مقدمة الترجمة:

في مقاله المنشور بمجلة "ذي أتلانتيك"، يحلل داران أندرسون التوجهات الجديدة في الحروب الحضرية، وكيف تمثل هذه الحروب التي تخاض داخل المدن تحديا للجيوش الغازية وكارثة للمدنيين على السواء. ويجادل أندرسون أن تطور التقنيات العسكرية لم يفعل شيئا سوى أنه جعل الحروب أكثر قسوة، وزاد من وتيرة الرعب وأعداد الضحايا، منوها إلى الطريقة التي تتحول بها الحرب إلى وسيلة لتحقيق أغراض الساسة، وربما جني الأموال لجهات بعينها.

 

نص الترجمة:

يمكن الفوز بالحروب عن طريق كسر معنويات العدو إلى أن تنهار قدرته على المقاومة. في العراق على سبيل المثال، تبنَّت القوات العسكرية الأميركية عقيدة عسكرية تُسمى "الصدمة والترويع"، وتُعرف أيضا باسم "الهيمنة السريعة"، وأظهرت خلال حربها في ذلك الوقت قوة ساحقة باستخدام التكنولوجيا والاستخبارات المتفوقة. وكان ما تبنَّته في الحقيقة مصطلحا جديدا لنهج قديم أشار إليه الجنرال الصيني والخبير العسكري سون تزو في كتابه فن الحرب الذي خطه قبل الميلاد بعدة قرون: "اجعل خططك مُظلمة وعصية على الاختراق كما الليل، وعند التنفيذ انقضَّ كالصاعقة. اضرب عدوك فجأة وبوحشية، انتهج عنصر المفاجأة لبث البلبلة بين صفوفهم وحثهم على الاستسلام ومن ثم الانسحاب، أو لتنفيذ عمليات الإبادة".

 

لعبت تقنيات الهجوم السريع والمفاجئ التي استخدمها النظام النازي في الحرب العالمية الثانية والمعروفة باسم "Blitzkrieg"، التي تعني بالألمانية "الحرب الخاطفة" أو "حرب البرق"، دورا مهما في ذلك الوقت. فقد لاحظ الجنرال الألماني هاينز جوديريان أن القدرة على التحرك بسرعة والوصول إلى المواقع المستهدفة هي جزء أساسي من تقنيات الهجوم السريع، فمحرك الدبابة هو سلاح لا يقل أهمية عن المدفع الرئيسي لها، وهذا يعكس فكرة أن الدبابة لا تعتمد فقط على المدفع الرئيسي لتحقيق الهجوم القوي، بل تعتمد أيضا على قوة وقدرة المحرك للانطلاق بسرعة.

 

سحق الأعصاب ستجلب تقنيات الحرب التكنولوجية التي ستُستخدم للهيمنة والتدمير المزيد من الصراعات الشرسة التي لا هوادة فيها إلى المدن، وستزداد حصيلة الضحايا وتعم الفوضى ويسود الخوف. (الصورة: الفرنسية)

بالإضافة إلى ذلك، استخدمت القوات الألمانية صفارات إنذار مُعَلَّقة على طائرات من طراز "Luftwaffe" أثناء الغارات الجوية على المدن. لم تكن غايتها من ذلك كله هو سحق المباني فحسب، بل كانت تهدف إلى إثارة الذعر بين السكان وتحطيم أعصابهم بهذه الصفارات لدرجة ألا تعرف السكينة سبيلا إلى نفوسهم. قد يبدو الأثر المرعب للحروب أكثر ترقبا أو تخفيا في وقتنا الحالي، لكن هذا التأثير الصامت أشد فتكا على المدنيين (جرّاء مشاعر الخوف والاضطراب المتفشية بين الناس دون أن يكون هناك ضجيج أو إشعار واضح بالتهديد). لعل ذلك كله نابع في الأصل من تطور التكنولوجيا الحديثة في الحروب بسرعة هائلة في وقتنا الحالي، وقريبا ستصبح الصواريخ التي تمطر من السماء فائقة السرعة بحيث تتجاوز سرعة الصوت بخمس مرات، فيغدو من الصعب الكشف عنها والتصدي لها بفعالية.

 

صحيح أن الحرب تغيّرت، لكنها ما زالت تحمل بين طياتها الجوهر ذاته. فجذور الحروب المستقبلية موجودة بالفعل، وتتمثل في السياسات والطموحات، والمنافسات والموارد، والطمع والمظالم. كما أن تقنيات الحرب التي ستُستخدم للهيمنة والتدمير موجودة بالفعل أو قيد التطوير، وستجلب هذه التكنولوجيا المزيد من الصراعات الشرسة التي لا هوادة فيها إلى المدن، وستزداد حصيلة الضحايا وتعم الفوضى ويسود الخوف. ندرك أن الحرب دائما سيئة، ولكنها ستصبح أسوأ بكثير في المستقبل.

 

ستستمر الحروب العسكرية المدعومة من قِبل أطراف خارجية والحروب الأهلية في التغلغل والانتشار. وعلى هوامش القوى السياسية الكبرى التي تتنافس على الهيمنة العالمية، تنشب صراعات إقليمية ودولية تتأثر بتدخلات هذه القوى وتتسبب في تصعيد الصراعات وتفاقم الأزمات. لقد نجا الكوكب بالفعل من أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، والإنذار السوفيتي الكاذب في عام 1983 (حينما تلقى أحد الضباط الروس إنذارا خاطئا بوجود هجوم صاروخي نووي أميركي قادم نحو الاتحاد السوفيتي. واعتُبرتْ هذه الحادثة أحد أكثر الأوقات توترا في الحرب الباردة بسبب المخاوف من اندلاع صراع نووي بين القوتين).

لقد نجت البشرية بأعجوبة أيضا من حادثة الصواريخ النووية النرويجية "بلاك برانت" (Black Brant) (التي تسببت في حالة من الهلع والذعر في العديد من الدول، وتبين فيما بعد أن هذه الصواريخ كانت لأبحاث علمية لا لأغراض عسكرية). صحيح أننا نجونا من ذلك كله، لكن في نهاية المطاف قد ينفد حظنا، وعندما يحدث ذلك، ستسقط المدن على الأرجح فريسة لهذه الحروب وتتحول إلى مراكز للدمار.

 

المشكلة أن نزوح السكان إلى المناطق الحضرية يزداد بشراسة وفقا للأمم المتحدة التي تشير إلى ارتفاع عدد سكان المدن في العالم من 746 مليون نسمة في عام 1950 إلى 4.2 مليارات نسمة في عام 2018 (وما زالت تتوقع زيادة إجمالية بمقدار 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050). وبالتالي فإن السيطرة على دولة بات يعني السيطرة على مراكزها السكانية المأهولة بالمدنيين. وفي وقتنا الحالي، ثمة أسباب تشير إلى أن الحروب القادمة ستصبح أشد فتكا. فرغم أن الضربات الدقيقة على الأهداف العسكرية قد تبدو أسهل في التنفيذ مع تزايد دقة أنظمة الأسلحة بفضل تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية، فإن تاريخ "القنابل الذكية" المُشبّعة بالدماء يُظهر أنها ذكية فقط بقدر الذكاء المستخدم في تنفيذها، بمعنى أن فعالية ودقة هذه الأسلحة تعتمد في الأساس على جودة وكفاءة المعلومات والاستخبارات المتاحة للقوات المشاركة في استخدامها.

 

في بعض الأحيان، قد تخطئ الأسلحة الذكية -كالقنابل الموجهة بالليزر- هدفها رغم تطور تكنولوجيا هذه الأسلحة، وأكبر دليل على ذلك هي الحوادث التي وقعت في العراق وأفغانستان. في عام 1991، اخترقت الصواريخ الموجهة بالليزر مأوى القنابل بمدينة العامرية في العراق عبر فتحة تهوية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 400 مدني، في حين دمرت غارة جوية في عام 2008 حفل زفاف في قرية حسكة مينا بأفغانستان، وعلى الأرجح ستتلمس مثل هذه "الانحرافات" طريقها نحو الازدياد في المستقبل.

