المسألة الاجتماعية محورا للصراع السياسي
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
ليس من المعهود أن يحتل كتاب في البحوث الاقتصادية أو السياسية قائمة أعلى المبيعات أو أن يحتفي به النقد الإعلامي في كبريات الصحف ويخصص له عديد التحليلات والتعليقات المشفوعة بالحوارات المعمقة مع الباحث. بل إن المعتاد، منذ أن أصبح للجرائد الجادة ملحقات أسبوعية مختصة في متابعة أحدث الإصدارات، أن يكون الرواج الجماهيري والاهتمام النقدي من نصيب القصص والروايات.
والحق أن رواج الروايات والقصص ونصوص التخييل عموما هو الأمر الثقافي الواقع في جميع الحضارات المعاصرة. ولكن يحدث في بعض الحالات أن يروج الكتاب غير الروائي رواجا شعبيا كبيرا. فقد كان هذا شأن كتب مثل أصل الأنواع لداروين، وبيان الحزب الشيوعي لماركس وإنجلز، والديمقراطية في أمريكا لتوكفيل، والأخلاقية البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس فيبر، وتأويل الأحلام لفرويد، والوجودية مذهب إنساني لسارتر، والجنس الثاني لسيمون ديبوفوار، ومدارات حزينة لكلود لفي ـ ستروس (ولو أن هذا كتاب يستعصي على التصنيف، ويفسر بعض النقاد رواجه بأن معظم القراء يظنونه، خطأ، من أدب الرحلات) والمعذبون في الأرض لفرانز فانون، وأيخمان في القدس لحنا آرندت، والمراقبة والعقاب لفوكو، الخ. أما في البلاد العربية فلعل العناوين التي تصدرت قائمة أكثر الكتب غير الروائية رواجا هي عبقريات العقاد (من عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين حتى عبقرية خالد بن الوليد) وبعض مؤلفات سيد قطب مثل معالم في الطريق، ومعركة الإسلام والرأسمالية، وبعض مؤلفات مالك بن نبي مثل الظاهرة القرآنية، ومشكلات الحضارة. هذا في الماضي البعيد نسبيا.
أما في الماضي القريب، فإن الكتاب البحثي الذي راج أشد الرواج، عام 1993، هو كتاب "بؤس العالم" الذي أعده مجموعة من الباحثين بإشراف عالم الاجتماع الراحل بيار بورديو. ولا مراء أن أبرز الكتب البحثية رواجا في السنوات الأخيرة هو "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" الذي أصدره باحث الاقتصاد الفرنسي توما بيكتي عام 2013، ودرس فيه آليات توزيع الدخل والثروة في البلدان الغربية منذ القرن الثامن عشر. وقد ترجم الكتاب، البالغ نحو ألف صفحة، إلى حوالي أربعين لغة وبيع منه في السنوات الأربع الأولى ما لا يقل عن مليونين ونصف مليون نسخة.
وها هو بيكتي قد طلع هذا الشهر، مع زميلته باحثة الاقتصاد جوليا كاجي، بكتاب بحثي بعنوان "تاريخ الصراع السياسي" حظي هو الآخر باهتمام نقدي واسع، ويتوقع له أن ينال رواجا جماهيريا، رغم أن طوله 850 صفحة. وما يدرسه الباحثان في الكتاب هو أنماط الاقتراع الشعبي في جميع الانتخابات التي شهدتها فرنسا طيلة أكثر من قرنين، من عام 1793 حتى 2022، في جميع القرى والبلدات الفرنسية التي يبلغ عددها 36 ألفا. وما يهمنا من هذه الدراسة هو أنها تتصدى للإشكالية التي تطرقنا لها في الأسبوعين الماضيين: صعود اليمين المتطرف مقابل استفحال أزمة اليسار وهزائمه الانتخابية. ويتوصل الباحثان إلى خمس نتائج مهمة: أولا، رغم كثرة التحولات الموهمة بالعكس، فإن الصراع السياسي ظل، ولا يزال، يدور حول اللا ـ مساواة الاجتماعية واتساع هوة التفاوت الطبقي، أي حول المسألة الاجتماعية، وليس مسائل الهوية أو الثقافة أو الهجرة. ثانيا، الشرائح الشعبية مشتتة بين أحزاب اليسار والخضر وبين