قراءة في كتاب الجوانب الإبداعية للأسرى الفلسطينيين للدكتور رأفت حمدونة
تاريخ النشر: 24th, September 2023 GMT
بداية، الكاتب جاء من عمق هذه التجربة حيث قضى في السجون قرابة عشرين عاما كان جلّها في العمل الثقافي على تثقيف ذاته وعلى غيره من الأسرى، وبعد أن تنسّم الحريّة تابع تعليمه الأكاديمي ليحصل على شهادة الدكتوراة من معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة بمرتبة الشرف الأولى، وكان موضوعها هذا الكتاب.
وتبرز أهمية هذه الدراسة أنها تناولت تجربة عظيمة في ظروف غارقة في غاية القسوة والصعوبة، كيف نجح الأسرى في اجتراح هذه الإبداعات من عمق المأساة واختراق الحصار المنيع المضروب على ظروف حبسهم القاسية وحياتهم المريرة، وكل محاولات الطمس على عقولهم وخنق أنفاسهم وإفقادهم حمل قضيتهم وانتمائهم لمبادئهم وتذويب هويّاتهم الثقافية والروحيّة والوطنية، وتحويلهم إلى مجرّد رقم لا يحمل أيّ مضمون.
فقد استهدفت هذه الدراسة إبراز الجوانب الإبداعية التي تميّز بها أسرانا وكيف تمكنوا من الحفاظ على تراكم إنجازاتهم كحالة إبداع في ظروف صعبة وقاهرة، وكذلك ذهبت إلى توضيح الاستراتيجيات والسياسات والآليات التي استخدمها الأسرى في تطوير منظومة الجوانب الإبداعية حسب ما كتب الدكتور حمدونة.
وتلخّص سؤال الدراسة الرئيسي في: كيف استطاعت الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة أن تواجه ممارسات سلطات الاحتلال في السجون بطرق ابتكارية ووسائل إبداعية؟ وما هي أشكال المقاومة التي استخدمتها للتغلب على العوائق التي واجهتها؟
وقد وصل حمدونة إلى أن هناك علاقة بين الضغوط التي يمارسها الاحتلال على الأسرى وقدرتهم على بلورة أفكار وأساليب جديدة للتكيّف والمواجهة والإبداع في ظلال اشتباك مستمر على مدار الساعة، وهم في مواجهة مفتوحة في خندق متقدّم مكشوف.
ولم تكن منهجية الدراسة بكتابة انطباعات الكاتب وآرائه الشخصيّة، بل ذهبت إلى علمية البحث من خلال المنهج التاريخي التحليلي والوصفي التحليلي واستعان باقتراب ومنهاجية "التحليل الثقافي" الذي يقوم على دراسة المحيط الثقافي للظاهرة وتحليلها. وهذا نمط جديد في الدراسات التي كتبت في السجون وعنها، إذ غالبا ما كانت من قبل لا تأخذ هذا المنحى التحليلي العلمي الذي يقلّل من الانطباعات الذاتية على حساب الدراسة التحليلية الجمعية.
ومن الأسباب التي دفعت حمدونة لتناول هذا الموضوع المهم هو الوفاء، ولأسباب أخلاقية رفيعة لإنسان قضى زهرة شبابه في أحضان الحركة الأسيرة مرشدا وقائدا ومربيا وعالما ومتعلما، نعم دفعه كل هذا إلى أن يعكف على دراسة الجوانب الإبداعية للحركة الأسيرة التي حافظت على تماسكاها وحمت نفسها من الاستهداف الأمني والأخلاقي الشرس، ونجحت في تخريج أجيال كان لها الأثر الكبير في عملية النضال والثورة الفلسطينية.
