجاة: «قدامي الآن في الأكفان، أخي فتحي أبو حسين وأولاده وزوجته. هذه حرب جديدة... عائلته بأكملها مُسحت من السجل المدني، ولا نستوعب شيئًا. لم يبق كلام كي نقوله، انتهت الكلمات وانهارت قدرتنا على الفهم». بدا الرجل كمن فقد القدرة على الوقوف، فكأنه يصف مشهدًا ينتمي إلى مكان آخر، لا إلى حياته التي كانت قبل ساعات فقط مليئة بضحكات الصغار.

ومع تداعي لحظات الوداع، حمل المشيعون الجثامين وطافوا بها أرجاء المنطقة المحيطة بمستشفى ناصر الطبي، مرددين هتافات غاضبة تندد بخرق الاحتلال للهدنة، بينما رُفعت صور الأطفال الشهداء فوق الرؤوس. كانت الصدمة أكبر من قدرة المكان على الاحتمال، وكانت الوجوه متحجرة لا تعرف بأي لغة تعبّر عمّا رأت.

ميدان مضطرب

لم تكد مشاهد مجزرة النجاة تهدأ حتى استؤنفت سلسلة من الخروق العسكرية في مختلف مناطق قطاع غزة. فالمناطق الشرقية لخان يونس شهدت غارات جوية مكثفة أعقبها قصف مدفعي على أطراف بلدة القرارة، بينما تقدمت آليات الجيش الإسرائيلي باتجاه مدخل بلدة بني سهيلا، حيث دمرت آليات الاحتلال منازلاً قرب منطقتي جحا والفرابي، في مشهد يعكس أن العمليات العسكرية لم تتوقف فعليًا منذ إعلان وقف إطلاق النار.

وفي رفح، حلق الطيران المروحي الإسرائيلي على ارتفاعات منخفضة، مطلقًا الرصاص نحو منازل وأزقة داخل المدينة، إذ اندلعت اشتباكات مباشرة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال التي حاولت التقدم داخل عدة محاور. كانت أصوات الرصاص تتردد بين شوارع رفح المزدحمة بالنازحين، فيما شوهدت أعمدة الدخان تتصاعد من مبانٍ ضخمة نسفها الجيش الإسرائيلي في الجزء الشمالي من المدينة.

كما سجلت المناطق الوسطى اشتعالاً ميدانيًا، حيث تعرض مخيم البريج لإطلاق نار مفاجئ من آليات الاحتلال المتمركزة شرق المخيم. وترافق ذلك مع إعلان الجيش الإسرائيلي تنفيذ عملية استهداف عنصرًا من المقاومة الفلسطينية، بزعم الرد على خرق وقف إطلاق النار، وهو ادعاء تكرره إسرائيل رغم غياب أي مؤشرات على خرق المقاومة للاتفاق.

صيدٌ مهدد

لم يقتصر التصعيد الإسرائيلي على اليابسة، بل امتد صباح اليوم إلى البحر غرب مدينة غزة، حيث اعتقلت زوارق البحرية الإسرائيلية أربعة صيادين هم: حمزة كتوع، وعبد اللطيف طروش، ورشدي العطار، وعرفات طروش. بعد مطاردة قاسية داخل المياه الضيقة المسموح العمل بها. كانت الزوارق الإسرائيلية تطلق النار حول قوارب الصيادين، فتتطاير الأمواج فوق رؤوسهم بينما ارتفعت أصواتهم مستغيثة.

ومن على شاطئ غزة، قال الصياد محمود الهسي الذي نجا من عملية المطاردة: «هاجمونا فجأة ونحن في عرض البحر، لم نكن نفعل شيئًا سوى رمي الشباك. أطلقوا النار حول قواربنا، وأجبرونا على التوقف. رأيت حمزة وعبد اللطيف يُسحبون بقوة إلى زورق الاحتلال».

وأضاف لـ«عُمان»: «هذه ليست المرة الأولى، كثير من الصيادين قُتلوا أو اعتقلوا، وأصبح البحر مكانًا مرعبًا، مع أننا لا نملك مصدر رزق آخر».

