كانت الحرب العنيفة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 13 يوما بمثابة ورقة التوت التي سقطت لتكشف سوءة كثير من وسائل الإعلام الغربية التي ما فتئت تُقدّم "دروسا مجانية" عن الحياد والمهنية وحرية التعبير.

 

فمنذ أن أطلقت المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها كتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عملية طوفان الأقصى، أصبحت كثير من وسائل الإعلام الغربية ناطقا بلسان الاحتلال الإسرائيلي، تردد رواياته وأكاذيبه، وابتعدت كثيرا عن قيم الإعلام المهني، كما يقول خبراء الإعلام.

 

من "أكذوبة قطع رؤوس أطفال إسرائيليين"، مرورا بتسمية العدوان نفسه بـ"حرب إسرائيل وحماس"، وليس آخرا باتهام حركة الجهاد الإسلامي بالمسؤولية عن مجزرة مستشفى المعمداني في غزة، سقطت وسائل الإعلام الغربية في فخ تقديم المصلحة على المهنية.

 

ويلحظ المتابع أن جوهر وشكل التغطية الصحفية في واشنطن ولندن وبرلين وغيرها من العواصم التي تصفق لإسرائيل يتحددان بناء على هوية الضحايا وانتمائهم العرقي لا على أساس قيمة الحياة الإنسانية بحد ذاتها.

 

ويكفي في ذلك مثلا أن تستخدم هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أثناء تغطيتها للحرب كلمة "ماتوا" للإشارة إلى من قتلوا في غزة، و"قتلوا" لوصف القتلى الإسرائيليين.

 

وهو أمر أبسط من غيره مما يمكن وصفه بـ"فضيحة إعلامية" شعارها اكذب ثم اكذب حتى يصدّقك العالم.. انشر روايات مختلقة عن قطع رؤوس لم يقع أو اغتصاب نساء لم يحدث، وإن كُشفت افتراءاتك، قدّم اعتذارا عابرا على تسرعك بينما يتسلم منك زميل آخر عصا سباق التتابع ليروّج أكذوبة لا تقل شناعة عبر استخدامه الذكاء الاصطناعي في تحويل صورة كلب مريض على سرير الشفاء إلى صورة طفل متفحّمٍ بنار الإرهاب.

 

المقاومة تقصف شعبها!

 

هكذا يُريد الاحتلال الإسرائيلي منا أن نصدّقه، ويتبعه في ذلك بعض الإعلام الغربي. "كذبة" أطلقها المتحدث باسم جيش الاحتلال للتغطية على مجزرة قصف مستشفى المعمداني في غزة، وسرعان ما تناقلتها وسائل إعلام عالمية.

 

لكن اللافت أن "بي بي سي" نشرت، قبل يوم واحد من قصف المستشفى تقريرا يتساءل "ببراءة": "هل تقوم حماس ببناء الأنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟".

 

ويضيف التقرير أنه "من المرجح أن تتدفق شبكة الأنفاق تحت أحياء مكتظة بالمنازل والمستشفيات والمدارس، مما يمنح الاحتلال الإسرائيلي ميزة الشك عندما يتعلق الأمر بقصف مثل هذه الأهداف".

 

وجاء الجواب من الاحتلال في اليوم التالي بارتكاب مجزرة المستشفى وقتل المئات من المرضى وذويهم من النساء والأطفال، في مجزرة ربما لم يشهد التاريخ مثيلا لها.

 

وكررت مراسلة "سي إن إن" الأميركية ما قاله جيش الاحتلال، وقالت إن "حماس ربما أخطأت في إطلاق الصواريخ لتسقط على المستشفى في غزة، وفقا للجيش الإسرائيلي".

 

أما "سكاي نيوز" البريطانية فحاولت ادعاء الحياد، حين كتبت عبر حسابها على "إكس" بأن وزارة الصحة في غزة تتحدث عن استشهاد المئات في قصف على المستشفى المعمداني في مدينة غزة، مضيفة "ولم تتمكن سكاي نيوز من التحقق بشكل مستقل من التقرير".