 

استهداف المدنيين

من المعروف أن إستراتيجية "الضربة المزدوجة"، وهي شن ضربة عسكرية واحدة تليها سريعا ضربة ثانية تستهدف فرق الإنقاذ والكوادر الطبية، تميل إليها القوات الغاشمة في الحروب. وتسحق هذه الإستراتيجية الروح المعنوية للمدنيين، وتقوّض قدرتهم على النجاة والتعافي. وفي ظل غياب أي ردود فعل قوية لردع هذه الهجمات، قد تتخلى القوات العسكرية بسهولة عن محاولة الابتعاد عن استهداف المدنيين. وقد حدث ذلك بالفعل أثناء القصف الروسي على أجزاء من مدن سورية (وكما يحدث حاليا من قصف إسرائيلي عنيف ومستمر على المدنيين في قطاع غزة)*.

 

حتى الهجوم العسكري الذي يستهدف البنية التحتية بدلا من المدنيين يخلِّف وراءه عالما رازحا تحت وطأة المآسي والمعاناة. فتدمير المطارات والجسور، وتعطيل محطات الطاقة وشبكات الاتصال سيفكك وتيرة الحياة اليومية، ناهيك بأثر هذه الحروب على نفسية الأطفال الذين أُجبروا على العيش داخل الأقبية والتعرض لأصوات القصف والارتجاجات الناجمة عنه، والانعزال عن النظم الاجتماعية والتعليم والصرف الصحي المناسب، ومواجهة نقص الغذاء والرعاية الطبية. يواجه المدنيون وحدهم ذلك كله بجانب المخاوف التي تداهمهم من احتمالية قصفهم بالقنابل العنقودية (التي ما زالت تقتل وتشوه المدنيين في جنوب شرق آسيا بعد عقود من استخدامها)، فضلا عن الأسلحة الكيميائية القابعة بين الأنقاض والحطام التي يلعب فيها الأطفال.

 

على الجانب الآخر، أدى الخوف من الحروب الحضرية إلى تغيير تصميم المدن بالفعل، كأن يتمتع بعضها بمترو أنفاق تحت الأرض حيث يمكن للناس اللجوء إليه ملاذا آمنا في أوقات الحرب. افتخرتْ على سبيل المثال دولة أوزبكستان التي تقع في وسط قارة آسيا بعاصمتها طشقند المسلحة بأبواب خاصة قادرة على حماية المدينة من تأثيرات الانفجار النووي وتسرب إشعاعه. وفي بكين، تقبع مدينة كاملة تُسمى ديكسيا تشنغ تحت الأرض لتوفير مأوى آمن للسكان خوفا من اندلاع حرب نووية بين الصين والاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، وتتميز هذه المدينة بقدرتها على إيواء ملايين الأشخاص. وخلال الحرب العالمية الثانية، قررتْ سويسرا بناء ما يكفي من ملاجئ ليهرع إليها جميع السكان، إلى جانب تصميم بنية تحتية خاصة لتنفجر بمجرد أن تطأ قدم العدو أراضيها، وذلك كله لمنع الأخير من الاستفادة منها أو استخدامها ضدهم.

 

ومع ذلك، لا يمكن تخيل حجم التأثير النفسي الذي قد يُحدثه التهديد العسكري على المدن وسكانها، فالإجراءات المُتاحة للسكان في حالة شن هجوم على المدينة تكون عشوائية وغير فعالة. فقد يلجأ البعض إلى حفر مخابئ سريعة وغير آمنة، بينما يهرع معظم السكان إلى مخيمات اللاجئين، أو يستقرون في الغرف الداخلية للمباني، متجنبين النوافذ وضوء النهار ومتخفيين في الظلال لتجنب الكشف عنهم.

 

مخاطر الحرب الحضرية دائما ما تواجه قوات الغزو أو الاحتلال مخاوف بشأن الهجوم البري والتسلل إلى داخل المدينة، لأنهم يخشون من مقاومة الطرف الآخر وهجماته التي تأتي عادة من أماكن مظلمة وضيقة. (الصورة: رويترز)

ولتقليل نسبة الغموض والنتائج غير المؤكدة بشأن الحروب، تتلقى الجيوش العسكرية الآن تدريبات على مدن وهمية مُصمَّمة خصوصا لهذا الغرض قبل فترة طويلة من المواجهة الحقيقية. فمثلا صَمَّمت الصين نسخة طبق الأصل من مدينة تايبيه، عاصمة تايوان، لاستخدامها في تدريبات عسكرية والاستعداد لاقتحامها فيما بعد. بينما يتدرب الجيش الألماني على محاكاة الحرب الأهلية في مستوطنة شنوغرسبورغ الاصطناعية لتقديم بيئة واقعية للتدريب العسكري. فيما صمَّم الأميركيون مدينة وهمية في صحراء موهافي بالولايات المتحدة تشبه المدن الأفغانية وأطلقوا عليها اسم "إرتبات شار"، واستخدموها موقعا لتدريب القوات الأميركية على التعامل مع سيناريوهات الحروب الحضرية والقتال في بيئة حضرية مُعقدة. وإحدى المفارقات العجيبة أنه في الوقت الذي تنهار فيه البنية التحتية للمدن الحقيقية، تبني الحكومات على الجانب الآخر مدنا وهمية من أجل تدميرها.

 

تلعب البيانات والتكنولوجيا الذكية دورا في تسهيل عمليات القتال في المدن الكبيرة، إذ تُمكِّن الطيارين العسكريين من رؤية المشهد أسفلهم عبر نظارات الواقع المعزز التي تزودهم بأحدث المعلومات والتعليمات اللازمة. وبالفعل، تُستغل التقنيات الاجتماعية التي يعتبرها البعض بريئة على نحو خبيث في أغراض القتل والعنف. فقبل وأثناء الإبادة الجماعية في رواندا على يد الميليشيات المتطرفة هناك، استمرت بعض محطات التلفزيون والراديو في بث الشكوك والمؤامرات في نفوس السكان وتحريضهم على العنف. وأثناء استهداف الجيش للروهينغا، وهي أقلية مسلمة في ميانمار التي تقع في جنوب شرق آسيا، استغل الناس منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك للتحريض على الكراهية ضد هؤلاء الأقلية.

 

صحيح أن التقدم في مجال تقنيات التعرف على الوجوه والمراقبة قد يساعد في الفصل بين هوية الأشخاص المُستهدفين وهوية الأبرياء، لكنَّ هذا التقدم سلاح ذو حدين، فقد يستهدف فئات عِرقية مُحددة مما يسهل قمعها أو تصعيد الأمور معها إلى أسوأ من ذلك. وتساعد هذه التكنولوجيا بالفعل في زيادة قمع واضطهاد المسلمين في المعتقلات الصينية، كما تساهم في تعزيز نظام الائتمان الاجتماعي في الصين الذي يراقب سلوك الأفراد ويقيّمهم بناء على سلوكهم ومواقفهم الاجتماعية، وهو ما يعبِّد السبيل أمام استخدام المعلومات التفصيلية لخدمة الصراعات بين البشر.

قوات الغزو باتت مسلحة بما هو أكثر من قاذفات اللهب، فقد أصبح بحوزتهم تقنيات السونار، بجانب الطائرات المسيَّرة لوضع خرائط ثلاثية الأبعاد للمواقع التي تُحلِّق فوقها. (الصورة: رويترز)

رغم كل هذه التطورات التكنولوجية، فإن القتال على مستوى الشوارع والانتقال من مبنى إلى مبنى ومن غرفة إلى غرفة يستمر في تكبيد القوات العسكرية تكاليف باهظة. يحاول الجنود أثناء الحروب الحضرية تجنب الطرق التقليدية، ويؤمنون أن خير وسيلة هي اللجوء إلى تقنية "ماوس هولينغ" (mouse-holing) أو ثقب الفئران، وهي استخدام القوة المتفجرة لإنشاء ثقوب في الجدران أو الحواجز الموجودة بين المباني واستغلالها بوصفها ممرات للتنقل بين المباني دون الحاجة إلى استخدام المداخل الرئيسية التي قد تكون محمية بشكل أقوى.

