درنة المدينة النازفة.. لماذا أهملها القذافي؟
تاريخ النشر: 20th, September 2023 GMT
كارثة.. فاجعة.. مصيبة.. هذه الكلمات لا تكفي توصيفا لما أصاب مدينة درنة الليبية، تزامنا مع إعصار دانيال (10 سبتمبر/أيلول الجاري)، المتهم (زورا وبهتانا)، بقتل أكثر من 11 ألف شخص من أهالي المدينة (العدد قابل للزيادة) طبقا لتقديرات الأمم المتحدة، وربما مثلهم في عداد المفقودين. تكشفت خلال الأيام القليلة الماضية فداحة وفظاعة "النازلة" التي حلّت بالمدينة الليبية النازفة، وخلّفت وراءها مئات المآسي الإنسانية الدامية للقلوب.
إنها مصيبة شنيعة ستترك أضرارا ومخاطر نفسية مؤلمة على الناجين، بفعل الصدمة القاتلة التي فجعتهم في عائلاتهم. فالناجون -ولسنوات طوال قادمة- سيرثون القلق والخوف، والاكتئاب، والأحلام المفزعة في نومهم، فليس سهلا على الإنسان، معايشة لحظات اختطاف الموت للأهل والأشقاء وفلذات الأكباد، في غمضة عين. لم يكن كل هذا بفعل "إعصار دانيال"، فهو كاشف فقط لما هو معلوم من فساد للساسة الذين يتقاسمون البلاد، ولا يعنيهم أمر المواطن الليبي.. بل مصالحهم الذاتية وطموحاتهم وأطماعهم غير المحدودة. فالأعاصير تحدث كثيرا في بلدان العالم، دون هذه الأعداد من القتلى والضحايا والدمار.. هناك دول تهتم بمواطنيها، وتحذّرهم مسبقا، وتؤمّن لهم حياتهم، باتخاذ الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون وقوع خسائر بشرية ومادية، أو تقليلها إلى أدنى الحدود. في "ليبيا"، لا دولة، فلا مؤسسات، ولا هياكل إدارية فاعلة.. مناصب وأموال ومناطق نفوذ فقط، موزعة على حكومتين.. تناقض البيانات المعلنة من كلتا الحكومتين كاشف بذاته لغيابهما الفعلي عن الكارثة.
هيئة الأرصاد الجوية الغائبة
الفاجعة دفعت "المنظمة العالمية للأرصاد الجوية"، إلى لوم السلطات الليبية (الغائبة)، بأنه كان ممكنا تجنب سقوط هذه الأعداد الضخمة من القتلى لو كان لدى ليبيا هيئة أرصاد جوية، تتنبأ بالأخطار، وتحذّر منها لإجلاء السكان وإنقاذهم من هذا المصير المفزع. "درنة" الجبلية المنكوبة، الواقعة على مسافة 807 أميال إلى الشرق من العاصمة الليبية طرابلس، تطل مباشرة على البحر الأبيض المتوسط، الذي يحدها من الشمال، بينما الجبل الأخضر هو حدها الجنوبي.. يخترقها وادي كبير (وادي درنة الشهير)، ويقسمها إلى قسمين. تتمدد المدينة على مساحة 32 كيلومترا مربعا.. يسكنها نحو 100 ألف نسمة. لم تسْلم "درنة" من الأعاصير في مرات عديدة.. لحقت بها خسائر بشرية ومادية، مثلما حدث أعوام 1941، و1959.. لذا أقيم بها في منتصف السبعينيات سدّان (البلاد، وأبو منصور) لحجز مياه الفيضانات والسيول المنحدرة إليها من أعالي الجبل الأخضر. هذان "السدان" عانا الإهمال وافتقدا الصيانة الدورية، طوال العقدين الأخيرين من حكم معمر القذافي، حتى وقوع الكارثة.
درنة التي كانت
"درنة" التي كانت منارة ثقافية في بعض الأزمنة، عانت تسلل الفكر الجهادي في العقد التاسع من القرن الماضي إلى عقول شبابها، بما أثار حفيظة "القذافي"، واستنفر حملاته الأمنية عليها، لقمع هؤلاء الجهاديين الذي ناهضوه وتمردوا عليه. من هنا أهمل القذافي المدينة حتى رحيله، غضبا لتمرد شبابها عليه، فلم ينشغل بـ "الصيانة" لسديها، رغم احتياجهما الملحّ لها، فهما بُنيا قبل نصف قرن، مثلما تجاهل صيانة شبكة طرق المدينة وجسورها الخمسة المنهارة أيضا. مع ثورة إعصار دانيال انهار السدان بما أدى إلى إفلات 24 مليون متر مكعب من المياه المحجوزة خلفهما.. تضافرت مياه السدود مع الإعصار المندفع صانعين طوفانا متوحشا ومجنونا يقتلع البنايات حتى المكونة من 6 طوابق، ويلقي بها وسكانها إلى الغرق. جاء سقوط القذافي في 2011 ليفتح أبواب المدينة لتنظيمي القاعدة وداعش اللذين سيطرا عليها.. لاحقا قاتلهم "الجنرال" المتقاعد خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي التابع لبرلمان طبرق، لسنوات حتى تمكن في 2018 من تحرير المدينة منهما، ليحل محلهما في السيطرة عليها، ويضمها إلى المناطق الخاضعة لنفوذه وحكومة أسامة حماد حاليا.