 

الفبركة شعار المرحلة

 

ويتجلى الدعم الغربي الكامل في تبني كل الأخبار الواردة من إسرائيل من طرف أعلى قيادة في الولايات المتحدة، حتى لو كانت مُفبّركة كما حدث مع ادعاء "قطع حماس رؤوس أطفال إسرائيليين"، الذي فبركته مصادر إسرائيلية وتحدث عنه الرئيس الأميركي جو بايدن، فضلا عن وسائل إعلامية غربية مشهورة.

 

الأنباء التي اعتُمدت في الغرب على أنها حقائق -دون تحقق- أُفردت لها تغطيات بالساعات قبل أن يظهر سريعا أنها مُؤسّسة على قيل وقال مصدره جندي اسمه ديفيد بن زيون، وهو من عتاة المستوطنين، ولطالما دعا إلى قتل الفلسطينيين، وقد حدّث قناة إسرائيلية وطارت بها الأنباء كحقيقة في كبرى قنوات التلفزة الغربية وتصدّرت صحفهم.

 

وذكر تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني أن وسائل الإعلام البريطانية هيمنت عليها تقارير عن مذبحة ارتكبها مقاتلو حركة حماس في المستوطنات في جنوب إسرائيل، وزُعم على نطاق واسع أنهم قطعوا رؤوس الأطفال.

 

ونشرت العديد من الصحف الرائدة في بريطانيا -بما في ذلك "ديلي ميل"، و"ذا صن"، و"ذا تايمز"، و"ديلي تلغراف"- تفاصيل عن عمليات القتل المزعومة لـ40 طفلا، بما في ذلك أطفال رضع، وهو الادعاء الذي لم يستطع أحد -بما في ذلك الاحتلال- إثباته بأي شكل من الأشكال، كما أن حماس نفته، ونشرت عدة مقاطع فيديو تُثبت العكس تماما، من خلال تعاملها الرحيم مع النساء والأطفال.

 

وقالت صحيفة "ذا صن" في صفحتها الأولى "المتوحشون يقطعون رؤوس الأطفال في مذبحة". وقالت "التايمز" "لقد قطعت حماس حناجر الأطفال في مذبحة"، علما أن الصحيفتين مملوكتان لشركة روبرت مردوخ للأخبار في المملكة المتحدة.

 

أما مقدّم الأخبار الشهير بقناة "سي بي إس" الأميركية جيف جلور فقال إنه شاهد صورا، ولم يسائله أحد ماذا وأين ومتى؟

 

وبدت هذه الحملة ممنهجة ضمن ما يُعرّفه خبراء الإعلام بـ"الدعاية السوداء" لشيطنة الآخر، وخطورتها أنها تُحضّر المتلقي لتقبل قتل من تُشنّ عليه.

 

تناسى بعضهم الأمر، فيما دفعت بقية شجاعة مهنية آخرين للتصويب، كمذيعة "سي إن إن" سارة سايدنر التي قالت إنها كانت على الهواء عندما وصلت مزاعم ذبح الرضع، وأنها تسرّعت، وكان ينبغي أن تكون أكثر حذرا، أما الباقون فما زالوا يراسلون ويتحدثون وكأن كذبة لم تكن.

 

وقال مارك أوين جونز، وهو أكاديمي يبحث في المعلومات المضللة في الشرق الأوسط، لموقع ميدل إيست آي، إن الروايات حول الأطفال المقتولين كانت "عاطفية" واستخدمت في حملات دعائية تعود للحرب العالمية الأولى لشيطنة الأعداء.

 

قصف ريشة رسّام

 

وقبل يومين، قال ستيف بيل رسام الكاريكاتير في صحيفة "ذي غارديان" البريطانية إنه أقيل من عمله بتهمة معاداة السامية بعد أن رسم كاريكاتيرا ينتقد فيه ممارسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قطاع غزة.

 

ويظهر الكاريكاتير نتنياهو مُرتديا قفازات ملاكمة وهو يحدد جزءا من خريطة تمثل قطاع غزة -تمهيدا لاقتطاعه- مع عبارة "يا سكان غزة اخرجوا الآن" في إشارة إلى أن إسرائيل تطلب من أهالي غزة النزوح جنوبا قبل غزو بري متوقع.

