أولا: مدخل فلسفي إلى سؤال المشروع الإسلامي

لسنا أمام سؤال فقهيّ جزئي، ولا أمام معركة هوية فحسب، بل أمام قلقٍ معرفي عميق: هل المشروع الإسلامي اليوم فكرة حيّة قادرة على تشكيل المستقبل؟ أم مجرّد حنين معلَّق بين كتب التراث وشعارات الحركات؟

هل أزمتنا أزمة نص؟ أم أزمة تطبيق؟ أم أعمق من ذلك: أزمة وعي فقد القدرة على رؤية الإسلام بما هو أكثر من "هوية دفاعية" أو "برنامج حزب"؟

ويُطرَح كثيرا -وبطريقة تُضلّل أحيانا- سؤال حول طبيعة المشروع الإسلامي: هل هو دولة؟ أم حضارة؟ أم حركة تحرّر طويلة المدى؟

المشكلة ليست في الإجابة، بل في السؤال نفسه؛ فالعقل الذي يصنع السؤال هو الذي يحدد مسار التفكير.

كثيرٌ من الأسئلة المفروضة على الحركات الفكرية ليست نابعة من صميم تجربتها، بل من تصوّرات خارجية تريد حصرها في قوالب ضيّقة، وحين تُحبس الفكرة داخل سؤال غير منسجم مع واقعها، تفقد قدرتها على الحياة.

عندما نتحدث عن "المشروع الإسلامي" نخلط -من حيث لا نشعر- بين ثلاثة مستويات متمايزة:

1. الإسلام كدين: إيمان، وعبادة، وأخلاق، وعلاقة بالله، ومعنى للوجود.

2. الإسلام السياسي: تجربة حديثة لحركات وتنظيمات وبرامج انتخابية تعاملت -بدرجات متفاوتة- مع صدمة الدولة الحديثة والاستعمار والعلمنة.

3. المشروع الإسلامي: أفق حضاري طويل المدى، ورؤية للإنسان والمجتمع والعدل والمعرفة والزمن، ولعلاقة الأمة بالعالم.

الإشكال أنّ جزءا كبيرا من خطابنا المعاصر اختزل الإسلام في شعار دعوي يعد بكل شيء دون أن يغيّر شيئا في البنية العميقة للمجتمع، بينما نحن بحاجة إلى دمج سليم وواعٍ بين الإسلام كهوية شعورية: "أنا مسلم"، والإسلام كمنظومة قيم: العدل، الأمانة، الحرية، التكافل، والإسلام كإطار حضاري يرى العالم من زاوية مختلفة عن الرأسمالية المتوحشة أو القومية المنغلقة.

بدون هذا الدمج، وداخل مشروع إيجابي واقعي، يتحول "المشروع الإسلامي" إلى كلمة جميلة تُستعمل في كل اتجاه دون مضمون حقيقي.

التجارب الكبرى في التاريخ لم تولد من الشعارات، بل من الأزمات: القومية من جرح الهزيمة، والاشتراكية من الفقر والظلم، والليبرالية من الاستبداد، والوجودية من اغتراب الإنسان.

والمشروع الإسلامي لن يُبعث من جديد إلا إذا التقط أزمة الانسان اليوم. كل مشروع حضاري يمكن أن يتحول إلى بنية جامدة إذا جمد الزمن داخله، فالعالم -رغم أزماته- يطور أفكاره باستمرار، بينما يخشى كثير من الإسلاميين الزمن، وكأن دخوله خطر على الدين نفسه.

لذلك تصبح استعادة حرية السؤال شرطا لبقاء المشروع: كسر الثنائية الزائفة بين "الأسئلة المقبولة" و"الاتهام بالخروج عن الإجماع".

الحضارة هي الإنسان حين يتفاعل مع العالم بكل أبعاده: والفكر، والروح، والمادة، والواقع. وبدون هذا التفاعل، تصبح الفكرة مجرد ذكرى جميلة.. لا تصنع حياة.

