علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة في فلسطين.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 31st, October 2023 GMT
وظف كيان العدو الصهيوني علم الآثار وسيلة لاختلاق ماضي "عبري إسرائيلي صهيوني"، يسوغ حقه في الوجود كدولة. فأصبح علم الآثار في فلسطين، علم مجند في خدمة الأهداف السياسية. و"سلاحا مقنعًا في الصراع في سبيل امتلاك الأرض". يقول المؤرخ البريطاني، كيث وايتلام، في كتابه "تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني": "إن الصراع حول الماضي إنما هو دائما صراع من أجل الهيمنة والسيطرة في الحاضر".
وهذا يعني أن من يخسر معركة الماضي سوف يخسر، بلا شك الحاضر ومعركته. ومن الواضح أن هذه المعركة ليست معركة عرضية ولا هي وهمية، أو تجري في خيالنا، بل أن ساحتها الرئيسية تقع في الأرض، في كل قرية ومدينة، فوق كل تلة ورابية وتحت كل حجر.. في كل شارع ونهر ووادي.. وسوف يلعب علم الآثار، في سياق هذه المعركة، دورًا إيديولوجيا مهما وملهما في خلق سرديات سيستخدمها السياسيون في صراعاتهم من أجل كسب شرعية السيطرة على الأرض فيما يتعلق بدولة "إسرائيل" وتاريخها وشعبها، حسب زعمهم.
في هذا الإطار، صدر كتاب "علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة: المعارك الأثرية على الكتاب والأرض في اسرائيل وفلسطين (1967- 2000)"، للباحث الآثاري النرويجي تيري أوستيغارد (Terje Østigård)، ترجمة: محمود الصباغ، صفحات للنشر والتوزيع، دمشق، 2003.
إن الهدف من هذا الكتاب، هو، "تقصى دور الآثاريات في خلق الهويات الدينية والقومية ما بين 1967- 2000، ومن ثم ثقويم مدى صحة هذه الحجج في الخطاب المعاصر"، أي "توضيح مجمل التحيزات القومية والدينية المضمرة منها والصريحة التي درجت البحوث الآثاريات الكتابية والقومية الإسرائيلية على ممارستها واستخدامها لشرعنة "إسرائيل" كدولة قومية".
يطرح المؤلف في مقدمة كتابه عدة تساؤلات: "أين هو تاريخ فلسطين؟ ما هي المسؤولية الملقاة على عاتق الآثاريين جراء المعرفة التي ينتجوها؟ ما هي المقاصد والاحتياجات، والدوافع، التي تقف وراء دعم الدولة القومية لعلم الآثار؟ وإلى أي درجة يقوم الآثاريون بإنتاج معلومات تلقى صدى لدى الدول القومية فتمنح، بموجبها، الدولة شرعيتها التاريخية والإقليمية؟".
يعود أوستيغارد لطرح أسئلة أخرى أكثر إلحاحًا: "فمن يملك الماضى هناك [فلسطين]؟ وكيف يستخدم الماضي في الحاضر؟ وهل هذه المقاربة تمثل موضوع بحث لعلماء الآثار، أم أن عملنا على التنقيب وتحليل اللقى الفخارية فقط؟".
يستنتج أوستيغارد ـ وهو محق في ذلك ـ "أنه لم يعد مجديًا، العمل على قياس طول النصال أو القطع الفخارية دون إبراز الكيفية التي أُنتجت فيها المعرفة الآثارية والطريقة التي استخدمت من خلالها هذه المعرفة في المجتمع المعاصر. ولذلك يميل الآثاريون الكتابيون، دائمًا، إلى تبني التأويل الديني، وبموازة ذلك يتجه، دائمًا، الآثاريون القوميون "الإسرائيليون" نحو اختيار التأويل القومي".
"أين هو تاريخ فلسطين؟ ما هي المسؤولية الملقاة على عاتق الآثاريين جراء المعرفة التي ينتجوها؟ ما هي المقاصد والاحتياجات، والدوافع، التي تقف وراء دعم الدولة القومية لعلم الآثار؟ وإلى أي درجة يقوم الآثاريون بإنتاج معلومات تلقى صدى لدى الدول القومية فتمنح، بموجبها، الدولة شرعيتها التاريخية والإقليمية؟".لذلك فهذا الكتاب "محاولة لمقاربة تاريخ "إسرائيل" والصراع على ماضي فلسطين، ليس من وجهة نظر اللاهوت وعلم الآثار الكتابي أو التاريخ الكتابي، بل من خلال خطاب يشتمل على طيف واسع من معاني الإثنية والثقافة المادية لدى الأ نثروبولوجيين والآثاريين الأوروبيين الشماليين".