وتابع الهسي أن الاحتلال يمنع الصيادين من تجاوز مسافة ضيقة جدًا، ورغم ذلك تتم ملاحقتهم يوميًا، «كأنهم يريدون قتل البحر نفسه، وليس الصيادين فقط»، كما قال. وتعد هذه الحوادث امتدادًا لسياسة إسرائيلية مستمرة تستهدف أرزاق آلاف العائلات التي تعتمد على البحر كمصدر أساسي للغذاء والدخل.

شهداء الأسرى

وفي موازاة التصعيد الميداني، أعلنت مؤسسات الأسرى عن استشهاد ثلاثة معتقلين من غزة داخل سجون الاحتلال، وهم تيسير صبابة، وخميس عاشور، وخليل هنية، وذلك بعد أيام من تسلمها ردودًا من جيش الاحتلال حول وفاة ثلاثة معتقلين آخرين هم أيمن قديح، وبلال سلامة، ومحمد الأسطل، لترتفع بذلك حصيلة الشهداء الأسرى المعلومة هوياتهم إلى تسعة وستين شهيدًا منذ بدء الإبادة.

وأوضحت المؤسسات الحقوقية أن الاحتلال يواصل التلاعب بالإجابات الرسمية حول ظروف استشهاد المعتقلين، إذ تقتصر ردوده على تحديد التاريخ دون ذكر السبب، بينما تشير الشهادات إلى تعرض المعتقلين للتعذيب، والإهمال الطبي، والتجويع المتعمد، وتفشي الأمراض، أبرزها «الجرب – السكايبوس» الذي تسبب في حالات وفاة عديدة.

وأكدت المؤسسات أن ما يجري داخل السجون يمثل «مرحلة هي الأكثر دموية في تاريخ الحركة الأسيرة»، مشيرة إلى أن آلاف الأسرى يواجهون أساليب قتل بطيء، وسط غياب تام لأي دور فعّال من المنظومة الحقوقية الدولية، التي اكتفت بإصدار بيانات بلا إجراءات رادعة.

وتحمل المؤسسات الاحتلال المسؤولية الكاملة عن هذه الجرائم، مطالبة بفتح تحقيق دولي ومحاكمة قادة الاحتلال على جرائم الحرب التي تنفذ بحق الأسرى، في ظل تجاوز عدد المعتقلين حاجز العشرة آلاف أسير، بينهم مئات النساء والأطفال.

نزيف الشهداء

وفي السياق ذاته، أصدرت وزارة الصحة في غزة تقريرها الإحصائي لعدد الشهداء والجرحى، اليوم الخميس 4 ديسمبر 2025، مشيرة إلى وصول ثمانية شهداء وستة عشر جريحًا إلى المستشفيات خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، بينهم اثنان من الشهداء الذين جرى انتشالهم من تحت الأنقاض. وأكدت الوزارة أن عددًا كبيرًا من الضحايا ما يزال تحت الركام وفي الطرقات، في ظل عجز طواقم الإسعاف عن الوصول إليهم نتيجة القصف واستمرار التوغلات.

وتحذر الوزارة من انهيار كامل للمنظومة الصحية، مع استمرار نقص الوقود والأدوية والمستلزمات، وتزايد أعداد المصابين الذين يحتاجون إلى عمليات طارئة لا تتوفر لها الإمكانيات.

نداء الشفاء

ومن داخل مجمع الشفاء الطبي، تحدث مديره محمد أبو سلمية قائلًا إن القطاع الصحي أمام كارثة غير مسبوقة، فهناك أكثر من مئة وسبعين ألف جريح منذ بدء الحرب، بينهم اثنان وأربعون ألفًا يحتاجون إلى عمليات جراحية عاجلة. وأوضح أن المستشفى يعتمد على غرف عمليات منهكة، بعضها خرج عن الخدمة، بينما يتكدس الجرحى في الممرات.