أحزاب اليمين المتطرف (التي تستقطب معظم سكان الأرياف). ثالثا، مقولة أن الطبقة العاملة هجرت اليسار نهائيا هي من اختراعات وسائل الإعلام اليمينية، والدليل أن البحث أثبت أن الدوائر الانتخابية الفقيرة في فرنسا بقيت تصوت لأحزاب اليسار على مدى قرنين، ولاتزال. رابعا، نقطة ضعف اليسار حتى الآن هي عدم التجذر الانتخابي في أوساط سكان الأرياف والمناطق الزراعية. أخيرا، صعود اليمين المتطرف في الاستطلاعات والانتخابات (في إيطاليا، والمجر، وفنلندا، واليونان…) ليس قضاء مبرما، بل يمكن لليسار أن يعود إلى الحكم في الأعوام القادمة بشرط أن ينجح في اجتذاب ناخبي الأرياف.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه فرنسا الهوية فرنسا الهوية علم الاجتماع صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
باحث سياسي: تقرير فرنسا عن الإخوان مُسيّس ومبني على أوهام اليمين المتطرف
قال الباحث السياسي الجزائري، الدكتور حسين جيدل، إن "التقرير الفرنسي الذي رُفعت عنه السرّية الأسبوع الماضي، بقرار من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يعكس ذعرا سياسيا متصاعدا من الحضور المتزايد للمسلمين في المجال العام الفرنسي، لا سيما بعد التطورات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي جعلتهم جزءا فاعلا ومؤثرا في المجتمع، بعد أن كان يُنظر إليهم كمجرد عمال مهاجرين يعيشون على هامش الحياة المدنية".
وشدّد جيدل، في تصريحات خاصة لـ"عربي21"، على أن "التقرير الفرنسي مُسيّس ومبني على أوهام اليمين المتطرف، وهو نتاج رؤية مشوشة وقاصرة عن فهم حقيقي للإسلام والمسلمين في فرنسا، ويكشف قلقا حقيقيا لدى السلطات الفرنسية من صعود المسلمين -وليس جماعة الإخوان أو الإسلام السياسي- كمكوّن وازن في المجتمع الفرنسي والأوروبي".
وأوضح أن "التقرير الذي جاء بعنوان (الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا)، وأعدّته وزارة الداخلية الفرنسية، يفتقر إلى العمق المعرفي والتحليل الواقعي للظاهرة الإسلامية"، منوها إلى أن "التقرير أثار الكثير من الحبر والقليل من الحقيقة، لأنه قائم على مزيج من التناقضات والتحامل والخلط المفاهيمي، ما يكشف عن قصر نظر رسمي وفهم سطحي للإسلام والمسلمين في فرنسا".
ولفت جيدل إلى أن "بعض وسائل الإعلام الفرنسية مثل صحيفة لوموند وموقع ميديا بارت الفرنسيين قدّما تغطية نقدية متقدمة كشفت هشاشة البناء التحليلي لهذا التقرير الذي قدّم خطابا مضطربا يكشف ضعفا بنيويا في مقاربة الظاهرة الإسلامية في السياق الفرنسي، واستندا في ذلك إلى آراء خبراء ومختصين".
مخاوف من ظهور المسلمين كقوة انتخابية وازنة
ونوّه الباحث السياسي المُقيم في فرنسا منذ نحو 38 عاما، إلى أن "منطلقات التقرير الفكرية والنفسية والسياسية هي بيت القصيد؛ إذ تكشف بوضوح أن نجاح المسلمين المتصاعد في المجتمع الفرنسي خلال السنوات الأخيرة، وبلوغهم مراتب اجتماعية واقتصادية مؤثرة، أصبح يُنظر إليه كخطر وجودي من قِبل دوائر سياسية وإعلامية ترى في هذا الصعود تهديدا للهويّة الفرنسية التقليدية".
وأوضح: "لم يعد المسلم في فرنسا ذلك العامل البسيط الذي يبدأ يومه باكرا وينهيه في المساء ليُعيد روتينه دون تفاعل مع المجتمع. المسلم اليوم هو الطبيب الماهر، المهندس المبدع، الأكاديمي اللامع، رجل الأعمال الناجح، والمثقف الذي يخوض النقاشات العامة دون أن يخفي هويته الإسلامية، بل يعتز بها".