 

وقال الصحفي إنه قدّم الرسم لمسؤولي "ذي غارديان"، ولكنه قوبل بالرفض، قبل أن تُنهي الصحيفة عقدا معه استمر أكثر من 40 عاما بسبب رسم كاريكاتيري تراه غير مناسب، وكان بإمكانها الاكتفاء برفض نشر الرسم -كما قال بيل نفسه- لكنهم أخذوا الإجراء الأقسى، وهو إنهاء خدماته بالكلية.

 

لكن المفارقة -التي توقف عندها الكثيرون- أن وسائل الإعلام الغربية لطالما قدّمت للعرب والمسلمين "دروسا" في حرية التعبير، خصوصا إذا ما تعلّق الأمر برسوم أو تصريحات مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم أو للمقدسات الإسلامية عموما، وقد جاءت ممارساتها العملية لتعكس ما هو "أصدق إنباءً من الكتب".

 

إسكات بالقوة!

 

لكن غياب الحياد والمهنية عن تغطية كثير من وسائل الإعلام الغربية لعملية طوفان الأقصى والحرب غير المسبوقة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، لم تتوقف عند حد الانحياز للرواية الإسرائيلية، ونشر الأكاذيب بشكل -يرى كثيرون- أنه ممنهج، بل وصل إلى "إسكات" بعض الأصوات التي لا تتماهى مع هذا الخط.

 

وأبرز مثال على ذلك، ما فعلته شبكة "إم إس إن بي سي" الأميركية، حين أوقفت 3 من أبرز مذيعيها المسلمين قبل أيام. وأكدت مصادر أن مهدي حسن وأيمن محيي الدين وعلي فلشي تم إخراجهم بهدوء من منصبهم كمذيعيين منذ هجوم المقاومة الفلسطينية على إسرائيل.

 

وفي أميركا أيضا، تم فصل المراسل الرياضي جاكسون فرانك من موقع "فيلي فويس" الإخباري الذي انضم إليه أخيرا بعد أن كتب على موقع إكس "أتضامن مع فلسطين دائما"، فردّ الموقع بإقالته.

 

ولم تختلف "بي بي سي" البريطانية بعراقتها عن ذلك، بعد أن قررت التحقيق مع 6 من صحفييها العرب في مكتبي القاهرة وبيروت، بالإضافة إلى وقف التعامل مع صحفية أخرى مستقلة، بدعوى "نشاطهم المتحيز لفلسطين على حساباتهم بمواقع التواصل".

 

وتضم قائمة الصحفيين المحالين للتحقيق: محمود شليب، سالي نبيل، سلمى الخطاب، بالإضافة إلى الصحفي في القسم الرياضي بمكتب القاهرة عمرو فكري، والصحفية المستقلة آية حسام في القاهرة التي أوقفت "بي بي سي" التعامل معها، والصحفيتين سناء الخوري وندى عبدالصمد من لبنان.

 

وقد أوقفت إدارة "بي بي سي" صحفيي مكتب القاهرة عن العمل مؤقتا لحين انتهاء التحقيقات.

 

ولا يتوقف الأمر على وسائل الإعلام، فبعض الساسة لا يريدون -فيما يبدو- سوى "إعلام الصوات الواحد"، وقد انبرى المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية رون ديسانتس محذرا من مشاهدة قناة الجزيرة في تغطيتها للقصف الإسرائيلي على غزة، بعد أن سُئل عن قصف المباني السكنية حيث يمكث المواطنون العزل.

 

أما على مستوى إسرائيل، فالأمر أكبر بكثير، وهو لا يتعلق بتناول إعلامها للحرب، فهذا متوقع باعتبارها طرفا، وإنما بمحاولة فرض روايتها على وسائل إعلام مستقلة، كما فعل المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي الذي نشر على منصة "إكس" صورة من موقع الجزيرة نت لتغطية القصف الإسرائيلي على غزة، وتحديدا مستشفى المعمداني، وكتب: "ليكون واضحا: تنظيم الجهاد الإسلامي الإرهابي يقف وراء عملية إطلاق الصاروخ الفاشل الذي أصاب المستشفى المعمداني وأوقع هؤلاء القتلى والجرحى"، معدّلا على عنوان الخبر نفسه.

 

وقبل ذلك، نشر حساب وزارة الدفاع الإسرائيلية على "إكس" أيضا معاتبا الإعلام الغربي -على كل ما فيه من انحياز- بسبب أن بعض وسائل الإعلام هذه نسبت قصف مستشفى المعمداني لجيش الاحتلال، ولم تأخذ الرواية الإسرائيلية للحدث.