وللدراسة أهمية عملية سوى الأهمية الأكاديمية، حيث قدمت مادة مشرقة عن الأسرى للرأي العام العالمي تنقض الصورة النمطية التي تسوقها دولة الاحتلال عن الأسرى الفلسطينيين بأنهم "قتلة وإرهابيون وأياديهم ملطخة بالدماء". وكذلك فإنها تقدم مادة مستجدة وغنيّة للمؤسسات الرسميّة عن الأسرى يمكن الاستفادة منها على الصعيد الحقوقي.
وبدأت الدراسة في التدليل بشكل عام على الحركة الأسيرة كتاريخ ومراحل تطوّر ومظاهر التضييق من قبل السجان والوسائل النضالية للأسرى كحالة إبداع في مواجهة المحتلّ، وشرحت العوامل التي ساهمت في تنمية الإبداع في مواجهة السجان الإسرائيلي، وعن دور الحركة الأسيرة في تعزيز الجوانب الإبداعية التي كانت خير ردّ على وسائل الاحتلال لتفريغ الأسير من محتواه النضالي والثقافي. وجابت الدراسة في المسيرة الثقافية كمظهر هام من مظاهر الإبداع التي وفّرت الحركة الأسيرة محاضنه لتطويره والسير به قدما، وقد خصّص مبحثا خاصا عن أدب السجون. ويذكر أن الكاتب حمدونة من أبرز عمداء هذا الأدب، حيث خرج من السجن بعدة روايات فكان بذلك خير شاهد على ما خلصت إليه دراسته.
واستعرض حمدونة في دراسته بعض التجليات الإبداعية للحركة الأسيرة، منها الإضرابات المفتوحة عن الطعام والنطف المحرّرة وما حققته من إنجاز عظيم، وفرسان للحرية أبدعت وتميّزت الحركة الأسيرة في إنتاجهم. ولم ينس أن يتناول التجربة الديمقراطية في السجون وانعكاسها على حياة الأسرى وإرخاء ظلالها على الحياة الفلسطينية بشكل عام.
الدراسة لن يعطيها حقها مقال لأنها ثرية وخصبة وتستحق أن تُقرأ وتتابع توصياتها من أعلى المستويات، لتبقى الجوانب الإبداعية لأسرانا في حالة إشراق دائم وعطاء لا ينضب. فتسليط الضوء على هذا الإشراق الإبداعي في غاية الأهمية ومفخرة لأسرانا ولنا جميعا، ولكل إنسان حرّ أن ينهل من هذه التجربة ويستلهم منها الروح والأمل.
لقد نجح حمدونة في سبر غور هذه التجربة الفريدة وأبدع في عرض مضمون عظيم بطريقة فذّة وأسلوب جميل يستحق منا كلّ الاحترام والتقدير، ولهذه الدراسة أن تتبوأ مقعدا هامّا في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات والمدارس كمرجع هام لإبداعات الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السجون الفلسطينية كتب الاحتلال اسرى فلسطين الاحتلال كتب سجون مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرکة الأسیرة هذه الدراسة فی السجون
إقرأ أيضاً:
اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة: من نقص التشخيص إلى فرطه
يزداد عدد الشباب في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم الذين يأتون للعيادة النفسية هذه الأيام ليتأكدوا أن لديهم اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD, Attention Deficit Hyperactivity Disorder)؛ لقد شَخَّصوا أنفسهم بأنفسهم عبر النت، لديهم صعوبة في التركيز والتنظيم، ولا يبدو إلا أنهم مصابون بهذا الاضطراب. وربما قالوا جملا واصفة متشابهة: «لم أدرِ ما بي إلا بعد أن رأيت مقطعا عن هذا الاضطراب في الإنستاجرام»، «أنا لا شك مصاب بهذا الاضطراب»، «هذا الاضطراب يفسر حياتي بأكملها، يا دكتور!». بل وربما يأتون وهم قد جربوا سلفا الأدوية المستعملة في العلاج. يحدث هذا في عيادات العالم النفسية أجمع، ومعنا أيضا. يسلط هذا المقال الضوء على تطور تشخيص اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة.