وأردف: "لقد أصبح المسلم الفرنسي اليوم -لغة وسلوكا وثقافة- جزءا لا يتجزأ من المجتمع، يشاطر بقية المواطنين الفضاءات والنقاشات والمسؤوليات، وأحيانا يسبقهم في الإنجاز والالتزام"، مشيرا إلى أن "هذا التمازج جعل من المسلمين كتلة اجتماعية متميزة، لافتة للأنظار، ومثيرة لحفيظة الساسة وتجار الكراهية، لا لشيء سوى لأن النجاح يوقظ الأحقاد والتمايز يلد الوساوس".
وأشار جيدل إلى أن "استقلال المسلمين ماديا، وابتعادهم عن التمويل الخارجي لبناء مساجدهم ومدارسهم، زاد من ارتباك الدولة العميقة في فرنسا؛ إذ أصبحوا يُشكّلون مكونا ناضجا قادرا على التنظيم الذاتي وتحديد أولوياته بمعزل عن حكومات الخليج أو دول المنشأ، وهو ما يهدد التوازنات التقليدية التي تفضل التحكم عبر التمويل".
وأكد الباحث السياسي أن "هذه الدينامية الاجتماعية المتصاعدة تحمل في طياتها إمكانية تحوّل المسلمين إلى قوة سياسية انتخابية، قادرة على ترجيح الكفة في مواعيد انتخابية مقبلة، بل وربما إيصال عدد منهم إلى مراكز القرار العليا".
واستشهد بالانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2022، قائلا: "لقد كانت ناقوس خطر حقيقي، حيث اقترب مرشح حزب (فرنسا الأبية)، جان لوك ميلونشون، المدافع عن حقوق المهاجرين والمسلمين، من الوصول إلى الدور الثاني، بفارق بضع مئات الآلاف من الأصوات فقط، حتى وُصم بأنه يساري إسلامي".
غزة أعادت المسلمين إلى السياسة
ورأى جيدل أن "العدوان الإسرائيلي على غزة كان لحظة فارقة في الوعي السياسي للمسلمين في فرنسا، بل أعادهم إلى الساحة السياسية من باب إنساني وأخلاقي"، مشيرا إلى "مشاركة واسعة في المظاهرات، وتنظيم حملات إغاثة، وخوض معركة إعلامية حقيقية ضد السرديات الصهيونية على المنصات الفرنسية ومواقع التواصل الاجتماعي".
واستطرد قائلا: "ما حدث هو انخراط حقيقي في الفضاء المدني والسياسي، ونسج علاقات عمل وتحالف مع ناشطين غير مسلمين مناصرِين لغزة، مما أسّس لظهور كتلة ناخبة جديدة قد تتبلور حول القضايا الإنسانية، وتضع المسلم الفرنسي في قلب المعادلة الوطنية".
وأكد أن "غزة أصبحت عند قطاع واسع من الشباب الفرنسي رمزا لقضية إنسانية عابرة للعرق والدين والجنسية، وأن كثيرين أعادوا اكتشاف السياسة من بوابة المظالم العالمية، وكان للقضية الفلسطينية النصيب الأوفر في إعادة إحياء الضمير الجمعي في فرنسا".
وفي رده على الربط الممنهج بين هذه الدينامية المجتمعية والصعود السياسي بالإخوان المسلمين، قال جيدل: "ما دخل الإخوان بكل هذا؟، إنها ببساطة الحبكة السياسية الكلاسيكية التي تعيد إنتاج الأسطورة القديمة بأن الإسلام السياسي تنظيم سرطاني يتسلل بهدوء إلى جسد الدولة الحديثة ليختطفها من الداخل، بينما هذا خطاب مأزوم، هدفه تأجيج مشاعر الخوف لا أكثر".
تقرير مدفوع بالهلع لا البحث
وأوضح أن "التقرير يستند إلى فرضية مفادها أن انتشار الإسلام في فرنسا لا بد أن يكون خلفه تنظيم دولي خفي مُنسّق، يمتلك الفكر والمال والاستراتيجية، وهنا تبرز –عمدا– جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها العنوان المريح لهذا القلق الجماعي المُفتعل"، مضيفا أن هذه الرواية "جاهزة للاستثمار الانتخابي، خاصة في ظل التنافس المحموم على أصوات اليمين واليمين المتطرف".