 

ويبقى السؤال هل يعود الإعلام الغربي إلى حياده ومهنيته، أم يتوقف -على الأقل- عن ادعاء ذلك؟


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: فلسطين اسرائيل غزة حماس الكيان الصهيوني وسائل الإعلام الغربیة الاحتلال الإسرائیلی مستشفى المعمدانی الإسرائیلی على بی بی سی فی غزة بعد أن فی ذلک

إقرأ أيضاً:

عبء ترامب.. كيف تغطي وسائل الإعلام تصريحات الزعماء الكاذبة؟

تواجه العديد من وسائل الإعلام -خاصة الأميركية- معضلة كبيرة في تغطيتها للتصريحات الصادرة عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المعروف بتقديم معلومات مضللة وأخبار غير دقيقة.

وسائل الإعلام ضد الطغاة

في عام 2018، وقبل يوم واحد من زيارة للرئيس الأميركي إلى بريطانيا، وتحديدًا في 11 يوليو/تموز أُطلِق كتاب للصحفي والمؤرخ البريطاني ديريك ج. تايلور بعنوان "أخبار زائفة.. وسائل الإعلام ضد الطغاة من هنري الثامن وحتى دونالد ترامب".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2المركز القطري للصحافة يدين قصف مبنى الإذاعة والتلفزيون بطهرانlist 2 of 2كيف ننتج ملخصات الأخبار باستخدام الذكاء الاصطناعي؟end of list

يؤصل الكتاب -عبر مسار متشعب بين أروقة التاريخ- للحرب الطويلة والمستمرة بين وسائل الإعلام والممسكين بالسلطة، متنقّلا بين ضفتي المحيط الأطلسي، لينقل أجواء المعارك بين وسائل الإعلام وأصحاب السلطة في بريطانيا والولايات المتحدة، ويقدم الحقائق التي لم يَصدُق فيها لا أصحاب السلطة ولا أولئك الذين يمتشقون الأقلام، على حد وصف المؤلف.

ويورد الكاتب أن الإهانات والشتائم والعبارات من شاكلة "أخبار زائفة" و"صحافة غير شريفة" و"عنصري" و"غير مستقر عقليًا" المتبادلة بين معظم وسائل الإعلام الأميركية والرئيس ترامب في الوقت الراهن، ليست وليدة اليوم بل ثمة سلسلة من الأحداث والأمثلة المشابهة؛ ففي إنجلترا، وإبان عهد الملك ثيودور الثامن (1491 – 1547) وصفت الأوراق المطبوعة التي مثلت صحافة ذلك الزمان الملكَ بأنه "وحش فظيع"، أما هو فقد اتهمها بأنها تنشر "خرافات زائفة".

وتُنسب للسياسي فليبو دي ساراتا (جمهورية البندقية سابقًا) مقولة "القلم بَتول والمطبعة عاهرة"، وفيها ذم للمطبعة التي اخترعها غوتنبرغ وأتاحت المعرفة للعامة بعد أن كانت حكرًا على النبلاء ووجهاء القوم.

ويشير تايلور إلى أن اختراع الطباعة مثّل مرحلة مهمة في المعارك بين وسائل الإعلام وأصحاب السلطة في بريطانيا؛ فمنذ ذلك التاريخ نظر أصحاب السلطة إلى الاتصال الجماهيري -الذي سمحت به الطباعة آنذاك- باعتباره تهديدًا يحدّ من سلطتهم في السيطرة على الجماهير، بل بصفته قادرًا على إثارة سخط الناس وصولًا إلى مرحلة التمرد.

هجوم بلا هوادة في أيامه الأولى من عودته الأخيرة إلى البيت الأبيض أطلق ترامب ذخيرة من العبارات الشائنة بحق أبرز وسائل الإعلام الأميركية والعالمية (الفرنسية)

ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بسياقات جديدة، فالرئيس الأميركي عاد مرة أخرى إلى المشهد وإلى عاداته القديمة: إطلاق التصريحات غير الدقيقة والمليئة بالمعلومات المغلوطة والمضللة، مع مهاجمة وسائل الإعلام الأميركية البارزة وغيرها بلا هوادة.