 

لكن دائما ما تواجه قوات الغزو أو الاحتلال مخاوف بشأن الهجوم البري والتسلل إلى داخل المدينة، لأنهم يخشون من مقاومة الطرف الآخر وهجماته التي تأتي عادة من أماكن مظلمة وضيقة كالأنفاق والصرف الصحي وغيرها، وهو ما يجعل الوضع أكثر تعقيدا بالنسبة إليهم. في حرب فيتنام على سبيل المثال، كان الجنود الأميركيون يصفون أنفاق الفيتكونغ التي تقع في منطقة كو تشي بجنوب فيتنام (واعتُبرت نموذجا للتكتيك العسكري والمقاومة الشعبية في تلك الحقبة) بتعبير يطغى عليه طابع الرعب، فقد كانوا يصفونها بـ"صدى الظلام".

 

لكن قوات الغزو باتت مسلحة الآن بما هو أكثر من مجرد قاذفات لهب تُستخدم من مسافة قريبة، فقد أصبح بحوزتها الآن تقنيات السونار (لاكتشاف وتحديد الكائنات الموجودة في البيئة المحيطة وذلك بتحويل الإشارات إلى صور ثلاثية الأبعاد أو تمثيلات صوتية للمعلومات التي استقبلوها)، بجانب طائرة مسيَّرة لوضع خرائط ثلاثية الأبعاد للمواقع التي تُحلِّق فوقها ويخشى الجنود أن يخطوها.

 

تُستَخدم بعض التكنولوجيات العسكرية فقط لحماية القوات العسكرية واستعادة الثقة في نفوسها عند دخولها إلى الأراضي التي ترغب في غزوها. ومن ضمن هذه التكنولوجيا تركيب أجهزة على المركبات للكشف عن وجود قناصة أو أعداء محتملين، أو ارتداء الجنود هياكل خارجية معززة (exoskeletons) لزيادة القوة والقدرة على الحركة، أو دروع واقية مصنوعة من مادة الغرافين التي تتميز بقدرتها على امتصاص الصدمات وتحمل الضغط، بجانب خفة وزنها التي تساعد على تسهيل حركة الأفراد وتقليل التعرض للأذى. وقد يصنعون في المستقبل رصاصات قادرة على التوجه ذاتيا، أو يقودون دبابات مصنوعة من مادة تتألف من مزيج من المعادن والمواد المرنة، لصناعة هياكل خفيفة الوزن ومتينة، ومن المفترض أنها لا تُقهَر.

 

بديلا أكثر أمانا لازال هناك جدلا حول الأخلاقيات المتعلِّقة بالحروب التي تُخاض بالرّوبوتات، لدرجة أن المسألة أدت إلى حملة معاصرة لوقف الروبوتات القاتلة. (الصورة: رويترز)

نظرا للمخاطر المترتبة على دخول القوات العسكرية المدن والالتحام المباشر بأهلها على الأرض، فإن الطائرات المسيّرة ( بدون طيار) توفر بديلا أكثر أمانا بالنسبة إليهم، إذ يمكن استخدامها تحت الماء لتنفيذ مهام المراقبة والاستطلاع في المدن الساحلية. أما أسراب الدرونز التي تلتهم كل شيء في طريقها كالطاعون فهي موضوع آخر للحرب النفسية. في ظروف كهذه، يسري القلق والتوتر في أوصال المجتمع ويشيع الشعور بالهلع، فالسماء التي تبدو خالية من الروبوتات والطائرات، قد تحمل في أية لحظة تهديدات غير مرئية، فضلا عن الروبوتات البرية القادرة على بث الرعب في قلوب المدنيين أثناء جمعها للمعلومات وسط ضبابية وفوضى الاضطراب الذي تخلِّفه وراءها.

 

إن وجود مشرف بشري في عملية تشغيل هذه الأسلحة الذاتية لن يوفر الطمأنينة الكافية للمواطنين الذين سيشاهدونها وهي تتجول في الشوارع بصورة ميكانيكية وكأنها كائنات حية، كالكلاب أو القردة أو البشر (وهو ما قد يؤجج الشعور بالغرابة وعدم الراحة فيما يتعلق بتلك الأنظمة الأوتوماتيكية).

 

ما زال هناك جدل يحوم على غير هدى حول الأخلاقيات المتعلِّقة بالحروب التي تُخاض بالروبوتات، لدرجة أن المسألة أدت إلى حملة معاصرة لوقف الروبوتات القاتلة، وقد وقَّع عليها قبل ذلك ستيفن هوكينغ وإيلون ماسك، بينما يطالب باحثون آخرون بضرورة المُضي قُدما فيما يتعلق بمجال الجنود الآليين للتفوق على الخصوم الآخرين أو من يعتبرونهم "أشرارا". وعلى الأرجح لم تُطبَّق تشريعات دولية في هذا الصدد لأسباب متعددة، منها استمرار سباق التسلح والربحية المرتبطة به، بالإضافة إلى وجود منطقة غامضة أو مشوشة حول ما يُعد بالضبط "روبوتا قاتلا" نظرا لاستخدام أنظمة الأسلحة الآلية بالفعل في المواقع الدفاعية.

في أثناء الحروب الحضرية، ينفِّذ عملاء الدول عمليات اختراق وتخريب للبنية التحتية الحيوية للمدن. (الصورة: رويترز)

أما السبب الثالث فيتمحور حول سهولة تصوير الروبوتات الحربية على أنها نتيجة للتقدم البشري، بافتراض أنها ستحل محل الجنود وبالتالي ستعفيهم من الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الناجم عن العمليات الفوضوية التي تفرضها الحروب، فضلا عن كونها لن تحتاج إلى طعام أو نوم، ولن يقتلها الشعور بالذنب أو الندم الذي يأكل البشر. ومع ذلك، فإن استبدال الروبوتات الحربية بالجنود البشرية وافتراض أن هذا هو التقدم الإنساني قد يكون خطأ فادحا.

 

فعندما يعاني البشر من صدمة نفسية بعد تجربة مروِّعة في الحرب، فتلك رسالة تحذيرية من العقل لتنبيه الفرد بأن هذه التجربة التي يخوض غمارها الآن غير طبيعية تماما وثمة شيء خاطئ بالتأكيد. في المقابل، فإن استخدام الروبوتات الحربية لا يمكن أن يحقق مثل هذه الرسالة التحذيرية التي ترسلها الصدمات النفسية للبشر، لذا يتمتع الجانب الإنساني والتجربة الشخصية للجنود بأبعاد أخرى لا يمكن تعويضها بالتكنولوجيا الحديثة.

 

إن الصراعات المستقبلية تضرب بجذورها بعمق في حاضرنا الآن. وهذه الجذور كما نرى تتمثل في الصراعات التجارية والنزاعات الإقليمية، ومحاولات الاستيلاء على الموارد الطبيعية. على الجانب الآخر، تتعرض المؤسسات الدولية التي تعمل على تعزيز التنمية والاستقرار للتقويض بسبب تصرفات الدول التي تتبنى مواقف استغلالية لمصالحها الخاصة. وفي أثناء الحروب الحضرية، ينفِّذ عملاء الدول عمليات اختراق وتخريب للبنية التحتية الحيوية للمدن (عن طريق استهداف الأنظمة الحديثة المتصلة بالإنترنت، مثل الشبكات الكهربائية والماء والنقل والاتصالات، لزعزعة استقرار السكان وتعطيل الخدمات الحيوية).

 

ولأن تقنيات المدينة الذكية والتطورات التكنولوجية الحديثة أدت إلى تحول المدن إلى مجموعة من الأنظمة المتصلة والمتكاملة، فإن أي معركة أو صراع قد يحدث في هذه المدن سيُخلِّف وراءه تأثيرا مدمرا على المدينة وسكانها. وفي الوقت ذاته، قد تُستخدم التكنولوجيا لأغراض التضليل، وأقرب مثال على ذلك هي حملات المعلومات السياسية المُضللة التي باتت متفشية عبر الإنترنت مع تحول تقنية الخداع والتمويه العسكري الروسي المعروفة باسم "maskirovka" إلى تقنية رقمية لنشر أخبار كاذبة بغرض التأثير في الرأي العام وتشويش الحقائق والتلاعب بالمعلومات السياسية.