وأشار إلى أن "دولا عربية كالإمارات والسعودية ومصر مارست ضغطا طويل الأمد على فرنسا من أجل شيطنة النشاط الإسلامي المدني، عبر الزجّ بالإخوان في كل اتهام، بل طالبت الإمارات تحديدا منذ سنوات بوقف تمدد المساجد والمدارس الإسلامية، بحجة أنها تُشكّل بيئة خصبة للإخوان، في سياق حملة ممنهجة ممتدة داخل أوروبا".
وشدّد الباحث السياسي على أن "ما جاء في التقرير لا يُعبّر عن دراسة علمية جادة، بل عن هلع مؤسساتي من تحوّلات لم تكن متوقعة في موقع المسلمين داخل المجتمع الفرنسي".
وتابع: "ما يجري ليس نقاشا فكريا حرا، ولا بحثا موضوعيا نزيها، بل توظيف سياسي فاضح، يسعى لشيطنة المسلمين في فرنسا وربطهم بمنظومات تنظيمية خارجية، لا لشيء سوى لأنهم نجحوا في أن يكونوا جزءا فاعلا من هذا المجتمع، دون أن يتخلوا عن هويتهم، كما يُراد به ضرب التنوع وقمع التعبير الديني الحر، خاصة عندما يرتبط بهوية إسلامية ناجحة ومتماسكة".
جدل واسع
يُشار إلى أن التقرير الحكومي الفرنسي أثار جدلا واسعا على المستويين السياسي والديني، خاصة بعد عرضه قبل أيام في اجتماع مجلس الدفاع والأمن القومي برئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون الذي أبدى امتعاضه من تداعياته على صورة فرنسا وعلاقتها المميزة بالعالم الإسلامي.
وأردف جيدل قائلا: "ربما يكون ماكرون قد تفطّن إلى خطورة الزجّ بالإسلام والمسلمين في قلب التجاذبات السياسية، تمهيدا لرئاسيات 2027، لما قد ينطوي عليه ذلك من نتائج عكسية تقوّض الهدف الذي أراده محرّرو التقرير، الموجّه أصلا بإيعازات من وزير الداخلية ذو الطموح السياسي والمعادي للمسلمين؛ فقد حذّر أكاديميون مختصون وسياسيون فرنسيون من الانقسامات المجتمعية العميقة التي قد تُحدثها محاولات تأليب الفرنسيين ضد وجود الإسلام ودور المسلمين، في وقت تحتاج فيه فرنسا، التي تخوض معركة نفوذ ووجود على الساحة الدولية، إلى وحدة الصف الداخلي بكل مكوّناته وفئاته وطوائفه المتعددة".
وتابع: "قد يؤدّي هذا التحامل الرسمي إلى نتيجة معاكسة تماما، تتمثّل في انخراط أوسع للمسلمين في العمل السياسي واصطفافهم خلف مرشح يدافع عنهم، سواء كان من اليسار كجان لوك ميلونشون، أو من اليمين الديغولي المعتدل (نسبة لشارل ديغول مهندس الجمهورية الفرنسية الخامسة)، على غرار رئيس الوزراء الأسبق دومينيك دو فيلبان. وهذا الاصطفاف المحتمل قد يكون له تأثير ملموس على المعادلة الانتخابية القادمة، خاصة إذا ما تزامن مع تعبئة جماهيرية واعية تعي حقوقها وتسعى لحمايتها".
وأضاف: "من المرجح أن هذه المخاوف من ارتداد السحر على الساحر هي ما دفعت وزير الداخلية الفرنسي إلى تخفيف لهجته مؤخرا، خاصة في ظل المجازر المُرتكبة في غزة، والتي أجبرت حتى بعض المتعاطفين مع الصهيونية على التحرك لوقف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين. وقد تكون هذه المأساة وقودا سياسيا يشعل جذوة تقارب المسلمين مع الإنسانيين من الفرنسيين (المنفتحين وغير العنصريين)، لا سيما في أوساط الشباب، ما قد يُحدث فارقا في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة".
وختم بالقول: "من المرجح أن تكون الانتخابات المحلية لعام 2026 محطة أولى لصقل هذا الاندفاع السياسي المحموم، استعدادا لرئاسيات 2027 التي قد تعيد تشكيل وجه الجمهورية الفرنسية".