إعلان

راجعتْ تقاريرُ موثقة لأسوشيتد برس وشبكة سي إن إن عشراتِ التصريحات لدونالد ترامب للتحقق من مصداقية الأرقام الواردة فيها والأحكام الناتجة عنها والأخطاء المعلوماتية التي تتضمنها، وخلصت إلى أنها تفتقر للدقة ولا تقوم على الحقائق.

وتحت عنوان" التحقق من الحقائق: سلسلة الأكاذيب التي أطلقها ترامب بشأن زيلينسكي وأوكرانيا" ترصد تلك التقارير عددا من تصريحات ترامب بصفته رئيسا للولايات المتحدة منذ أدائه اليمين الدستورية، وأشهرها التصريحات الخاصة بالحرب الروسية على أوكرانيا.

وفي أيامه الأولى من عودته الأخيرة إلى البيت الأبيض أطلق ترامب ذخيرة من العبارات الشائنة بحق أبرز وسائل الإعلام الأميركية والعالمية، إذ كتب في منشور على منصته تروث سوشيال في فبراير/شباط الماضي عن قناة "إم إس إن بي سي" أنها "تمثل تهديدا لديمقراطيتنا، ومليئة بالأكاذيب والتشويه، ويديرها أشخاص سيّئون"، متهما القناة بأنها منحازة للديمقراطيين ولقبها باسم "إم إس دي إن سي" في إشارة إلى اختصار اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي "دي إن سي" (DNC).

كما زعم ترامب أن رويترز، وموقع بوليتيكو، وصحيفة نيويورك تايمز تتلقى دعما ماليا من المؤسسات الفدرالية الأميركية، مشيرا إلى أن هذه المدفوعات تهدف إلى التأثير على محتوى الأخبار.

 لماذا يكذب ترامب؟

لقد كُتب الكثير عن الأسباب التي تجبر ترامب على إطلاق معلومات مضللة، لدرجة أن البعض وصفوه بـ"الرجل الكاذب" ويتحرى الكذب ضمن إستراتيجية سياسية متعمدة تخدم عدة أهداف مثل السيطرة على ما يعرف بدورة الأخبار، وتحفيز قاعدته السياسية، وتقويض خصومه، وتحويل اللوم عن نفسه.

فيما يتعلق بالسيطرة على دورة الأخبار ترى "سي إن إن" أن هذه الإستراتيجية تمكّن ترامب من تحديد أجندة المشهد الإعلامي وتحويل الانتباه عن القضايا التي قد تكون سلبية بالنسبة إليه، مشيرة إلى أن تلاعبه بالحقيقة هو سمة دائمة في مسيرته السياسية، مما يمنحه قدرة على السيطرة على الرواية الإعلامية.

وحسب مجلة نيويوركر فإن خطاب ترامب يجد صدى لدى قاعدته من خلال تصويره بطلا يحارب مؤسسة فاسدة، يحدث ذلك عبر تحدي الحقائق الراسخة والترويج لسرديات بديلة لتعزيز حالة من الشك تجاه المؤسسات الإعلامية الأميركية الرئيسية؛ تساهم هذه الإستراتيجية في تعزيز الشعور بالهوية الجماعية، وتقديم ترامب بصفته شخصية تتحدى "النخبة" نيابة عن "الناس العاديين".

وتعتقد صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" أن ترامب يستخدم ما يعرف بإستراتيجية توجيه اللوم لصرف الانتباه وتفادي المساءلة، أي عندما يواجَه بانتقادات أو نتائج سلبية فإنه غالبا ما يُحوّل اللوم عن نفسه بادعاءات كاذبة أو بما يعرف بنظريات المؤامرة. فعلى سبيل المثال، ساعدت مزاعمه -التي لا أساس لها من الصحة- بشأن تزوير الانتخابات على إعفائه من المسؤولية عن خسارته، مع زرع الشك في شرعية العملية الديمقراطية بكاملها.