يشير أوستيغارد إلى أن "إنتاج المعرفة الآثارية لثقافات ما قبل التاريخ التي قام بها الآثاريون الكتابيون استخدمت على يد "اإسرائيليين لشرعنة احتلال الأرض والممتلكات في الشرق الأوسط. ويقف الفلسطينيون وغيرهم من الإقليات الإثنية والدينية والسياسية على الطرف الآخر، كما يقف على ذات هذا الطرف الخاسر أيضًا مصداقية علم الآثار كممارسة علمية".
يطرح أوستيغارد سؤال، ذات شقين: "أي نوع من الكتب هو الكتاب [المقدس]؟ وهل من الممكن عقد صلة بين المواد الأثرية والنص المقدس؟. لا يمكن النظر إلى علم الآثار الكتابي باعتباره وحدة متفردة في التأويل الآثاري، فهناك ثمة اختلافات بين المؤلفين، والطريقة التي قاموا من خلالها بتأويل مادة العصر الحديدي في الشرق الأوسط. واخترت، لهذه الغاية، بضعة باحثين كتابيين، كأمثلة، لتسليط الضوء على مخاطر المقاربة المعرفية الحالية في التأويل الآثاري. ومعظم الأفكار المطروحة هي تأويلات سائدة قديمة وحديثة، وبالتالي فهي كلها تمت بصلة للخطاب الآثاري. وسوف يختار المتطرفون الذين سوف يسيئون استخدام المعرفة، "أفضل" معرفة متاحة لتناسب أهدافهم. فالتأويلات الواردة هي من النوع الذي يمكن استغلاله بسهولة لأغراض سياسية بطريقة سيئة، ضد رغبة المؤلفين، لكن هذا لا يهم طالما أنهم أنتجوا المعرفة المتاحة للجميع".
يوضح أوستيغارد أن "ثمة افتقار عام في الأساس النظري لعلم الآثار الكتابي بشأن تأويل المادة الأثرية، وما هية "الثقافة"، وكيفيه استخدام البقايا المادية في تعريف الإثنية أو وحدات اجتماعية أخرى. والممارسة التأويلية هنا مضمرة أكثر منها صريحة. حيث تمثل الافتراضات المضمرة مادة علمية ضبابية غائمة".
يجادل أوستيغارد، "أن الكثير من أفكار "علم الآثار الكتابي القديم" مازالت مرتبطة بصورة ضمنية في الممارسة العلمية "لعلم الآثار الكتابي الجديد". إن حركة علم الآثار الكتابي، بشكله الكلاسيكي، الذي هيمن على المشهد الأمريكي حتى سبعينيات القرن الماضي. كان تابعًا للدراسات اللاهوتية الكتابية أكثر من كونه فرعًا من علم آثار الشرق الأدنى". أن "المشكلة الرئيسة مع علم الآثار الكتابي هي في استخدامه كوثيقة تعبر عن حقائق تاريخية. وتحتفظ نقطة الافتراق هذه للتأويل الآثاري بإشكالية كبيرة، هنا تكون الممارسة العلمية بلا شك ضبابية". فـ"لا يوجد في أي مكان في الأدب المصري، في التاريخ، أو في السجل الأثري ، أي إشارة أو لقية أثرية يمكن أن تشير إلى أن "طلائع الإسرائيليين" كانوا في مصر في أي وقت مضى".
يعتبر الفخار أساس الحجج المرتبطة بالاستمرارية الإثنية حيث كان على الدوام واحدًا من أكثر الوسائط حساسية لإدراك وفهم الاستمرارية الثقافية أو من التغيير. و"يظهر الفخار عدم وجود عناصر "أجنبية"، فلا وجود لمؤثرات مصرية". حينئذ من المعقول القول بأن "جوهر السكان هو نفسه".