القذافي أسقط الملكية ومعها ملك ليبيا إدريس السنوسي، واستولى على الحكم في سبتمبر/أيلول 1969، وحتى مقتله أثناء الثورة الليبية في 2011.. أقام القذافي نظاما للحكم من أسوأ الأنظمة الاستبدادية. أطلق على البلاد منذ مارس/آذار 1977، وحتى سقوطه، مُسمّى الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى.. كأن التسمية كافية لنقل البلاد إلى مصاف الدول العظمى، مثل الولايات المتحدة الأميركية التي ناصبها العداء. لم تكن ليبيا "اشتراكية" كما يشير الاسم الذي هو لمكايدة الغرب، فالقذافي هو الحاكم بأمره.. المواطن ومن ثمّ الجماهير بلا أي قيمة أو دور أو حقوق سواء في زمن القذافي، أو بعده. فالقذافي كان مهووسا بإضفاء ألقاب فخمة على نفسه، فهو الزعيم والأخ العقيد قائد الثورة الليبية، وملك ملوك أفريقيا، وعميد الحكام العرب، وإمام المسلمين، وغيرها. انطلق القذافي مُبدّدا الثروات الليبية من عائدات النفط الذي تمتلك منه البلاد مخزونا ضخما يرفعها إلى المركز التاسع عالميا، للإنفاق على مغامراته ومؤامراته الخارجية، وشراء الولاءات اللازمة له كونه "ملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين"، بدلا من الاهتمام بالتنمية.
والحال هكذا، كان طبيعيا ألا ينتبه القذافي إلى تردي البنية التحتية التي شهدت نموا في العصر الملكي رغم الفساد، فلم يؤسس أنظمة صحية وتعليمية وثقافية واجتماعية فاعلة، ولا سعى إلى الاستثمار في البنية الأساسية، ولا اهتم بتكوين مراكز علمية وبحثية فاعلة. ومن الإنصاف الإشارة إلى "النهر الصناعي العظيم"، الذي تبناه القذافي بداية من 1984، إلى اكتماله في 2002، وهو مشروع عملاق لنقل 6.5 مليون متر مكعب من المياه الجوفية العذبة يوميا من 1400 بئر جوفي، إلى أنحاء ليبيا للشرب والزراعة والاستخدامات الأخرى، عبر شبكة أنابيب طولها 3500 كيلومتر. كما وفّر القذافي لمواطنيه دخلا جيدا أشعرهم برغد العيش، دون نهضة عمرانية وخدمية فعلية بالبلاد. هكذا ترك "العقيد القذافي" ليبيا عند سقوطه في حالة يُرثى لها من تدهور للبنية التحتية. لم تكن "درنة" استثناء من هذا الإهمال.. بل نالها نصيب أكبر، غضبا منه عليها، كما أسلفنا.
ليت المصيبة والكارثة الفظيعة التي ضربت درنة توقظ ضمائر الساسة المنقسمين، وتنتشلهم من صراعاتهم، للتآلف، وتشكيل حكومة موحدة تنهض بالبلاد وتقودها إلى الأمام، وتُضمد جراح "درنة" صريعة الاستبداد والعشوائية والفساد والإهمال.. إن أفلتت هذه الفرصة؛ فلا أمل في المستقبل القريب لليبيا.
نسأل الله الرحمة للموتى، والثبات والصبر لذويهم.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الجزيرة السورية.. من تراجع الزراعة إلى خطر الأمن الغذائي
القامشلي- تحت غطاء بلاستيكي مهترئ في منطقة الجزيرة السورية، ينحني المزارع محمد لتفقد شتلات الخيار والباذنجان الصغيرة التي يحاول إنقاذها من حرارة مبكرة، بعدما خسر من موسم القمح بالكامل.