استخدام إستراتيجي للتكرار

أما واشنطن بوست، فتؤكد أن ترامب يلجأ إلى ما يعرف بالاستخدام الإستراتيجي للتكرار، حيث يُعد تكراره للمزاعم الكاذبة خطوة محسوبة لتعزيز سردياته. وتضيف أن الادعاءات الكاذبة التي تُكرر بشكل مكثف تصبح راسخة في الوعي العام، رغم أنها دُحضت مرارًا. تستثمر هذه الإستراتيجية ظاهرة نفسية تشير إلى أن التكرار يزيد من قابلية تصديق المعلومات.

إعلان

لا يُعد استخدام ترامب للمعلومات المضللة مسألة عرضية، بل هو عنصر أساسي في إستراتيجيته السياسية، فمن خلال التلاعب بالمعلومات يتمكن من التحكم في الخطاب العام، وتحفيز قاعدته، وإضعاف خصومه، وتحويل اللوم بعيدا عنه، وتمثل هذه الإستراتيجية تهديدا حقيقيا للمؤسسات الديمقراطية ولسلامة المعلومات العامة.

مؤسسات الإعلام والشراكة في التضليل

يرى كثير من المهتمين أن المؤسسات الإعلامية تعتبر شريكة في نشر المعلومات المضللة إذا فشلت في التحقق من صحة التصريحات الكاذبة أو المضللة وتقييمها بشكل نقدي، خاصة تلك الصادرة عن شخصيات مؤثرة مثل دونالد ترامب، فالنزاهة الصحفية تتطلب تدقيقا صارما للحقائق وتقديم تغطية مسؤولة لمنع انتشار الأكاذيب.

وبحسب تقرير لصحيفة غارديان البريطانية يمكن أن تؤثر الاعتبارات الاقتصادية على القرارات التحريرية، وهو  ما قد يؤدي إلى نشر المعلومات المضللة. ومن الأمثلة التي أوردها تقرير غارديان على ذلك حالة قناة فوكس نيوز، حيث كشفت الاتصالات الداخلية عن مخاوف من أن التحقق من ادعاءات ترامب الكاذبة قد ينفّر جمهورها ويؤثر سلبا على نسب المشاهدة، كما أنه يلقي الضوء على التوتر بين المسؤولية الصحفية والمصالح التجارية.

الإعلاء من شأن الحقيقة والسياق

وخلاصة القول، تقع على عاتق المؤسسات الإعلامية مسؤولية التحقق من المعلومات والطعن في المعلومات الكاذبة، إذ لا يؤدي عدم القيام بذلك إلى الإضرار بالنزاهة الصحفية فحسب، بل يساهم أيضًا في تآكل الخطاب العام المستنير.

تمثّل تغطية تصريحات دونالد ترامب تحديا صعبا للمؤسسات الإعلامية، بسبب استخدامه المتكرر للتصريحات الكاذبة أو المضللة، وخطابه الاستفزازي، وتلاعبه بديناميكيات الإعلام. ولتغطية ترامب (أو أي شخصيات سياسية مماثلة) بمسؤولية، ينبغي على المؤسسات الإعلامية الإعلاء من شأن الحقيقة والسياق والمصلحة العامة على حساب الإثارة.

وقد صدرت إرشادات كثيرة عن عدد من الجامعات والمراكز والمنظمات الأميركية تشرح كيفية التعاطي مع تصريحات ترامب، ونذكر منها على سبيل المثال: كلية إدوارد مورو للإعلام، مركز بيو للأبحاث، مركز حرية التعبير. ولعل أبرز الإرشادات تتمثل في إعطاء الأولوية للحقيقة؛ أي تقديم قيم الدقة والمصداقية والشمول على السبق الصحفي (To value being right above being first)، أي نتجنّب تضخيم الأكاذيب باسم الحياد أو الرأي والرأي الآخر، فإذا أدلى ترامب بتصريح كاذب أو مضلل، يجب وصفه بوضوح على هذا النحو قبل نشره كما هو.  ثم إن السياق أهم من التصريح وبالتالي ينبغي تجنب العناوين أو المقدمات التي تكرّر تصريحات ترامب دون تقديم السياق الذي قيلت فيه، ولنبدأ بالحقائق المثبتة، ثم نوضّح ما قاله ترامب وكيف يتناقض مع الواقع.