نسخ تتوالى وأدلة تتراكم
دعونا نعود إلى البداية، إلى عام 1952م حين ظهرت النسخة الأولى من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية. وهو، بالمناسبة، مرجع عالمي أساسي في تصنيف الاضطرابات النفسية وتشخيصها، بل هو المرجع المعتمد لأكثر الأطباء النفسيين حول العالم المعروف، ارتأت الجمعية الأمريكية للطب النفسي أن تصدره حتى تقود الأطباء النفسيين بأمان عبر متاهة الأعراض النفسية المتداخلة بلا نهاية. في النسخة الأولى هذه، لم يكن هناك تشخيص محدد لاضطراب «نقص الانتباه وفرط الحركة»، كما نعرفه اليوم، وكما تبثه قنوات اليوتيوب والإنستا التثقيفية والترويجية. لم يكن يوجد مرض او اضطراب رسمي بهذا الاسم، لا للأطفال، ولا للبالغين بالطبع، بل كانت مثل هذه الحالات تودع في خانة «خلل دماغي بسيط». أشارت كلمة «بسيط» إلى أن خلل الدماغ الذي يظهر في مثل هذه الحالات من خلال الاختبارات العصبية وصور الأشعة، ليس جسيما، أي ليس بحجم «التخلف العقلي»، أو «طيف التوحد» مع أن هذا المصطلح الأخير، وللأمانة العلمية، سيحتاج إلى عقود تالية ليظهر في الدليل. مع هذا، كان المتخصصون آنذاك، كعادتهم في الريادة، يتحدثون عن أطفال يُظهِرون نشاطا مفرطا، واستخدموا، بمعزل عن الدليل، مصطلحات لتوصيف اضطرابهم، مثل: «متلازمة الطفل المفرط النشاط».
تقدمت النسخة الثانية من الدليل خطوة أخرى للأمام باطّراحها جزئيا مفاهيم مدرسة التحليل النفسي وتبنيها نموذجا طبيا يعتمد على الأعراض. ظهر في هذه النسخة تشخيص: «استجابة الأطفال مفرطة الحركة»، وهو اسم ربما نراه غريبا بعض الشيء هذه الأيام، وربما كان غريبا حتى في تلك الأيام الخوالي. شملت معايير التشخيص: فرط النشاط الحركي، والاندفاعية، وعدم الاستجابة للضوابط الاجتماعية، وصعوبة في التركيز والانتباه. كان الاهتمام في هذه المعايير على السلوكات الظاهرة، وهو ما كان يتوافق مع المزاج العام الذي كان تحت سيطرة المدرسة السلوكية بعد أن أزاحت منافستَها المدرسة التحليلية إلى الهامش. وحتى «صعوبة التركيز والانتباه»، كان يُنظَر إليها حينها على أنها عَرَض مرتبط بفرط الحركة، وليس عرضا مستقلا يمكن ان يحدث بدونها.
انقلبت الآية في النسخة الثالثة التي صدرت عام 1980م، تحوّل الاهتمام من «فرط الحركة» إلى «نقص الانتباه»، سُمِّي الاضطراب «اضطراب نقص الانتباه»، وفُرِّق بين نوعين فرعيين منه: «نقص الانتباه مع فرط الحركة»، و«نقص الانتباه بدون فرط الحركة». أصبح واضحا أن نقص الانتباه ليس عَرَضَا ثانويا لفرط الحركة، بل هو عرض إدراكي مستقل، سواء أأظهر الطفلُ فرط حركة أم لم يظهر. من محامد النسخة الثالثة أيضا أنها وضعت قائمة أعراض إدراكية وسلوكية دقيقة للاضطراب، وعتبة عددية للتشخيص، فلا بد من توفر عدد معين من الأعراض المذكورة في القائمة، وأن تستمر الأعراض لفترة معينة. بالطبع لم تحدث هذه التعديلات جزافا، بل سبقتها تقييمات ميدانية واختبارات على عينات كبيرة من الأطفال. لاحقا وفي مراجعة عام 1987 للنسخة نفسها من الدليل، استقر المُسمَّى أخيرا، وبعد لَأي، على: «اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة»، في حركة توازن بين ما هو سلوكي وما هو إدراكي.