 

ركائز أساسية للسلام

أشار معهد الاقتصاد والسلام بأستراليا إلى ثماني ركائز أساسية لما يسميه "السلام الإيجابي" (positive peace)، ويتحقق هذا السلام فقط في ظل وجود حكومة فعالة تعمل على نحو جيد، وتوزيع عادل للموارد، والتدفق الحر للمعلومات، وعلاقات جيدة مع دول الجوار، بالإضافة إلى وجود مستويات عالية من المهارات والقدرات الإبداعية التي يمكن استغلالها في تعزيز النمو الاقتصادي، وقبول حقوق الآخرين، فضلا عن انخفاض مستويات الفساد، وأخيرا ضرورة توفير بيئات عمل صحية ومناسبة.

 

على الجانب المقابل، فإن غياب مثل هذه الركائز أو هشاشتها يُعد عائقا لتحقيق السلام والتنمية الإيجابية. فكارثة التغير المناخي وحدها بدأت بالفعل في تأجيج الصراعات، وحتى محاولات التصدي لهذه الكارثة بدأت في إثارة الحنق والعنف بين الدول. يمكن لأي حدث بسيط أن يُشعل فتيل الصراعات بين الدول، كالاحتلال المفاجئ لجزيرة في بحر الصين الجنوبي، أو سلسلة من الرسومات الجدارية، أو أن يقرر أحد البائعين في الأسواق إشعال النار في نفسه (تعبيرا عن اليأس أو الاحتجاج).

 

رغم أن هذه الحروب قد تحدث بعيدا عن المراكز الحضرية في الغرب، فإن تأثيرها يمتد حتما إلى العالم كله في ظل العولمة التي تحكمه. ومن هذه النقطة يتفجر ما لا يُحمد عقباه، بما يشمل الانهيارات الاقتصادية، وزيادة أعداد اللاجئين، وارتفاع شعبية الأحزاب المتطرفة، فضلا عن استمرار تسليح القوات الشرطية المحلية بالتكنولوجيا العسكرية بلا هوادة. في غضون ذلك، تتجه نحو التخصيص بناء على طلب من المقاولين العسكريين، بتنفيذ المزيد من الخدمات والأنشطة عن طريق شركات خاصة بدلا من الجهات الحكومية. كما تشهد معارض الأسلحة التي تبيع التكنولوجيا للاستخدام المحلي والدولي ازدهارا أثناء الحروب، وهو ما يعكس تغيرا جذريا في طبيعة الحروب التي باتت تستغلها بعض الجهات بوصفها فرصة عظيمة لجني الأموال.

——————————————————————————————

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القوات العسکریة الحروب التی على الجانب هذه الحروب على المدن ت ستخدم فضلا عن مثل هذه وهو ما التی ت فی عام

إقرأ أيضاً:

هل هي “حمى الذهب والمعادن الثمينة” التي تحرك النزاع في السودان.. أم محاربة التطرف الإسلامي؟

بقلم : ديكلان والش

أعادت صحيفة نيويورك تايمز، قبل فترة، نشر تحقيق استقصائي مطول أجراه الصحفي “ديكلان والش”، وأدخل عليه بعض التحديثات، وركز التحقيق الاستقصائي على زاوية “الذهب والمعادن الثمينة” باعتبار التنافس عليها ، بين القوى الخارجية، وأطراف داخلية، هو المحرك الحقيقي للحرب التي دمرت السودان.

وكشف التحقيق الاستقصائي عن مصالح متبادلة بين أطراف متناقضة، لا تلتقي إلا على رعاية المصلحة المرتجاة من عوائد المعدن النفيس، وقد رأينا في موقع “المحقق” الإخباري، أن نستعرض ما جاء في ذلك التحقيق، واخترنا له عنواناً غير الذي اختارته الصحيفة الأمريكية.

ترجمة واستعراض:

محمد عثمان آدم

تحقيق هو من الفرائد عن الذهب السوداني، وكيف أشعل الحرب وفاقم من أوارها ودفع إليها الطامعين من الأقربين في الخليج والجيران والأهل في أفريقيا، والأبعدين في أوروبا، أجراه الصحفي ديكلان والش ونشره في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 11 ديسمبر 2024، وجرى تجديده إثر التطورات التي وقعت في السودان، في 7 فبراير 2025 تحت عنوان “حمى الذهب محرك رئيس لحرب السودان الأهلية” وبعنوان جانبي موح هو: تتلاحق عليه المجاعات والتطهير العرقي ومع ذلك، تزدهر تجارة الذهب، بما يُثري الجنرالات ويزيد من أوار الاقتتال بالسودان”.

وإذا كان السائد والجاري على الألسن هو تورط الكثير من الدول الجارة والبعيدة في الصراع وحرب الوكالة الفاضحة في السودان لأسباب الكيد السياسي ومحاربة الإرهاب والتموضع السياسي الجغرافي فان التحقيق يحاجج بصورة مفصلة أن وراء كل هذا معادن السودان المنبثة في أرجائه جميعاً والتي يتقدمها الذهب آنيا، فالذهب هو المهماز الأول في تحريك هذه الدول – وخاصة الإمارات – ودفعها للتورط في الحرب، وربما أتى بعد ذلك الزراعة ومحاربة الاسلام (سمه ما شئت .. السياسي أو الإخواني أو العنيف)، لكن يظل بريق الذهب وكمياته المهولة التي تتبعها الكاتب هي الأساس.

ويسوق التحقيق الذي أتى على صيغة “المقال القصصي والسردي التحليلي” أحداثاً فردية ثم يربطها جميعاً بتجارة الذهب وتهريبه من السودان، وتظهر من بعد الصورة الجلية للمنغمسين في تجارة الذهب، ويكشف كيف عمل جيران السودان دونما استثناء، إلا القليل منهم – مثل إريتريا – في تجريد لحم السودان وتمزيق نسيج أهله، ما همهم من بعد أي شيء، لكن المقال يؤكد تأكيداً قوياً أن ما يجري في السودان يفوق الدعاوى الشاطحة بأنه حرب بين جنرالين يتصارعان على السلطة في الخرطوم التي أصبحت الآن أثرا بعد عين.

و من يقرأ المقال ربما يفكر مرتين في مسالة محاربة الإماراتيين للتطرف و ربما يصل إلى قناعة بأن وراء كل ذلك الذهب واليورانيوم و ربما معادن أخرى!!

يبدأ المقال القصصي بهذه الصورة:

“هبطت الطائرة الفاخرة في جوبا، عاصمة جنوب السودان، في مهمة لجمع مئات الكيلوجرامات من الذهب الذي جُلب عبر طريقة غير شرعية. وأظهر بيان الرحلة أنه قد كان على متنها ممثلٌ للجماعة شبه العسكرية الفظة و المتهمة بالتطهير العرقي في الحرب الأهلية السودانية البلد مترامي الأطراف. وقد تم تهريب الذهب نفسه من دارفور، وهي منطقة في السودان تجثم على صدرها المجاعة والخوف وتخضع إلى حد كبير لسيطرة تلك الجماعة الوحشية ..

وقال ثلاثة أشخاص على صلة بالصفقة ومُطلعون عليها إن الحمالين الذين قاموا بتعتيل ومناولة الشحنة كانوا يتذمرون وهم يحملون صناديق مليئة بالذهب، بقيمة حوالي 25 مليون دولار، إلى الطائرة. و قد حافظ مسؤولو المطار و في سرية تامة على محيط آمن حول الطائرة، التي نزلت فجأة في المطار الرئيسي لواحدة من أفقر دول العالم. وبعد 90 دقيقة، أقلعت تلك الطائرة مرة أخرى، وهبطت قبل فجر يوم 6 مارس في مطار خاص في الإمارات العربية المتحدة، وفقاً لبيانات ذات الرحلة. وهنا سرعان ما اختفت الحمولة الثمينة للمعدن اللامع في سوق الذهب العالمية.”

و يقول الصحفي الذى عاونه في جمع المادة فريق من الصحفيين و المحللين و الخبراء من داخل و خارج السودان و داخل و خارج القارة الأفريقية أنه كلما زاذ احتراق السودان و جاع أهله، اشتعلت في المقابل حمى كنز الذهب من أرجائه المختلفة.