فحياة الحضارة أو موتها مرهونان بمدى تفاعلنا معها فعلا لا وصفا: قولا وعملا، كتابة وتطبيقا، نقدا وتجريبا. كل ما نعرفه عن الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة جاء من محاولات تطبيق وتطوير أفكارهم بما يناسب مجتمعاتهم.

هنا نصل إلى جوهرٍ بالغ الأهمية: الفكرة لا تموت حين تُهزم سياسيا، بل حين تفقد القدرة على أن تسأل، والمشروع الإسلامي لا يحتاج إلى مزيد من الشعارات، بل إلى أن يستعيد حقه الطبيعي في أن يسأل، ويتفاعل، ويدخل العصر دون خوف من العصر. فالفكرة التي تخاف العالم لا يمكن أن تغيّره.

ثانيا: سياق القرن.. من الجغرافيا الممزقة إلى الترامبية الإمبراطورية

لإقامة مشروع حضاري لا يكفي أن نملك الفكرة والوعي والطاقة الأخلاقية، لا بد من دولة تحمي هذا المشروع وتمنحه أدوات القوة؛ لا لتحتكرها، بل لتحرس الفضاء الذي ينمو فيه.

الغرب لم يقم دولا قومية فقط، بل نسج حولها منظومة حضارية واحدة: الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كتلتان للأمن والاقتصاد والقيم الليبرالية، وخطاب عالمي عن الحرية وحقوق الإنسان. تعمل هذه المنظومة كـ"دولة حضارية موسعة" تحرس مشروعا واحدا: استدامة التفوق الغربي.

في المقابل يُطلب من المشروع الإسلامي أن يعيش بلا وحدة وطنية حقيقية، بلا دولة تحمي استقلال القرار، بلا كتلة حضارية متكاملة.. ثم يُحاسَب على عجزه عن النهوض. الدولة هنا ليست النهاية، بل محطةٌ في طريق طويل.

من 1900 إلى 2025 تحرك المشروع الإسلامي فوق أرض تتشقّق بلا توقف: استعمار، إسقاط الخلافة، الدول القُطرية، الهزائم، صعود الأنظمة الشمولية، الانقلابات، النيوليبرالية، الربيع العربي، الثورات المضادة، وحروب لا تنتهي.. وصولا إلى اللحظة الراهنة التي تكتنفها ترامبية عالمية تُكرّس القوة الفجّة وتكشف هشاشة القانون الدولي.

هذا ليس سردا تاريخيا، بل تعريفٌ للسياق الذي يتحرك فيه المشروع الإسلامي: داخل شبكة معقّدة من القوى والفرص والتهديدات. فهناك قوى هائلة أعادت تشكيل معنى الدين، وموقع الإنسان، وحدود الممكن السياسي. وفي هذا العالم لم يعد الدين مجرد عقيدة، بل أصبح هوية ورمزا ومساحةَ انتماء نفسي، وأحيانا وسيلة للنجاة من التيه.

في عالم سريع ومفتوح، يتحول الإيمان عند كثير من الشباب من يقين إلى سؤال، ومن سؤال إلى تيه، ومن تيه إلى بحث جديد. يكاد التحول الديني اليوم يكون مرآة دقيقة لقلق الإنسان المعاصر.

وأكثر ما يكشف عمق الأزمة هو لغة الشباب أنفسهم: لغة مباشرة، بلا تكلّف، تُظهر تداخل المفاهيم وغياب المرجعية: "أنا مسلم ثقافيا، لكن مش متأكد إني أؤمن بالله".. "أحاول أكون إنسانا جيدا.. مش مهم شوية آكل خنزير".. "فقدت إيماني في الصف الثالث لما اكتشفت أن حصة الدين كانت عن دين واحد فقط".

هذا ليس فقط ضعف إيمان، بل تحول عميق في علاقة الأجيال بالدين: الإسلام كاسم، كهويّة عائلية، كأخلاق عامة منزوعة المرجعية.. ومشروع إسلامي شبه غائب عن المخيلة.