أما اعتبار "المنزل ذو الحجرات الأربع" أو المنازل ذات الأفنية، تنتمي للكتاب المقدس، وبالتالي ستلقي الضوء على "طلائع الإسرائيليين". يري أوستيغارد أن أصل "البيت الإسرائيلي" يكتنفه الغموض وعدم التأكيد. و "لم تؤيد الاكتشافات الأثرية في عاي وأريحا التقليد الكتابي، وقد بذلت محاولات عدة مختلفة لتفسير الأدلة الأثرية التي عثر عليها في عاي وأريحا في ضوء الوصف الكتابيي للغزو "الإسرئيلي" لهاتين المدينتين الملكيتين".
يعتقد أوستيغارد بأن "نتائج التبادل بين علم الآثار والكتاب هي نتائج مخيبة للآمال نوعًا ما، ورغم أن هذا كان متوقعًا على الأرجح.. لم يقدم علم الآثار، بشكل قاطع أو حتى مفيد، إجابات عن الأسئلة المطروحة غالبًا، وفشل في إثبات تاريخية الأسماء والأحداث الكتابية، لا سيما في الفترات المبكرة. ومع ذلك، يبدو غريبًا مواصلة الآثاريون الكتابيون عملهم على الرغم من درايتهم بهذه المشاكل. وكأن شيئًا لم يكن".
ينتقد أوستيغارد علم الآثار الكتابي بالقول: "لا يمكنني أن أتخيل كيف يمكن أن نأخذ علم الآثار الكتابي على محمل الجد، كفرع علمى من علم الآثار". فـ"لا ينتمي الكتاب وعلم الآثار لبعضهما لبعض، وفي هذا السياق يبدو علم الآثار الكتابي كحقل تناقض في المصطلحات، ومن غير الممكن لعلماء الآثار الكتابيين الفصل بين الكتاب وعلم الآثار طالما أنهم يتمسكون بمصطلح "علم الآثار الكتابي"، وذلك في أفق البحث والنظرة إلى العالم ـ بما في ذلك جميع الحقائق الوجودية والمعرفية ـ الأمر الذي يسمح بالقول بوجود أجندة خفية ومنحازة على الدوام".
يقترح أوستيغارد في صفحات الكتاب، استبدال مصطلح "علم الآثار الكتابي" بمصطلح "علم الآثار السوري/ الفلسطيني". ولكن "تغير الاسم ليس مهمًا طالما أن هناك شيء واحدًا لن يتغير قط، أي، استخدام السرد الكتابي بوصفه الإطار التأويلي المهيمن".
يشير أوستيغارد إلى استخدام الماضي كاستعارات للحرب الحالية، فـ"المعركة بين داود وجالوت يتم استخدامها رمزيًا كتعبير عن الشجاعة والبسالة". و"سقوط مسعدة في صحراء يهوذا هو مجاز سياسي يتشابك مع الماضي في "إسرائيل" اليوم". يمثل "غزو الماضي، إذن، بمثابة حرب إيديولوجية تعطي الشرعية لاحتلال أراضي الحاضر"ز
إن الإجراء المعياري المتبع في الاستخدام السياسي للماضي يتجلي في إنكار السكان الأصلانيين، "فالفلسطينيون هم: شعب بلا تاريخ ـ أو محرومين من هذا التاريخ بواسطة خطاب الدراسات الكتابية ـ ويصبح الفلسطينيون غير مهمين وغير معنيين بالموضوع، وأخيرًا غير موجودين".
وأخيرًا يطالب المؤلف الفلسطينيين، "بخلق ماضيهم الخاص، دون اللجوء إلى ذات الممارسة التأويلية للباحثين الكتابيين"، ويقترح "لتحقيق ذلك من خلال كتابة تاريخ الشعوب الكتابية التي تجاهل الباحثون الكتابيون كتابة تاريخهم. وبالتالي تجنب اإمبريالية بأثر رجعي".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب فلسطين كتابه التاريخ احتلال احتلال فلسطين كتاب تاريخ كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الطرد القبلي أو العجز مقلوباً.. قراءة سوسيولجية
تظهر لنا من حين إلى آخر إجراءات تتخذها القبيلة، تحمل طابعًا اجتماعيًا أو سياسيًا. فمثلًا، ترفض القبيلة إعادة الاعتراف بأحد أبنائها لأنه خرج بسلوك معين عن “الكود” القبلي القائم.