في النسخة الثالثة كذلك، لم تعد الاضطرابات النفسية التي تحدث في الطفولة تُدرَج ضمن فئات عامة يشترك فيها البالغون والأطفال سواء بسواء، بل فصلت وخصص لها قسم بأكمله. هدف هذا إلى تحسين دقة التشخيص، وتركيز الأبحاث المستقبلية، وإبراز الطبيعة النمائية لاضطرابات الطفولة النفسية هذه. لكنْ لكل انفصال ثمنه، جاء ثمن الانفصال بأن حُصِرت بعض الاضطرابات في مرحلة الطفولة، وغُضَّ الطرف، ولو لحين، عن تداعياتها عند البالغين. بدا كما لو أن على المرء أن ينسلخ من اضطرابات الطفولة حتى يحق له أن يصاب باضطرابات البالغين النفسية. مع أنه من المنطقي، والطبيعي كذلك، ألّا تعترف الأمراض بالتقسيمات التصنيفية، وتستمر في تنغيص حياة المرء حتى بعد أن يتجاوز عمر 18 سنة، وربما لأنه تجاوزه. كان هذا المنطق أكثر وضوحا في «التخلف العقلي» -سيُغيَّر أخيرا إلى «الإعاقة الذهنية»- فلن تتلاشى الإعاقة بعد أن يتجاوز المرء خط الـ18. ومثله «التوحد الطفولي» -سيُغيَّر أخيرا هو الآخر إلى «اضطراب طيف التوحد»- فلن يخرج المرء من ربقة هذا الطيف لأنه أصبح بالغا. بيد أن الأمر بدا أصعب حالا مع اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة فيما يتعلق بهذه النقطة بالذات؛ ربما لأن فرط الحركة كان السبب الأول في تلك الآماد لعرض الطفل على الأطباء والمختصين: لا شك أن طفلا يتحرك باستمرار، ولا يستطيع الجلوس لفترات طويلة ليستمع لما يقال له، ويتصرف بلا نظام، لا شك أنه سيجفف قدرات التحمّل عند والديه من منابعها، أما نقص انتباه الطفل وعدم فهم دروسه فربما تؤخذ على أنها مسألة قدرات عقلية منخفضة، وفي كل الأحوال لا تشكل أمرا عاجلا للتدخل. وإنْ تقبَّلَ هذان الوالدان تصرفات ولدهما الحركية تلك على مضض، فمن المشكوك فيه أن يقبله معلموه، خصوصا إن كانوا حازمين وكلاسيكيين في مقارباتهم التعليمية. آخذين ذلك بعين الاعتبار، ومضيفين أن فرط الحركة عند طفل مصاب بالاضطراب يقل حقا مع التقدم في العمر، فإن لدينا دليلا على أن الاضطراب يختفي قبل البلوغ. هكذا، حُلَّت المشكلة: هذا الاضطراب اضطراب طفولة بامتياز، ويتلاشى، تماما، أو يكاد، حين تجاوز عتبة العمر السحرية!