و يذهب الكاتب في شرح معاناة و احتراق أهل السودان مجازاً و حقيقة إذ يقول “لقد حطمت الحرب اقتصاد السودان، وأدت إلى انهيار نظامه الصحي، وحولت جزءًا كبيرًا من العاصمة التي كانت ذات يوم مصدر فخر إلى أكوام من الأنقاض. كما تسبب القتال في واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود، حيث يواجه 26 مليون شخص الجوع الشديد أو الموت جوعاً …

لكنه رغم ذلك فإن تجارة الذهب تزدهر، فقد تجاوز إنتاج وتجارة الذهب، الموجود في رواسب غنية في جميع أنحاء الدولة الشاسعة، مستويات ما قبل الحرب – وهذا مجرد الرقم الرسمي في بلد يسود فيه التهريب. في الواقع، تتدفق مليارات الدولارات من الذهب من السودان في كل اتجاه تقريباً، مما يُسهم في تحويل منطقة الساحل الأفريقي إلى واحدة من أكبر مُنتجي الذهب في العالم، في وقتٍ تُسجل فيه الأسعار مستوياتٍ قياسية.

ولكن عوضاً عن استخدام هذه الثروات الطائلة لمساعدة جيوش الجوعى والمشردين، تُوظّف الأطراف المتحاربة في السودان الذهب لتمويل حربها، مستخدمةً ما يُطلق عليه خبراء الأمم المتحدة “أساليب التجويع” ضد عشرات الملايين من الناس.

و يشير الصحفي إلى أن هذا الذهب يُساعد في تمويل الطائرات المُسيّرة و المدافع و الأسلحة والصواريخ التي قتلت عشرات الآلاف من المدنيين وأجبرت 11 مليونًا على النزوح من ديارهم.

و يقول هذه الحرب هي “جائزة المقاتلين والمرتزقة المتوحشين الذين نهبوا العديد من البنوك والمنازل حتى أصبحت العاصمة الآن أشبه بمسرح جريمة ضخم، حيث يتباهى المقاتلون باستعراض أكوام من المجوهرات وسبائك الذهب المسروقة على وسائل التواصل الاجتماعي.”

وكان الشعب السوداني يأمل في أن يرفع الذهب من الوضع الاقتصادي للبلد. لكن بدلاً من ذلك، اتضح أنه سبب تدهوره. بل إن يوفر تعليلا وتسبيبا ويفسر ما وراء اندلاع الحرب – ولماذا يصعب إيقافها. واستشهد الكاتب بما قاله الدكتور سليمان علي بلدو خريج الجامعات الفرنسية والخبير السوداني في موارد البلاد: “الذهب يدمر السودان، ويدمر السودانيين” معاً.

و يقول الكاتب الافرنجي عن دقلو : قائد المليشيا “الفريق محمد حمدان، هو تاجر إبل تحول إلى أمير حرب، وقد ازدادت قوة قواته بشكل خاص بعد استيلائه على أحد أكثر مناجم الذهب ربحية في السودان عام 2017، وقال لصحيفة نيويورك تايمز في مقابلة عام 2019، محاولًا التقليل من أهميته: “إنه لا شيء، مجرد منطقة في دارفور تابعة لنا”.

وقد أصبح المنجم حجر الزاوية لإمبراطورية بمليارات الدولارات حوّلت جماعته المسلحة، قوات الدعم السريع، إلى قوة هائلة. باع الجنرال حمدان المنجم لاحقًا للحكومة مقابل 200 مليون دولار، مما ساعده على شراء المزيد من الأسلحة والنفوذ السياسي. لكن هذه الثروة والطموح أديا إلى مواجهة مع الجيش السوداني، مما مهد الطريق للحرب الأهلية التي دمرت البلاد تقريبًا.

اشتدت المعركة على الذهب مع اندلاع الحرب عام 2023. في إحدى هجماته الافتتاحية، “استولى الجنرال حمدان على المنجم الذي باعه للحكومة”. بعد أسابيع، هاجم مقاتلوه مصفاة الذهب الوطنية في العاصمة أيضًا، ونهبوا سبائك ذهب بقيمة 150 مليون دولار، وفقًا للحكومة.

يُحرك الذهب الحرب في الجيش السوداني أيضًا. فقد قصف مناجم قوات الدعم السريع، بينما زاد إنتاج الذهب في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة، غالبًا من خلال دعوة قوى أجنبية للقيام بالتعدين. يتفاوض المسؤولون السودانيون على صفقات أسلحة وذهب مع روسيا، ويسعون إلى استمالة مسؤولي التعدين الصينيين. حتى أنهم يتشاركون منجم ذهب مع قادة خليجيين متهمين بتسليح أعدائهم.

ووفقا للكاتب فان ” الرعاة الأجانب للحرب يلعبون على كلا الجانبين أيضًا.” و لطالما أشاد الرئيس فلاديمير بوتين بتعدين الذهب بواسطة الروس في السودان، وعملت مجموعة فاغنر التابعة لبلاده مع الجيش ومنافسيه حتى قبل خوضهم الحرب.

والآن، وبعد وفاة رئيس فاغنر في حادث تحطم طائرة بعد تمرده القصير ضد القادة العسكريين الروس، استولى الكرملين على أعمال المجموعة، ويبدو أنه يسعى وراء الذهب على جانبي خط المواجهة، بالشراكة مع قوات الدعم السريع في الغرب والجيش الوطني في الشرق.

ويؤكد المقال بأن الإمارات العربية المتحدة تسعر من أوار الحرب مع كلا الجانبين”ففي ساحة المعركة، تدعم قوات الدعم السريع، وتُرسل إليهم طائرات مُسيّرة وصواريخ قوية في عملية سرية تحت ستار مهمة إنسانية. ولكن عندما يتعلق الأمر بالذهب، يُساهم الإماراتيون أيضًا في تمويل الطرف الآخر” !!

ويشير الكاتب إلى أن شركة إماراتية، والتي تربطها صلات بالعائلة المالكة، تمتلك أكبر منجم صناعي في السودان. يقع في منطقة تسيطر عليها الحكومة ويسلم جزءًا كبيرًا من المال لآلة الحرب التابعة للجيش الذي تعاني من ضائقة مالية – وهو مثال آخر على المجموعة المذهلة من التحالفات والتحالفات المضادة التي تغذي الحرب.

و تقول الصحيفة إن دراجات نارية وشاحنات وطائرات تحمل بالذهب من السودان من مختلف الأقاليم و من كل منعطف، لتنقله عبر الحدود التي يسهل اختراقها مع الدول السبع المجاورة للسودان، وفي النهاية، ينتهي الأمر بمعظمه في الإمارات العربية المتحدة، الوجهة الرئيسة للذهب المهرب من السودان، وفقًا لوزارة الخارجية.

على طول الطريق، يأخذ كل واحد من سلسلة متباينة من المستفيدين نصيبه – منهم مجرمون ومن بينهم أمراء حرب ورؤساء جواسيس وجنرالات ومسؤولون فاسدون، وهم تروس اقتصاد حرب متسعة ليوفر لهم حافزًا ماليًا قويًا لاستمرار الصراع، كما يقول الخبراء.

يشبه البعض الآن ذهب السودان بما يسمى بالماس الدموي ومعادن الصراع الأخرى.

قال محمد إبراهيم (مو)، وهو قطب سوداني تعمل مؤسسته على تعزيز الحكم الرشيد: “لإنهاء الحرب، اتبع المال”. يُغذّي الذهب إمدادات الأسلحة، وعلينا الضغط على الأفراد الذين يقفون وراءه. ففي نهاية المطاف، هم تجار موت.

إمبراطورية من الذهب

في منطقة دارفور، التي تعادل مساحتها مساحة إسبانيا، حيث أثارت الإبادة الجماعية غضباً عالمياً قبل عقدين من الزمن، عادت الأهوال تطل برأسها من جديد.