وهنا نجد أنفسنا أمام دلالات متعددة لهذا الفعل، تفتح أمامنا أسئلة كثيرة، منها: ما مدى قدرة القبيلة على الثبات والبقاء في القرن الحادي والعشرين؟ ما هي التأثيرات السياسية على الكود القبلي؟ إلى أي درجة تتأثر القبيلة بحالة الحرب والصراع؟ كيف ينعكس العنف السياسي على المجتمع؟ وما هي أشكال وصور العنف الاجتماعي؟ وما هي حدود سلطة القبيلة على الفرد؟
هذه الأسئلة الكثيرة ربما تتطلب مقاربة متعددة الزوايا، أعمق وأشمل من أن تحتويها هذه الخاطرة السريعة.
ويقودنا هذا إلى إعادة النظر في تعريف “القبيلة”: فما هي القبيلة؟
هي مجموعة من البشر مستقرين في نطاق جغرافي معين، تربطهم علاقة قرابة افتراضية، وتشكل لهم “العصبة” الأساسية. هذا التعريف يقتضي وجود تجانس لغوي (لهجوي) وثقافي وسياسي واجتماعي، يُعدّ جذرًا للتضامن داخل القبيلة.
وإذا نظرنا إلى الحالة اليمنية، فإننا لا نجد عناصر هذا التجانس مكتملة، والسبب أن الناس اصبحوا منتمين إلى بنية اجتماعية أوسع، هي الدولة، وقد ولّدت لديهم تقاطعات هوياتية متعددة ومتداخلة. كما أن معيشتهم ومصالحهم الاقتصادية دفعتهم للخروج من النطاق الجغرافي للقبيلة والاستقرار في مناطق أخرى، وخصوصًا المدن او في دول خارج اليمن.
كما أن الحياة السياسية في اليمن فرضت تنوعًا سياسيًا أثّر على التجانس داخل القبيلة، وبالتالي تغيّرت خارطة الولاءات وتراجعت صلابتها.
القبيلة اليوم في حالة عجز وتراجع
كمنظومة للحماية والضبط، لم تعد القبيلة -سيما في الهضبة الشمالية الغربية من اليمن – قادرة على الفعل، وهي الآن في آخر رقصاتها. لقد أثبتت عجزها الكامل أمام تغوّل الجماعة الحوثية، التي تعيد هندسة المجتمع، وتعيد توزيع السلطة داخله، لتضع “السيد” في قمة هرم السلطة السياسية والاجتماعية والدينية. وهكذا، تتحوّل القبيلة إلى تابع كلي في خدمة “السيد”.
لكن من المهم الإشارة إلى أن هناك دراسات حول القبيلة في اليمن اجريت في الوقت الراهن ضمن مقاربة جيوبوليتيكية، غير أن كثيرًا منها إما بالغت في تقدير قدرة القبيلة على خلق توافقات سياسية، عبر تعظيم دور آليات الصلح الاجتماعي، ومحاولة إدماجها في العمليات السياسية، دون الاعتراف بالفارق الجوهري بين المجالين. فبينما تركز القبيلة على قضايا محلية وبسيطة، تبقى القضايا السياسية أكثر تعقيدًا وأوسع نطاقًا.
أما النمط الآخر من هذه الدراسات، فركّز على دور القبيلة في الصراع. بعض هذه الدراسات نظرت إلى القبيلة ككيان مستقل، قادر على الفعل السياسي الذاتي، وهذه نظرة قاصرة؛ إذ لم تفهم لا طبيعة القبيلة ولا طبيعة السياسة في اليمن. فيما يرى نمط آخر أن القبيلة مجرد أداة من أدوات الصراع، تم توظيفها سياسياً، كما فعلت الجماعة الحوثية حينما استغلت “الشرف القبلي” لتطويعه ضمن رؤيتها الأيديولوجية المغلقة.
في خلاصة الأمر، أصبحت القبيلة مقيّدة بقيود لم تعرفها من قبل، وعادت إلى جلباب الزعامة الدينية الهاشمية، بعد أن حرّرتها ثورة سبتمبر – ولو جزئيًا – من تلك الهيمنة.
لكن هذا الضعف لم يحدث فجأة، بل عبر مراحل، أظهر فيها “الوعي القبلي” قدرة على التكيّف، بل وعلى الهروب إلى الأمام. المرحلة الأولى بدأت مع نشوء جيش (حديث) مع وضع النعت بين قوسين، مركز قيادته في المدينة وليس في قصور مشايخ القبيلة.