جاءت المفاجأة مع النسخة الرابعة من الدليل الصادرة عام 1994م، لم يعد الاضطراب اضطراب أطفال فحسب، بل أمكن أن يكون اضطراب بالغين أيضا. أصبح بإمكان الطبيب النفسي أن يُشخِّص بالغا باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة. كانت مفاجأة لمستخدمي الدليل فحسب؛ فالقائمون على الدليل لم يحظوا بلذة المفاجأة هذه، فقد كانوا مستمرين في أبحاثهم، وكانت الأدلة تتراكم بين أيديهم على أن الاضطراب يستمر في مرحلة البلوغ. نعم، يقل فرط الحركة فعلا مع التقدم في العمر في شكله الطفولي، لكن يحل محله شكل «بالغ»، إن صح التعبير. يشعر البالغ بالقلق الداخلي، ويتململ، ويغير وضعية الجلوس باستمرار، ولا يمكنه تحمل فترات طويلة من الاجتماعات المملة عادة، ويفرط في الكلام أحيانا، بل ويجد الجرأة على أن يقاطع الآخرين، ويندفع في اتخاذ قرارته: إن محركه الداخلي مُشغَّل باستمرار. أما من ناحية نقص الانتباه، فإن البالغ لا ينسى واجباته المنزلية، ولا يرفض تعليمات والديه ومعلميه، لكنه ينسى مواعيده، ولا يعرف كيف يدير مهامه في المدة المتاحة لتنفيذها، ويجد صعوبة في متابعة المهام المعقدة، ويشعر بالإرهاق الذهني بسرعة أكبر من أقرانه.
مع هذا، كانت المعايير لتشخيص الاضطراب عند البالغين لا تزال حينها مقننة بالمعايير التي كانت للأطفال، لكن الأمر أخذ منحى أكثر تميزا في النسخة الخامسة من الدليل التي رأت النور في عام 2013م، وهي النسخة التي نعيش حاليا تحت ظلالها الوارفة. نُقِل الاضطراب بأكمله من فئة اضطرابات الطفولة إلى اضطرابات النمو العصبي، يمكن لطبيب البالغين النفسي أن يشخص المرض بداية؛ لكن التشخيص حدد أن تكون الأعراض قد ظهرت قبل سن الـ12 سنة، حتى لو لم يتم تشخيصها سابقا؛ فربما كانت الأعراض خفيفة حين كان المرء طفلا، وربما كان الطفل قادرا بطريقة ما على التعامل مع ما يعتريه من أعراض. هكذا تمدد التشخيص ليصيب البالغين كما يصيب الأطفال.
نقص تشخيص وفرط تشخيص
لنرجع قليلا إلى الوراء، إلى أولئك البالغين الذين عاشوا حياتهم قبل صدور الاعتراف الرسمي بالاضطراب، وعانوا منه كما يعاني منه المصابون به في عصرنا الحالي. وَضعَهم الأطباء حينها في خانة الاكتئاب أو القلق العام، فنقص التركيز إحدى سمات الاكتئاب والقلق. وربما وضعوهم في خانة الشخصية الحدية، أو حتى المعادية للمجتمع، فيما لو كانت اندفاعيتهم شديدة، وأدت بهم إلى تداعيات سلبية فيما يخص بعلاقاتهم مع والديهم وأصدقائهم والمجتمع ككل. وربما وضعوهم في خانة من يعاني من صعوبات أكاديمية. وكان من المحتمل أن يوصف سلوكهم، لو كانت شدة الاضطراب خفيفة، بأنه كسل وعدم انضباط. لقد واجهوا صعوبة في العمل والدراسة، وأصيبوا أخيرا بالإحباط وتدني تقدير الذات. لكن علينا أن نتوخى الحذر قليلا: لا يعني هذا أن أولئك المصابين لم يحظوا بعلاج حينها، بل لعل العقاقير المضادة للاكتئاب والقلق أفادتهم، سواء بتخفيف القلق داخلهم من عدم إكمال مهامهم أو من المزاج المتدني الذي قد يكون عاقبة من العواقب، بل ولعلها أفادتهم في زيادة التركيز. بل إن مثل هذه العقاقير قد تكون ضمن خطة العلاج العصرية لهذا الاضطراب. لا ننسى كذلك أن خطط العلاجات النفسية الكلامية، حتى في ذلك الوقت، كانت تُفصَّل على مشاكل المرء اليومية وأعراضه حتى لو كان التشخيص خاطئا كما نعلم اليوم، وهو ما يصفه المعالجون النفسيون في عصرنا هذا، بدرجة من الموضوعية والسخرية، بأنه علاج عابر للتشخيصات!