وأضاف أبو سلمية أن المجمع بحاجة ملحة إلى غرف عمليات جديدة، وأقسام عناية مركزة حديثة، إضافة إلى أجهزة طبية وأدوية شبه مفقودة. وأشار إلى أن الوضع سيزداد سوءًا في حال استمر الاحتلال في قصفه للمناطق المحيطة بالمستشفيات ومنع وصول الإمدادات الطبية، مضيفًا: «نحن نعمل بما تبقى من قدرات، لكننا نشاهد يوميًا أشخاصًا يمكن إنقاذهم لو توفرت الإمكانيات».

وشدد لـ«عُمان» على ضرورة تدخل المنظمات الدولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، معتبرًا أن استمرار الهدنة المشروطة بالخروقات لا يعني تحسن الوضع الصحي، بل يكرس حالة قتل بطيء للجرحى الذين ينتظرون العلاج.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أبو حسین

إقرأ أيضاً:

الوطني الفلسطيني: استهداف خيام النازحين في منطقة المواصي خرقا فاضحا لاتفاقية شرم الشيخ

قال رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح، إن استهداف خيام النازحين في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس وانتشال خمسة شهداء بينهم طفلان إضافة إلى عشرات الإصابات، يشكل خرقا فاضحا لاتفاقية شرم الشيخ وجريمة حرب وانتهاكا لقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات حماية المدنيين في أوقات النزاع.


وأوضح فتوح في بيان، وفقا لوكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، اليوم الخميس - أن اشتعال النار في خيام الأطفال والنازحين بعد قصف من الطيران الحربي دليلا إضافيا على أن حكومة الاحتلال الإسرائيلية لا تحتاج إلى أي ذريعة كي تواصل اعتداءاتها، مضيفا أنه ومن منذ وقف العدوان استناداً إلى تفاهمات شرم الشيخ قتلت إسرائيل أكثر من 320 مدنيا في أرقام تكشف حجم الإرهاب في استخدام أسلحة الدمار والقتل وتؤكد عدم التزام الاحتلال بمضمون التفاهمات التي يفترض أن توفر الحماية للسكان وتضمن الحد الأدنى من الامن والاستقرار.


وحمل فتوح قوات الاحتلال المسؤولية الكاملة عن تداعيات التصعيد، وطالب الوسطاء والدول الضامنة وخاصة الإدارة الامريكية بضرورة لجم الاحتلال ومنع حكومة الاحتلال من التهرب من التزامات الاتفاق والانتقال إلى المرحلة الثانية من التفاهمات بما يشمل فتح المعابر لإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية والمواد الإنسانية دون إبطاء.


وأشار إلى أن وقف القتل وحماية المدنيين وفرض احترام الالتزامات الدولية لم تعد خيارات سياسية بل واجبات قانونية وأخلاقية تستدعي تدخلا دوليا حاسما يعيد الاعتبار للقانون الدولي والقرارات الدولية ولحقوق الإنسان ويصون حياة شعب يتعرض للإبادة الجماعية والتطهير العرقي للعقاب الجماعي منذ 26 شهرا دون رادع.
 

طباعة شارك ‏رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح استهداف خيام النازحين في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس انتشال خمسة شهداء خرقا فاضحا لاتفاقية شرم الشيخ جريمة حرب انتهاكا لقواعد القانون الدولي الإنساني اتفاقيات حماية المدنيين

مقالات مشابهة

  • الوطني الفلسطيني: استهداف خيام النازحين في منطقة المواصي خرقا فاضحا لاتفاقية شرم الشيخ
  • فيديو: اللحظات الأولى الصادمة بعد قصف خيام النازحين
  • 5 شهداء وعشرات الإصابات في غارات الاحتلال على خيام النازحين في خان يونس
  • 5 شهداء وعشرات الجرحى في قصف إسرائيلي يستهدف خيام النازحين جنوب غزة
  • استشهاد 6 فلسطينيين في قصف الاحتلال خيام النازحين جنوب غزة
  • مسيّرات إسرائيلية تقصف خيام النازحين.. شهداء وجرحى في غزة
  • حماس: قصف خيام النازحين في خان يونس "جريمة حرب"
  • حماس: غارات جيش الاحـتلال على خيام النازحين بخان يونس تشكل جريمة حرب
  • "حماس": استهداف خيام النازحين بخانيونس جريمة حرب واستهتار باتفاق وقف النار