المرحلة الثانية تمثلت في تحوّل المدينة إلى فضاء متحرر – نسبيًا – من سلطة القبيلة، بفعل الاستقلال المالي والاقتصادي لافراد وأنخراطهم في وظايف حكومية او اشغال تجارية وخدمية.
وهنا يمكن الإشارة إلى عاملين: أولًا، تنامي الفردانية واستقلال الفرد عن الأطر الاجتماعية التقليدية؛ وثانيًا، خروج الفرد من الفضاء القبلي إلى فضاء أوسع، اتخذ فيه مسافة من الكود القبلي – دون الانفصال التام عنه – ما أتاح له هامشًا أوسع للحركة.
أما النقطة الثالثة، فتتمثل في نتائج الهجرة، وهي من الجوانب التي لم تأخذها بعض الدراسات الغربية بعين الاعتبار، حيث لا تزال تنظر إلى القبيلة اليمنية ككيان مغلق وعصي على التحول.
لكن الهجرة إلى الخليج – تحديدًا – أعادت توزيع السلطة داخل القبيلة وخارجها. فقد أتاحت للعديد من الأفراد فرص التعليم والعمل وبناء مكانة اجتماعية جديدة تقوم على الاستحقاق والملكية، لا على النسب أو الانتماء القبلي فقط.
الطبقة الجديدة التي تشكلت اقتصاديا بفضل عائدات التحويلات المالية استقرت في المدنية واتخذت لها أنماطا استهلاكيا جديداً خارج أنماط القبيلة.
كما ساهمت المدينة في توسيع هذا الفضاء، فصارت مصادر الرزق والحماية خارجه، وتراجعت الحماية القبلية إلى دور ثانوي أو احتياطي.
عامل آخر في هذا التراجع هو اتساع رقعة التعليم، وعلو شأن ايديولوجيا الحقوق وبروز مرجعية أخلاقية جديدة: مرجعية الحقوق. فقد هيمنت القبيلة في السابق على المرجعية الأخلاقية الإسلامية وأخضعتها لسطوتها، لكن المرجعية الحقوقية، بعالميتها، فتحت أفقًا جديدًا للناس، وقدّمت منظورًا مختلفًا للعلاقات الاجتماعية والسياسية.
وإذا نظرنا إلى بيئة العنف الواسعة في اليمن، نلاحظ أن القبيلة لم تسلم من التهميش.فالعنف الجاري سياسي المصدر، لكنه مشبع بالدوافع المذهبية والمناطقية، ويهدف إلى إعادة بناء التركيب الاجتماعي وفق معايير أيديولوجية مغلقة، يعاد فيها توزيع السلطة والثروة والمكانة داخل المجتمع.
ولأن القبيلة كانت طرفًا مركزيًا في المعادلة التقليدية، فقد تم تهميشها في هذه الهندسة الجديدة. خُسرت مكاسبها من جهة، ومن جهة أخرى، قُوّضت الدولة كمرجعية عليا، كان يمكن اللجوء إليها باعتباراها سلطة ما فوق القبيلة وتوافقيه وقادرة على امتصاص القبيلة.
العنف السياسي الشامل الذي تشهده اليمن منذ عشر سنوات على الاقل بطريقة مكثفة وغير مشهودة يعمّ كل المجتمع، ويدخله في دوامة من العنف المنحدر، من الأكبر إلى الأصغر. وفي هذه البنية، تقع القبيلة في حلقة وسطى، فتستقبل العنف من الأعلى -من اطراف ما دون الدولة ولكن بعصبية اشد تماسكا وأكثر عنفا على اسس مذهبية وسياسية- وتعيد إنتاجه على من هم دونها، أي على الفرد. تحاول القبيلة، من خلال ذلك، إعادة فرض سيطرتها على الفرد المغترب عنها، وكأنها تحاول ترميم سلطتها المتصدعة.
ظواهر مثل الطرد أو “الإقصاء القبلي”، كما نراها أحيانًا مع فنانين أو في حالات زواج تتجاوز الأطر القبلية، ليست إلا محاولات يائسة لعنفٍ تلقّى إهانة شديدة. لم يعد أمام القبيلة اليوم سوى أن تتشدّد في وقت ضائع، أو أن تأكل أبناءها، بعدما تلقت إهانة سياسية واجتماعية كبيرة خلال السنوات العشر الأخيرة.
المقال نقلا من صفحة الكاتب على “فيسبوك”