جلب تحديث المعايير التشخيصية الأخيرة لاضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة العديد من الفوائد؛ فقد أصبحت الأعراض الإدراكية أكثر شمولا، وركزت أكثر من قبل على الخلل الذي يصيب الوظائف التنفيذية، أي التخطيط والتنظيم وإدارة الوقت وضبط النفس. وهي من المشاكل التي كان الناس لا يلتفتون إليها بحكم اسم الاضطراب نفسه الذي يبدو وكأنه يحصر المشكلة في الحركة والتركيز. التركيز على ضعف هذه الوظائف التنفيذية فسَّرَ بشكل أفضل الصعوبات التي تواجه المصابين به في حياتهم اليومية، وحسّن بالتالي من تقنيات العلاج النفسي المستخدمة. كذلك وسع تحديث المعايير من مفهوم فرط الحركة فلم يعد مقتصرا على الحركة الزائدة، بل شمل أيضا التفكير المتسارع والتحدث المفرط ومقاطعة الآخرين والاندفاعية الإدراكية، عنى هذا أن التركيز لا يجب أن يكون للنشاط المفرط الخارجي فحسب، بل يجب أن يشمل كذلك النشاط المفرط الداخلي. أدى توسيع الأعراض الإدراكية في المعايير الحديثة إلى إمكانية العثور بسهولة على الاضطراب لدى البالغين، وأدى كذلك إلى سهولة العثور عليه عند النساء. أشارت إحصاءات حديثة في الولايات المتحدة أجريت عام 2024، إلى أن معدل إصابة البالغين بهذا الاضطراب 6%، وهذه نسبة كبيرة. كذلك ارتفع معدل إصابة النساء بالاضطراب إلى 5.6%، وأصبحت نسبة الإناث المصابة تساوي 44%. ما تعنيه هذه النسب بوضوح أن الاضطراب ككل أصبح اضطراب بالغين كما هو اضطراب أطفال، وأصبح اضطراب نساء كما هو اضطراب رجال. حصل هذا كله بسبب توسيع المعايير المعنية بفرط الحركة لتصبح داخلية أيضا، والالتفات إلى الخلل في جوانب الإدراك وكذلك في العمليات التنفيذية.
يحاجج بعض المختصين في المجال أن زيادة النسبة هذه دلالة على تحسن التشخيص وزيادة وعي الناس بالصحة النفسية، ويضيفون أن ضغوط الحياة الحديثة التي تلقي بكاهلها على الأفراد والمجتمعات تزيد من إظهار الأعراض التي قد تكون مخفية فيما لو كان الفرد يمارس عملا بسيطا، كذلك فإن ارتفاع تشخيص الاضطراب لدى النساء بعد إصدار النسخة الأخيرة من الدليل، أدى إلى زيادة إجمالي الحالات، لا ننسى أن جزءا كبيرا من النساء كان يتم إغفالهن بسبب اختلاف أعراضهن عن الرجال. وهنا يحتدم النقاش، فهل تحول تشخيص اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة إلى تشخيص مفرط؟ هل تُوسِّع المعاييرُ الحالية التشخيص ليشمل أناسا غير مصابين بالاضطراب؟ يحاجج المختصون، آنفو الذكر ذاتهم، أن الأدلة تشير إلى عكس ذلك، أي أنها تشير إلى عدم وجود فرط تشخيص للاضطراب، وإذا حدث هذا فإنه لا يتعدى ما يحدث مع الاضطرابات الأخرى. لقد عانى العديد من البالغين من الاضطراب على مر العقود المنصرمة، ولم يحظوا بالتشخيص والعلاج بسبب أخذ الاضطراب على أنه اضطراب طفولة، وعانى العديد من النساء بين هؤلاء البالغين من غير أن يخطر في بال الأطباء النفسيين أنهن يمكن أن يكن مصابات بالاضطراب، وكل هذا بسبب أن الاضطراب أخِذ على أنه اضطراب أطفال في الأساس، وأطفال ذكور في الغالب.