هكذا نجد أنماطا جديدة لهذه العلاقة: التدين الانتقائي، الإلحاد الدفاعي، اللاأدرية، الروحانية الفردانية، وفصل الدين عن المجال العام. هذا في الغرب بشكل كبير، أما في عالمنا العربي فتنشأ صراعات أخرى: دعوات لفصل السياسة عن الدين تجعل الدين بلا سلطة، بلا مشروع.. لنجد أنفسنا أمام عقلية سجالية تحكم المشهد الإسلامي ما بين: سلفية تلغي إعمال العقل، واتّباع منبهر بالغرب يجعل العقل إلها، وبين التأليه والتعطيل يُجمد الفكر، ويُتم وأد العقل النقدي الذي يملك أن يقترح مشروعا معاصرا بلا خوف أو عقدة نقص.

أزمة الخطاب الديني في عصر الشبكات:

يتراجع الخطاب الوعظي التقليدي لأنه يتحدث بلغة الماضي إلى إنسان يعيش في زمن آخر.. شاب يقاتل اكتئابا لا تفيده خطبة عن الصبر.. فتاة تواجه عالم الصورة والجسد فلا تكفيها قائمة محاذير.. جيل يعيش في فضاء مفتوح يسبق فيه السؤال كل إجابة جاهزة.

السؤال اليوم ليس: هل نحتاج خطابا دينيا؟ بل: أي خطاب نحتاج؟ هل نحتاج خطابا يجلد الأسئلة، أم يحتضنها؟ خطابا يطارد الشك، أم يحوله إلى بداية بحث؟ خطابا يهرب من العصر، أم يدخل إليه ليطهّره لا ليستسلم له؟

وختاما:

بدون تجديد جذري، سيظل المشروع الإسلامي هشّا، غامضا، عاطفيا.. لا مشروعا حضاريا يشارك الأجيال بناء الغد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء المشروع هوية اسلام مشروع هوية قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المشروع الإسلامی

إقرأ أيضاً:

الأوقاف تصدر مجلة «منبر الإسلام» في عددها الجديد بعنوان:«الإحسان..تزكية للإنسان وعمارة للأوطان»

أصدرت وزارة الأوقاف العدد الجديد من مجلة «منبر الإسلام» لشهر جمادى الآخرة ١٤٤٧هـ، وتم تخصيص العدد لقيمة “الإحسان” وأثره في تزكية الإنسان وعمارة الأوطان، وذلك من خلال مقالات لكبار العلماء والكتّاب والمتخصصين.

وجاء في مقدّمة تلك المقالات مقالٌ لمعالي الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف ورئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إذ أكّد فيه أنه حين يقف الإنسان على ثغرٍ من ثغور الفكر والمعنى، ويفتح قلبه لاستقبال نفحات الوحي، يدرك أن أعظم ما يترقى إليه السالك في درجات الإيمان هو مقام الإحسان؛ تلك القيمة التي جعلها النبي ﷺ ذروة السلوك الإيماني، وغاية الوعي الروحي، ومحور الرسالة التي جاء بها الإسلام.

وأشار إلى أن الإحسان ليس خُلقًا عابرًا أو فضيلةً جزئية، بل هو صورة كاملة من الرقي الإنساني الذي يجمع بين صفاء الروح، ودقة العقل، ونُبل الفعل، حتى يصير الإنسان مرآةً صافيةً لجمال الوجود، ومفتاحًا من مفاتيح العمران.

وجاء العدد مفعمًا بمقالاتٍ متنوعة تعبّر عن أهمية قيمة الإحسان، من أبرزها:

مقال أ.د. محمد عبد الرحيم البيومي، الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، تحت عنوان: "حب المصريين لآل البيت ومساجدهم في مصر".

ومقالٌ لفضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، تحت عنوان: "أثر التصوف في عمارة الأرض".

ومقالٌ للأستاذ الدكتور علي عبد الوهاب مطاوع، أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر، تحت عنوان: "الشعر الصوفي.. معراج الروح إلى عوالم الفضيلة والطهر والصفاء".