فقد شنّ مقاتلو مليشيا قوات الدعم السريع حملة تطهير عرقي ضد المدنيين، وفرضوا حصارًا قاسيًا على مدينة الفاشر. في خضمّ الاضطرابات، بدأت أول مجاعة في العالم منذ أربع سنوات في مخيم يضمّ 450 ألف مدنيّ مرعوب.

قالت زحل الزين حسين، وهي إمرأة من دارفور تروي اغتصابها الجماعي على يد مقاتلي قوات الدعم السريع العام الماضي: “صرختُ وصرختُ. لكن دون جدوى”.

ومع ذلك، في ركن من دارفور لم تمسّه الحرب إلى حدّ كبير، دأبت قوات الدعم السريع، التي يسيطر مقاتلوها على كل جانب من جوانب تجارة الذهب، على بناء مشروع ضخم وسرّيّ لتعدين الذهب.

وتوسّع هذا المشروع، الذي تبلغ قيمته مئات الملايين سنويًا، بمساعدة مرتزقة فاغنر الروس، وأصبح الوقود المالي لحملة عسكرية اشتهرت بفظائعها.

ليس الذهب وحده بل اليورانيوم والماس

في منطقة السافانا المحيطة بسونغو، وهي بلدة تعدين اقتُطعت من محمية طبيعية، يعمل عشرات الآلاف من عمال المناجم في حُفر رملية في منطقة غنية بالذهب واليورانيوم، وربما الماس. تُوفّر هذه المناجم فرص عمل نادرة، وإن كانت غالبًا ما تكون خطرة، في وقت يشهد انهيارًا اقتصاديًا شبه كامل. لكن قوات الدعم السريع، التي يُسيطر مقاتلوها على كل جانب من جوانب تجارة الذهب، تُحقق ثروة طائلة. وتُعدّ المناجم أحدث فرع من أعمال عائلية ضخمة بدأت قبل الحرب بوقت طويل.

عندما استولى الجنرال حمدان على منجم ذهب رئيسي في دارفور عام 2017، ليصبح فعليًا أكبر تاجر ذهب في السودان بين عشية وضحاها، حوّل الأرباح إلى شبكة تضم ما يصل إلى 50 شركة دفعت ثمن الأسلحة والنفوذ والمقاتلين، وفقًا للأمم المتحدة.

وتضخم حجم قواته شبه العسكرية، وأصبح الجنرال حمدان ثريًا للغاية من الذهب ومن تزويد المرتزقة للحرب في اليمن، لدرجة أنه عرض علنًا التبرع بمبلغ مليار دولار عام 2019 لتحقيق الاستقرار في اقتصاد السودان المتعثر.

تُرسّخ شركة واحدة إمبراطوريته من الأسلحة والذهب. تُدعى هذه الشركة “الجنيد”، وقد فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات العام الماضي، قائلةً إن الذهب أصبح “مصدر دخل حيويًا” للجنرال حمدان ومقاتليه.

مع اجتياح العنف للسودان، ركّزت شركة “الجنيد” على مئات الأميال المربعة حول سونغو، حيث عملت قوات الدعم السريع منذ فترة طويلة بشكل وثيق مع فاغنر.

شهد الإنتاج في جميع أنحاء المنطقة ازدهارًا ملحوظًا، وفقًا لشهود عيان وصور أقمار صناعية ووثائق حصلت عليها صحيفة النيويورك تايمز. وكشف تقرير سري قُدّم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نوفمبر أن ما قيمته 860 مليون دولار من الذهب قد استُخرج من مناجم تسيطر عليها جماعات شبه عسكرية في دارفور هذا العام وحده.

ولا يقوم المقاتلون بالتنقيب بأنفسهم. ففي حوالي 13 موقعًا في أنحاء المنطقة، يعمل عمال مناجم صغار مقابل أجر زهيد. وتسيطر قوات الدعم السريع على كل شيء في هذه المناجم.

رأس بندقية

زار صحفيون سودانيون من موقع “عاين ميديا”، وهو موقع استقصائي، المنطقة هذا العام، وتحدثوا عن مقاتلي قوات الدعم السريع وهم يقومون بدوريات في مصنع للذهب التابع لشركة الجنيد، مع موظفين روس متمركزين خلف أسوار عالية.

كانت مناجم السودان مصدر جذب كبير لشركة فاغنر، كما ذكرت صحيفة التايمز قبل عامين. ومنذ ذلك الحين، تُفصّل وثائق جديدة حصلت عليها التايمز شراكة فاغنر مع قوات الدعم السريع، بما في ذلك خطة للتنقيب عن الماس بالقرب من سونغو.

في رسالة من عام 2021، استشهد مدير شركة الجنيد باسم قائد قوات الدعم السريع، الفريق حمدان، وأشاد بـ”العمل الرائع بيننا وبين الشركة الروسية”، وهو اختصار شائع لشركة فاغنر في السودان.

يتعلق التحالف بالأسلحة والمال على حد سواء. وقد وثّق محققو الأمم المتحدة شحنات صواريخ من فاغنر إلى قوات الدعم السريع.

و يمضي المقال القصصي التحليلي ليشرح أن “سونغو” أصبحت الآن في غاية الأهمية للجنرال حمدان لدرجة أن المناجم أصبحت هدفًا عسكريًا. قصفت القوات الجوية السودانية المنطقة العام الماضي، ثم كررت ذلك في يناير، مما أسفر عن مقتل مدنيين، وفقًا لتقارير إخبارية. ويُظهر مقطع فيديو صُوّر بعد إحدى الغارات أشخاصًا يتدافعون بحثًا عن الأمان بينما تشتعل النيران في مكان قريب.

مليارات الدولارات من الذهب

تمتلك قوات الدعم السريع سوقًا جاهزة لذهبها في الإمارات، حيث تم تهريب 2500 طن من الذهب بطرق غير معلنة من قارة أفريقيا، بقيمة مذهلة تبلغ 115 مليار دولار، بين عامي 2012 و2022، وفقًا لدراسة حديثة أجرتها منظمة المعونة السويسرية، وهي مجموعة تنمية.

كيف يجري نقل الذهب السوداني الى الامارات ؟

قبل الحرب، كان بإمكان الجنرال حميدتي نقل ذهبه جوًا مباشرة إلى الإمارات. لكن مطار السودان الرئيس قد دُمّر في الحرب، ومدرجه أضحى مليئاً بالحفر و الندوب، والمخرج الآخر وهو بورتسودان، قد بات في أيدي الجيش السوداني.

لذلك، اضطرت قوات الدعم السريع إلى إيجاد طرق جديدة عبر الدول المجاورة – كما فعلت في عملية التهريب في وقت سابق من هذا العام، عندما كان الحمالون يحملون صناديق مليئة بالذهب غير المشروع عبر مدرج المطار.

طائرة فاخرة محملة بالذهب

لم تكن الطائرة التي هبطت في جنوب السودان في 5 مارس لنقل ذلك الذهب من النوع المعتاد الذي يستخدمه المهربون في أفريقيا. كانت الطائرة من طراز بومباردييه جلوبال إكسبريس، وهي طائرة أعمال بعيدة المدى من النوع الذي يفضله كبار المديرين التنفيذيين للشركات، ومسجلة في الولايات المتحدة. وكان لطاقمها تاريخٌ مشبوه.

فقبل سبعة أشهر، أُلقي القبض على قائد الطائرة ومضيفتها في زامبيا بعد هبوطهما بطائرة خاصة أخرى بفترة وجيزة. وصادر المحققون الزامبيون الذين داهموا تلك الطائرة خمسة مسدسات، و5.7 مليون دولار نقدًا، و602 سبيكة ذهب مزيفة، مما يشير إلى احتمال وجود عملية احتيال ذهب، على حد قولهم.

على النقيض من ذلك، سارت رحلة نقل ذهب قوات الدعم السريع بسلاسة، ربما لأن الصفقة شملت مجموعة من المسؤولين ذوي النفوذ من دول متعددة ساعدوا في تسهيلها، وفقًا لوثائق الرحلة وثلاثة أشخاص كانوا متورطين في الصفقة أو مطلعين عليها. بعد مغادرة أبوظبي، توقفت طائرة بومباردييه – وعلى متنها نفس الطيار والمضيفة – لفترة وجيزة في أوغندا قبل أن تهبط في جنوب السودان. ورغم أن الطائرة كانت تتسع لـ 15 راكبًا أيضًا، إلا أن اثنين فقط من الركاب مدرجون في بيان حصلت عليه صحيفة التايمز.