لكننا لا يجب أن نغفل عن الحجج التي يقدمها من يدّعون الإفراط في تشخيص الاضطراب، يقول هؤلاء إن توسيع المعايير لتشمل ما تشمله حاليا يقلل عتبة الاضطراب، أي يدخل ما هو عادي فيما هو معتل، بكلمة أخرى: يُمرضِن الطبيعي. ويرون أن بعض الخصائص التي شملتها المعايير الحالية ليست إلا سوء تنظيم وسمات شخصية. هنا يجب أن نلاحظ أمرا مهما، وهو أن بعض الاضطرابات النفسية يمكن تصورها على أنها طبيعية في شدتها الأدنى، بمعنى أن خصيصةً ما طبيعية تتحول إلى غير طبيعية حين تزيد شدتها، وخير مثال على ذلك القلق، فمعظمنا لديه قليل من القلق، ولكن كثيره مرض. كذلك فإن التأثير الإعلامي والترويجي فيما يتعلق بالاضطراب قد لا يكون في الصالح العام، ذلك لأن العديد من الناس -ومن بينهم طبعا الشباب الذين ذكرتهم في رأس المقال- يميلون إلى أن يُسقطوا على أنفسهم ما يقرؤونه أو يسمعونه أو يشاهدونه، وهذا مما يفاقم ظاهرة «التشخيص الذاتي». ولأن التشخيص الطبي النفسي يعتمد على ما يقوله «المريض»، ويشعر به ويختبره في داخل عقله ونفسه، فإن هناك دائما تذبذبا في عتبة الاضطراب بناء على التقييم الذاتي للطبيب والتقييم الذاتي للمريض. المشكلة أيضا أن هناك من يستفيد من كونه مريضا، وهذه ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد تمحيص. وحين يُشخَّص امرؤ باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة فإن التشخيص هذا قد يؤدي إلى أن توصف له عقاقير منشِّطة، وقد يعني هذا أن يُعفى من بعض الالتزامات الأكاديمية، ويمنح بعض الامتيازات. إن كل هذه الفوائد وغيرها تدفع بمزيد من الشباب إلى الذهاب إلى عيادات الطب النفسي واستصدار تشخيص بالاضطراب. وثمة مشكلة أدهى وأمر تتعلق بشركات الأدوية الكبرى؛ فلكي تسوِّق منتجاتها، تعمد إلى توجيه الأبحاث لتصب في صالحها الرأسمالي، وتوجيه الوعي العام حتى يتقبل الأطباء والمختصون والأفراد والأسر العلاجات المقدمة ويسعون للحصول عليها.
هكذا عزيزي القارئ تتغير الرؤى والأطر العامة، ما ينتج عنه تغيرا في الممارسة الطبية؛ إنك لن تستطيع أن تكتشف شيئا ما لم تكن تعرف أين يوجد بداية. وما لم يكن هناك كيان معين لاضطراب معين فإن إمكانية كشف هذا الاضطراب تكون ضعيفة. وهكذا لا يبدو الأمر سهلا: هناك من هو مصاب بالاضطراب ولا يأتي للعلاج، وهناك من هو غير مصاب بالاضطراب ويأتي للعلاج، وفي ظل عدم وجود فحوصات دقيقة أو تصوير دماغي يثبت المرض أو ينفيه، ليس في جعبة الأطباء والمختصين بالأمراض النفسية إلا تحسين دقة التقييم الطبي، وتحسين الاختبارات النفسية، وتطوير علاجات نفسية كلامية، على أمل أن يتمكن العلم من إيجاد طرق تصوير للدماغ أو رسوم كهربية أو فحوصات مختبرية تثبت بما لا يدع مجالا للشك من هو مصاب بمرض نفسي ما، ومن هو «طبيعي»، إن كان هناك من يمكن أن نقول عنه طبيعيا في عصرنا هذا!
د.حسين العبري كاتب وطبيب نفسي