فعلى سبيل المثال إذا قال ترامب خلال خطاب جماهيري: "إن الانتخابات سُرقت" فينبغي ألا نكرر ما قاله في تغطيتنا، ولكن يمكن أن يكون عنواننا "لا توجد أدلة على حدوث تزوير انتخابي واسع، رغم مزاعم ترامب". ويسمح هذا التأطير بكشف الاستخدام الإستراتيجي للمعلومات المضللة أي فهم متى يستخدم ترامب الأكاذيب سواء لصرف الانتباه عن قضايا قانونية، أو لحشد قاعدته، أو لتقويض المؤسسات.

ويبرُز التحقق الفوري من الحقائق بصفته أداة فعالة لمواجهة التضليل، ويجب أن تحرص المؤسسات الإعلامية على التحقق الفوري مما يقال من معلومات مضللة أثناء اللقاءات المباشرة أو الخطابات أو المقابلات، وقد استخدمت مؤسسات إعلامية أميركية مثل "سي إن إن" (CNN) هذا الأسلوب في الحملة الرئاسية 2020 لتقديم توضيحات فورية للجمهور.

معركة من أجل تثبيت الحقيقة

وهكذا، يجب على المؤسسات الإعلامية في سعيها للتصدي لأكاذيب ترامب ألا تتردد في استخدام كلمات مثل "كاذبة"، "لا أساس لها"، "معلومة مضللة"، عندما يكون ذلك مناسبا؛ لأن الكلمات المخففة مثل "مثيرة للجدل" أو "غير دقيقة" قد تسهم في إضعاف الحقيقة. إنّ استخدام الكلمات الصريحة عند الحديث عن التضليل غايتُه الأساسية ليس وصف التضليل بأنه خطأ فحسب، بل خطر حقيقي أيضا، خاصة عندما يهدد المؤسسات والقيم الديمقراطية، مثل الانتقال السلمي للسلطة وسيادة القانون، كما أنه يبيّن بوضوح تأثير الأكاذيب على الناخبين والسياسات والمعايير.

إعلان

في معركتها لتثبيت الحقيقة، وسائلُ الإعلام مطالبة بأن توازن الحضور الإعلامي الطاغي لترامب بإبراز أصوات الخبراء، والمجتمعات المهمّشة، ومدققي الحقائق، والمتضررين من تصريحاته الكاذبة.

إن غرف الأخبار وعلى اختلاف مشاربها ينبغي أن تتعاون لإنشاء قاعدة موحدة للتغطية القائمة على الحقيقة بشأن ترامب. وسيساعد تعاونها بعضها مع بعض في حماية الخطاب العام، خاصة في مشاريع تدقيق الحقائق، وحملات التوعية الإعلامية، والاتفاق على مدونات سلوك مهنية.

للمزيد يرجى مراجعة:
سي إن إن: سي إن إن"
نيويوركر: خطاب ترامب
لوس أنجلوس إستراتيجية توجيه اللوم
 كلية إدوارد مورو للإعلام
مركز بيو للأبحاث .
مركز حرية التعبير.
واشنطن بوست.
تقرير لصحيفة غارديان البريطانية عن كيف يمكن أن تؤثر الاعتبارات الاقتصادية على القرارات التحريرية؟

مقالات مشابهة

  • خسائر غير مسبوقة في صفوف سلاح الهندسة “الإسرائيلي” بفعل تكتيكات المقاومة
  • عاجل| مصادر للجزيرة: خريطة إعادة التموضع التي عرضها الوفد الإسرائيلي في المفاوضات تبقي كل مدينة رفح تحت الاحتلال
  • جيش الاحتلال الإسرائيلي يطالب بإخلاء مناطق في مدينة غزة
  • محللون: فيديو القسام يمس “الكرامة الإسرائيلية” ورسالة تفاوض بالنار
  • محللون: فيديو القسام يمس الكرامة الإسرائيلية ورسالة تفاوض بالنار
  • عبء ترامب.. كيف تغطي وسائل الإعلام تصريحات الزعماء الكاذبة؟
  • أول تعليق من حركة حماس على عملية الطعن في بلدة رمانة
  • بين الدمار والصمود.. هكذا فشل الاحتلال الإسرائيلي في كسر شوكة حماس
  • الجيش الإسرائيلي يعترف بمقتل جندي في غزة خلال محاولة أسره
  • الجميمة بحجة تحتشد بـ2000 مقاتل من خريجي “طوفان الأقصى” نصرة غزة