قال عدد من المسؤولين والخبراء المطلعين على شبكات أعمال الجماعة شبه العسكرية إن أحدهما كان قريبًا للجنرال حميدتي، وقد عمل سابقًا نيابةً عن مصالح قوات الدعم السريع.

كان الراكب الآخر في البيان ضابط استخبارات كبير في أوغندا، وهي دولة تُعتبر على نطاق واسع مركزًا رئيسيًا لتهريب الذهب الأفريقي. في عام 2022، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على مصفاة ذهب كبيرة بجوار المطار الرئيس في أوغندا، والتي قالت إنها كانت تتعامل مع مئات الملايين من الدولارات من ذهب الصراع سنويًا. وقال جيه آر مايلي، خبير الفساد في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة، عن أوغندا: “إنها مركز غسيل الذهب في أفريقيا”.

وأكد المسؤول الأوغندي الكبير، في اتصال هاتفي، صحة تفاصيل جواز سفره المدرجة في بيان الشحنة، على الرغم من نفيه وجوده على متن الطائرة أو نقله أي ذهب من السودان. لكن الأشخاص الثلاثة المتورطين في الصفقة أو المطلعين عليها قالوا إنه شوهد واقفًا خارج طائرة بومباردييه بينما كان الحمالون يحمّلونها بصناديق من الذهب يصل وزنها الإجمالي إلى 1200 رطل.

جنوب السودان و ذهب السودان

وبدا أن مسؤولين إقليميين آخرين شاركوا في الصفقة أيضًا. وقال أثنان من الأشخاص المطلعين على عملية النقل إن الذهب وصل من دارفور عبر مدينة واو في جنوب السودان. وأضافا أنه من هناك، نُقل إلى جوبا على متن طائرة تجارية تديرها مخابرات جنوب السودان.

يُعدّ جنوب السودان ركنًا غامضًا بشكل خاص في تجارة الذهب الدولية. إذ يقول دبلوماسيون إن شخصيات بارزة من النخبة من دولة جنوب السودان تسيطر على صناعة ذهب يصل انتاجها منه إلى حوالي 40 طنًا سنويًا. ومع ذلك، رسميًا، لا يُصدّرون شيئًا تقريبًا.

أفادت التقارير أن كيلوغرامًا واحدًا فقط من الذهب خرج من البلاد عبر قنوات التصدير الرسمية هذا العام. وقال جيمس يوسف كوندو، المدير العام لوزارة التعدين في البلاد: “قد يكون الباقي خرج تهريبا”.

في 6 مارس، هبطت طائرة بومباردييه في أبوظبي، قبيل الساعة الثالثة صباحًا، في مطار البطين للطيران الخاص الذي تستخدمه طائرات رجال الأعمال والحكومة، وفقًا لبيانات الرحلات الجوية. (رفضت شركة فلاي أليانس للطيران، ومقرها فلوريدا، والتي تُشغِّل طائرة بومباردييه وتُعلن عنها على موقعها الإلكتروني، الإجابة عن أسئلة حول الرحلة، بما في ذلك هوية مُستأجرها وسبب استئجارها.

تُعدّ الإمارات مركزًا رئيسيًا لقوات الدعم السريع، التي تستخدم شركات واجهة يسيطر عليها الفريق حمدان وأقاربه لبيع الذهب وشراء الأسلحة، كما يقول المسؤولون. منذ بدء الحرب، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 11 شركة تابعة لقوات الدعم السريع، معظمها في الإمارات، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب صلاتها بتجارة الذهب.

على هامش جهود السلام التي رعتها الولايات المتحدة في أغسطس، والتي فشلت في وقف الحرب، صرّح القوني حمدان، الشقيق الأصغر للجنرال حمدان، لصحيفة التايمز بأنه عاش في الإمارات طوال العقد الماضي. لكنه أصرّ على أن قوات الدعم السريع لم تعد تعمل في تجارة الذهب. وادعى بأنه “منذ الحرب، لم تعد هناك أي صادرات”. و لكن بعد حديثه هذا بأقل من شهرين، فرضت الولايات المتحدة عليه عقوبات ، ووصفته بـ”مدير المشتريات” في الجماعة شبه العسكرية، والمسؤول عن الحصول على أسلحة “لتسهيل الهجمات وغيرها من الفظائع ضد مواطنيها”.

ذهب الحكومة و روسيا والإمارات تقف خلف الاسرار الغامضة

على بُعد مئات الأميال من قوات الدعم السريع، تقع مناجم ذهب حصوية، لكنها مربحة، في دارفور، يقع منجم ذهب صناعي حديث يُعين الجيش على مواصلة القتال.

يُطلق عليه اسم منجم كوش، بحفاراته العملاقة وآلاته الباهظة الثمن، الذي يُنتج الذهب ويُدرّ دخلاً ثميناً لحكومة السودان في زمن الحرب. المشكلة هي أن قادة السودان لم يكونوا على دراية دائمة بمالكه.

ظنّوا أن المنجم – الواقع في الصحراء، على بُعد 220 ميلاً من العاصمة – يُسيطر عليه بوريس إيفانوف، وهو مسؤول تنفيذي روسي في مجال التعدين، تربطه علاقات بالكرملين، وازدهرت أعماله في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

لكن عندما دققوا النظر في عام 2021، اكتشف مسؤولو الحكومة السودانية أن المنجم قد انتقل بالفعل إلى أيدي مستثمرين جدد غامضين من الإمارات العربية المتحدة، الدولة التي تدعم عدوهم اليوم.

وقال مسؤولون من الحكومة السودانية، التي كانت تمتلك حصة صغيرة في المنجم، إن أحداً لم يُكلف نفسه عناء إخبارهم بشراكتهم الجديدة المفاجئة. لذا أرسلوا وفدًا، بقيادة وزير المالية السوداني، إلى أبوظبي لتسوية الأمر.

كانت كوش جوهرة طفرة الذهب في السودان، أكبر منجم ذهب صناعي في البلاد. كما كانت لها أهمية جيوسياسية، كنقطة محورية في تعزيز علاقات السودان مع روسيا.

أشاد السيد بوتين بهذا المشروع “الرائد” في القمة الروسية الأفريقية الأولى عام 2019، ووصف الشركة الروسية الخاضعة للعقوبات الأمريكية بأنها محور هذا الجهد. كما تحدث السيد إيفانوف، المدير الإداري لتلك الشركة، في القمة، في جلسة بعنوان “استغلال المعادن في أفريقيا لصالح شعوبها”.

كان نجاح السيد إيفانوف في مجال التعدين قصة كلاسيكية في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي. بدأ حياته المهنية كدبلوماسي – عُيّن في ثمانينيات القرن الماضي في السفارة السوفيتية في واشنطن، حيث شملت مهامه ضبط الأسلحة – وانتهى به الأمر في قطاع النفط والغاز والتعدين. (قال زميلان سابقان إنه تفاخر بأنه كان يعمل أيضًا متخفيًا لصالح جهاز المخابرات السوفيتي (كي جي بي) خلال فترة وجوده في واشنطن. وأكد شخص مطلع على الاستخبارات الغربية ذلك، لكن متحدثًا باسم السيد إيفانوف نفى هذا الادعاء، قائلاً إن السيد إيفانوف لم تكن له أي علاقات بالمخابرات الروسية.

عندما بدأ منجم كوش في إنتاج الذهب، كانت روسيا والسودان تواجهان عقوبات دولية – روسيا لتدخلها في أوكرانيا، والسودان بسبب الإبادة الجماعية في دارفور – ولم يتوسع تعدين الذهب المشترك بينهما إلا في تلكم المنطقة.