في هذه المنطقة لم يعد المزارعون يتحدثون عن "الموسم"، بل عن "محاولات للبقاء". فقد زرع محمد الشتاء الماضي أكثر من 90 دونما من القمح والكمون، لكنها "ذهبت كلها هباء، بلا نقطة مطر تسندها".
لقد انتهى الموسم الشتوي قبل أن يبدأ، ولم يكن أمام محمد سوى الزراعة الصيفية باستخدام الطاقة الشمسية لتشغيل مضخة المياه، كخيار أخير لتقليل التكاليف والنجاة من الإفلاس.
ولم يكن محمد المزارع الوحيد الذي واجه المصير ذاته، بل هو نموذج لعشرات الآلاف في منطقة الجزيرة السورية ممن تغيّرت حياتهم جذريا بسبب الجفاف وتغير المناخ وغياب دعم حكومي فعلي.
زراعة تختنقتمتد الجزيرة السورية -المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات- على مساحات زراعية كانت تُعرف لعقود بأنها "سلة غذاء سوريا"، إذ كانت تنتج معظم القمح والشعير في البلاد.
لكن منذ عام 2019، فقدت هذه الأراضي لونها الأخضر، وبدأت تتحول إلى مساحات شاحبة لا تَعِد بشيء. وتبدّلت ملامح المشهد الزراعي بشكل دراماتيكي.
وبحسب تقارير محلية، تراجع إنتاج القمح في الحسكة من 805 آلاف طن عام 2020 إلى أقل من 210 آلاف طن الموسم الماضي، أي بخسارة تتجاوز 74% من حجم الإنتاج.
إعلانويعتمد نحو 70% من الأراضي الزراعية السورية على الأمطار، مما جعلها أولى ضحايا التغير المناخي.
وتفاقمت الأزمة مع غلاء الأسمدة، وشحّ البذور، وارتفاع كلفة الوقود أو ندرته، إضافة إلى تدهور شبكات الري، وانخفاض منسوب المياه الجوفية.
انسحاب من القمحوفي هذا السياق، قرر عيسى (مزارع خمسيني من ريف الحسكة) التخلي هذا العام عن زراعة القمح بعدما خسر كامل موسمه السابق على مساحة 15 دونما.
"لم أعد أحتمل الخسارة. زرعت 8 دونمات فقط من القطن، واستخدمت ألواح طاقة شمسية بالتقسيط لتشغيل مضخة المياه. النجاة هنا لا تعتمد على سياسة زراعية، بل على الشمس"، يقول عيسى للجزيرة نت.
أما محمود -وهو مزارع آخر من المنطقة- فاختار اللجوء إلى زراعة الخضروات الصيفية في أنفاق بلاستيكية، لكنها "مغامرة محفوفة بالقلق"، كما يقول.
ويضيف: "نزرع بقلق، ونعرف أن الفشل وارد، لكن لا بديل لدينا".
ويشكو المزارع من ارتفاع أسعار الأسمدة، وانعدام الدعم، ويصف الوضع الزراعي في الجزيرة السورية بأنه "مقامرة خاسرة".
خطر على الأمن الغذائي
يحذّر المهندس الزراعي مصطفى علي من أن ما يحدث في الجزيرة السورية يتجاوز كونه موسما سيئا، ويشكّل -وفق حديثه للجزيرة نت- "تحولا إستراتيجيا خطيرا في مستقبل الأمن الغذائي لسوريا".
ويضيف أن "غياب خطة حكومية واضحة لدعم الفلاحين في مواجهة التغيرات المناخية أدى إلى انسحاب تدريجي من زراعة المحاصيل الإستراتيجية، وعلى رأسها القمح، الذي كان يمثل لعقود عنوانا للسيادة الزراعية السورية.
ويتابع أن "أكثر من 90% من السكان في المنطقة يعيشون تحت خط الفقر، وفق تقارير أممية، وفي الوقت ذاته تنهار قدرتهم على إنتاج الغذاء، خصوصا في مناطق كانت تقود الزراعة في البلاد".
ويستطرد: "إذا لم يكن هناك تدخل فعلي وإستراتيجية طارئة لدعم الإنتاج الزراعي، فقد نجد أنفسنا أمام أزمة غذائية وطنية تبدأ من مزارعي الجزيرة ولا تنتهي على موائد السكان".
إعلانوبينما يستمر المزارعون في الجزيرة السورية باللجوء إلى بدائل صيفية في محاولة لتقليل الخسائر، تبقى الأزمة أعمق من مجرد تبديل موسم أو محصول.
في غياب دعم فعلي، ومع استمرار الجفاف وارتفاع التكاليف، يبدو أن الزراعة في الجزيرة السورية باتت على مفترق طرق.. فإما دعمٌ طارئ، أو مجاعة قادمة.