وسلّطت المجلة الضوء على محاور وزارة الأوقاف الأربعة، والمتمثلة في: “مواجهة التطرف الديني واللاديني، وبناء الإنسان، وصناعة الحضارة”، وذلك من خلال مجموعة من المقالات والتقارير التي تدعم رسالة وزارة الأوقاف.

كما سلّطت المجلة الضوء على قرار وزارة الأوقاف بعودة مجالس قراءة البُردة الشريفة للإمام البوصيري في المساجد الكبرى، من خلال إبراز القيم الروحية التي تحتوي عليها قصيدة "البردة".

وأجرت المجلة حوارًا خاصًّا مع الأستاذ الدكتور محمد مهنا، أستاذ القانون الدولي بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر بالقاهرة، من أجل تعريف معنى التصوف كما أراده روّاده الأوائل، وعلاقته بمقام الإحسان الذي به يستقيم الدين، كما ناقش جذور الانحرافات التي شوّهت هذا الطريق، وقدم رؤية واضحة تعيد للتصوف مكانته كقيمة تربوية وروحية أصيلة في الحضارة الإسلامية.

وتقديرًا لرحلته العطرة في خدمة الإسلام، اختارت مجلة "منبر الإسلام" الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم باعتباره رائدًا من رواد مدرسة الإحسان والتزكية، ومؤسس الطريقة المحمدية.

وفي تقرير خاص، سلّطت المجلة الضوء على جهود مشيخة عموم الطرق الصوفية ونقابة السادة الأشراف في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن التصوف وترسيخ الوعي الديني المستنير.

كما سلّطت المجلة الضوء على جهود وزارة الأوقاف في حماية الأطفال من العنف، عبر رؤية تحليلية قدمها الكاتب الصحفي محمود الجلاد، معاون وزير الأوقاف لشئون الإعلام.

إضافة إلى الأبواب المتنوعة التي اشتمل عليها هذا العدد المميَّز، والذي يأتي في ضوء جهود وزارة الأوقاف لبناء الإنسان تحت رعاية الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف.

كما حرصت المجلة في هذا العدد على إهداء قرّائها كنزين علميين نفيسين من تراث القراءات وعلوم القرآن، وهما: كتاب «المصحف الشريف: أبحاث في تاريخه وأحكامه» لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي، وكتاب «أحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر» لفضيلة الشيخ محمود خليل الحصري، على أن تواصل المجلة تقديم كتابين هدية لقرّائها في كل عدد شهري دعمًا لرسالتها في خدمة العلوم الشرعية وترسيخ الوعي الرشيد.

مقالات مشابهة

  • الأوقاف تصدر مجلة «منبر الإسلام» في عددها الجديد بعنوان:«الإحسان..تزكية للإنسان وعمارة للأوطان»
  • «منبر الإسلام» في عددها الجديد بعنوان: «الإحسان.. تزكية للإنسان وعمارة للأوطان»
  • خالد الجندي ردا على الجماعات المتطرفة: الإسلام دين الحرية (فيديو)
  • خالد الجندي يفند مزاعم الجماعات المتطرفة ويؤكد: الإسلام دين الحرية والإنسان
  • انطلاق فعاليات الأسبوع الثقافي للأوقاف بإهناسيا تحت عنوان «التفاؤل في الإسلام وأثره الإيجابي»
  • كريم خالد عبد العزيز يكتب: تنمية الذات .. رحلة مستمرة نحو التميز
  • باحث بـ مرصد الأزهر: الإسلام أكثر دين كرم الإنسان وأوصى بكرامته مهما كان لونه أو جنسه
  • الأزهر العالمي للفتوى: الإسلام أقام منظومة لحفظ كرامة الإنسان والبشعة مناقضة لذلك
  • أسرار الحياة والخلق.. ماذا يقول الإسلام عن الروح واستنساخ الإنسان؟