بدا أن السيد إيفانوف قد ازدهر أيضًا. تُظهر سجلات العقارات أنه وزوجته، ناتاشا، اشتريا شقتين سكنيتين في مانهاتن، بجوار كاتدرائية القديس باتريك في الجادة الخامسة، في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وفي وقت لاحق، اشتريا منزلين متجاورين على شاطئ البحر في جونو بيتش بولاية فلوريدا، يسعيان إلى هدمهما لبناء قصر واحد بمساحة 15000 قدم بدلاً من ذلك. لكن عندما سافر المسؤولون السودانيون إلى أبوظبي عام 2021، علموا أن السيد إيفانوف لم يكن الوحيد الذي يتعاملون معه تجاريًا.

فقد أصبح المنجم في السودان الآن ملكًا لشركة “إميرال ريسورسز”، وهي شركة جديدة أسسها السيد إيفانوف. ويقف وراء هذه الشركة لاعبٌ أكبر بكثير – الشيخ طحنون بن زايد، نائب رئيس الوزراء الإماراتي السابق -، مستشار الأمن القومي الإماراتي وشقيق زعيم البلاد، الشيخ محمد بن زايد، وفقًا لثلاثة أشخاص مطلعين على المحادثات.

صرح متحدث باسم شركة “إميرال” بأن الحكومة السودانية قد أُبلغت، في الواقع، بأن المنجم تحت ملكية جديدة. لكنه رفض تحديد هوية هؤلاء الملاك الجدد بالضبط، مكتفيًا بالقول إن “إميرال” مملوكة لـ”مجموعة استثمارية رائدة في أبوظبي”، دون ذكر أسماء.

كان الاستحواذ علامةً على توجه الإماراتيين بمليارات الدولارات نحو التعدين في أفريقيا. وفي سعيها لتنويع اقتصاد البلاد المعتمد على النفط، تتسابق شركات الشيخ طحنون للاستحواذ على المناجم والمعادن الخام اللازمة للسيارات الكهربائية والتحول إلى الطاقة الخضراء.

هذا يعني أن الإماراتيين يتحوطون فعليًا في حرب السودان. خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، هرّبوا كميات هائلة من الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، غالبًا تحت ستار الهلال الأحمر، وهي جريمة حرب محتملة.

لكن منجم كوش المملوك للإماراتيين في الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة يُدرّ على الأرجح عشرات الملايين من الدولارات للسلطات السودانية، التي بدورها تستخدم هذه الأموال لشراء طائرات إيرانية بدون طيار وطائرات صينية وأسلحة أخرى.

بعبارة أخرى، تُسلّح الإمارات طرف من أطراف الحرب، و تُموّل الطرف الآخر لشراء الأسلحة.

قال ثلاثة مسؤولين أمريكيين كبار إن إدارة بايدن أعربت عن مخاوفها مباشرةً للشيخ محمد والشيخ طحنون عندما زارا البيت الأبيض في سبتمبر من العام الماضي، ومع ذلك، حرص الرئيس بايدن على عدم انتقاد دولة خليجية ثرية علنًا، وهي حليفة لإيران وإسرائيل، مما أثار غضب العديد من السودانيين.

ومع ذلك، لا يزال الغموض يحيط بدور السيد إيفانوف، فقد صرّح مسؤول سوداني رفيع المستوى بأن سجلات وزارة التعدين السودانية تُدرجه كشريك في منجم كوش. لكن شركة “إميرال” نفت ذلك، قائلةً إن السيد إيفانوف ترك العمل العام الماضي، وأن “إميرال شركة إماراتية”.

يعتمدون عليه للبقاء على قيد الحياة.

بعد عشرة أيام من بدء الحرب، انطلق الفاتح هاشم مسرعًا عبر شوارع العاصمة الخرطوم الفوضوية، حابسًا أنفاسه بين نقاط التفتيش التي يحرسها مقاتلون نهبوا ممتلكاته. كانت السيارة تحمل والديه وإخوته الخائفين، وملابسهم التي حزموها على عجل، وأكياسًا من الذهب المخفي.

قال السيد هاشم إنه خبأ مجوهرات زفاف العائلة في حجرة مخفية تحت المقعد الخلفي، وحتى داخل خزان الوقود، مضيفًا: “كانت هذه بوليصة تأميننا”.

نجحت الحيلة. بعد أسابيع، وصلت العائلة إلى مصر، حيث يُموّل الذهب حياتهم الجديدة الهشة كلاجئين.

قال: “كان علينا أن نعيش من الذهب. لقد فعلت عائلات أخرى كثيرة الشيء نفسه”.

حتى قبل الصراع، كان الذهب ضروريًا للغاية لدرجة أنه ارتفع إلى 70% من صادرات البلاد، مما ساعد على تعويض عائدات النفط التي فقدها السودان بعد انفصال جنوب السودان عام 2011.

لقد بدّدت الحرب تلك الثروة. نُهِبَ الذهب من المنازل، واستُولي عليه عند نقاط التفتيش، وسُرِقَ من البنوك، أحيانًا على يد مقاتلين يستخدمون أجهزة كشف المعادن للتنقيب عنه.

في السنة الأولى من الحرب وحدها، يقول المسؤولون السودانيون إن البلاد أنتجت أكثر من 50 طنًا من الذهب – أكثر مما أنتجته خلال الأشهر الاثني عشر السابقة من السلام.

قد يكون أحد الحلول هو الضغط على المشترين. قد يُلزم تصنيف الذهب السوداني على أنه “معادن صراع” والطلب من الشركات باستبعاد الذهب السوداني من منتجاتها. فقد أدت مخاوف مماثلة بشأن “الماس الدموي” من غرب إفريقيا إلى نظام شهادات مدعوم من الأمم المتحدة قبل عقدين من الزمن. لكن الذهب، الذي يُصهر ويُخلط غالبًا، قد يصعب تتبعه. ومع تحطيم أسعار الذهب للأرقام القياسية مؤخرًا، تتزايد دوافع الحرب.

“بلادنا ملعونة بالذهب”، دعاء طارق، قالت عاملة إغاثة متطوعة من منزلها في الخرطوم التي مزقتها الحرب: “الذهب ساهم في تكوين جماعات مسلحة وإثراء بعض الناس”. وتابعت السيدة طارق، البالغة من العمر 32 عامًا، وهي أمينة فنية تُقدم الآن وجبات الطعام في مطبخ خيري وتساعد ضحايا الاعتداء الجنسي: “لكن بالنسبة لمعظمنا، لم يجلب لنا سوى المتاعب والحرب”.

ملحوظة من الصحيفة:

ساهم في إعداد التقرير كل من أناتولي كورماناييف من برلين؛ ومالاكي براون من ليمريك، أيرلندا؛ وعبد الرحمن الطيب من بورتسودان، السودان؛ وجوليان إي. بارنز وإريك شميت من واشنطن؛ وجاك بيج وويليام ك. راشباوم من نيويورك؛ ومحمد الهادي من أديس أبابا، إثيوبيا.

ديكلان والش هو كبير مراسلي صحيفة التايمز لشؤون أفريقيا ومقره نيروبي، كينيا. وقد سبق له أن عمل مراسلًا من القاهرة، حيث غطى الشرق الأوسط، ومن إسلام آباد، باكستان.

المحقق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • هل هي “حمى الذهب والمعادن الثمينة” التي تحرك النزاع في السودان.. أم محاربة التطرف الإسلامي؟
  • عُمان التي أسكتت طبول الحرب
  • كريم وزيري يكتب: العدو الجديد يرتدي كودًا برمجيًا
  • تصاعد الجدل داخل إسرائيل حول غزة: بين إعادة الاحتلال وإنهاء العمليات العسكرية
  • هذه الحرب مختلفة عن كل الحروبات التي عرفها السودان والسودانيون
  • الاحتلال يصعّد عملياته العسكرية في غزة مستهدفا مناطق الاكتظاظ السكاني
  • الحرب التي أجهزت على السلام كله
  • لماذا بدأ ترامب جولته الخليجية بزيارة السعودية؟.. سر اختيار هذا التوقيت
  • لماذا تُعتبر مفاوضات إسطنبول بين أوكرانيا وروسيا حاسمة؟
  • يواصل حملته العسكرية واسعة النطاق في القطاع.. الاحتلال يؤسس للتهجير وتفكيك غزة تحت غطاء الحرب