الطوفان كما في القاموس المحيط للعلّامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي «المطر الغالب، والماء الغالب يَغشى كل شيء.. ومن كل شيءٍ؛ ما كان كثيرا مُطيفا بالجماعة». لم تمر الأحداث الأخيرة على البشرية كما حصل مع الأحداث السابقة له، وأحد أهم أسباب ذلك هو مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت للصوت الحقيقي وغير المؤدلج بالحديث.
لم تحصل هزة كهذه منذ سنوات طويلة، منذ اجتياح العراق والعدوان الأمريكي عليها، أما نشوء داعش فكان كثير من الناس حتى البسطاء منهم يدركون أنها صنيعة استخباراتية بحتة. جاء طوفان الأقصى كالسيل الجارف فقصف أكذوبة الجيش الذي لا يقهر، الاستخبارات الأقوى في العالم؛ وفي المقابل أعاد تصحيح مفاهيم اقتربت من الزوال جرَّاء الطوفان الآخر، العولمة والأمركة. فعاد معنى الوطن وقداسته بعدما كاد مفهوم الوطن يقترب من كونه مصدر الدخل، ومتى ما انتفى ذلك المصدر فقد الوطن قيمته، فنجد الغزَّاوي الذي تم تجريده من كل شيء، كل شيء بالمعنى الحقيقي لا المجازي للكلمة، نجده متمسكا بأرضه لا يتزحزح عنها!، ونجد الطفل يذود عن أهله وبيته بأقصى ما يملك، الحجارة!، ونجد أن هؤلاء الناس جميعا -أهل غزة- يُحيُون كل يوم فينا معاني الكرامة والأنفة والصبر والذود عن الوطن وقدسيته في قلوبهم.
كما أن هذا الطوفان علمنا بأن الاعتماد على من نسميهم «أصدقاء» وقت السلم، لا يُعوَّل عليهم في أوقات الشدة. من لا يمد لك يدا وأنت توشك على الغرق، فلا فائدة من مدها وأنت تتماثل للشفاء والنجاة. كما أنها علمتنا أن بعض المساعدات التي تبدو خيرية إنسانية؛ لا يكون تحتها إلا اللؤم والمِنَّة وأهداف خبيثة لا يتوقعها إنسان من أهل اللسان المشترك والدين المشترك والوطن القومي الكبير!
إن مواقف سلطنة عُمان بدءًا من جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- وكلمته في افتتاح دور الانعقاد السّنوي الأول للدورة الثامنة لمجلس عُمان بمبنى المجلس بمحافظة مسقط، ومواقف وزارة الخارجية مع الوعي المجتمعي الكامل مع القضية الفلسطينية؛ لهو شيءٌ يثلج الصدر ويرفع مؤونة التحفظ من البوح بالحق ونصرة العدل لا كما يحدث في بلدان أخرى نعوّل عليها كشعوب عربية يجمعها اللسان والدين، وإن هذا النهج الرشيد سيبني خيرية الجيل المقبل لعُمان؛ لأن النشء الذي يتربى على قدسية الوطن والحفاظ عليه وتنمية مكتسباته والذود عن حياضه إن طرأ طارئ؛ لن يتأثر بالأبواق التي ترميه بالتطرف والعمالة وغيرها من الصفات والتهم التي عرّتها عملية طوفان الأقصى مؤخرًا. فلا يمكن بحال أن يعتبر المقاوم المناضل إرهابًيا! ولا يمكن بحال أن لإنسان يناصر الحق والعدل بصدق بأن ينظر إلى مذهب إنسان ويجعله القضية الرئيسية في الوقت الذي يتعرض فيه للإبادة!.
إن هذه المواقف المشرفة للحكومة تجاه القضية الفلسطينية، تستدعي أن نجدد المطالبة الصادقة بتشكيل لجنة من ثلة المثقفين العمانيين بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي لمراجعة وغربلة المناهج الدراسية وتطعيمها بما يسهم في بناء جيل جديد يعي ماضيه وعراقته ويبني عليه غدا أجمل وأبهى لعُمان. جيل لا يتأثر بطوفان الأمركة والعولمة في سياقيهما السلبي والنفعي، جيل يحقق رؤية عمان ويعمل عليها بصدق وإخلاص وتفانٍ. متمثلين بذلك قول المتوكل الليثي:
لَسنا وَإِن أَحسابُنا كَرُمَت
مِمَّن عَلى الأَحسابِ يَتَّكِلُ
نَبني كَما كانَت أَوائِلُنا
تَبني وَنَفعَلُ مِثلَما فَعَلوا
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کل شیء
إقرأ أيضاً:
ماذا لو أحببنا الوطن.. .؟
قد يبدو هذا المقال خياليًا بعض الشىء وبعيداً كل البعد عن ثوابت علم السياسة التى لا تعرف كثيراً كلمات مثل الحب والكره، وإنما تتعامل وفق المصالح المشتركة، وتحقيق المكاسب بكل طريق ممكن، ولكن ماذا لو جنبنا مرادفات السياسة، وقدمنا هذا الطرح المبنى على فكرة بسيطة جداً قد تندرج تحت اهتمامات علوم الاجتماع والفلسفة المتعارضة دائمًا فكرياً ومنهجياً مع علم السياسة؟
حب الوطن لا يتأتى أبداً دون أن يحب أبناء الوطن بعضهم ليحسنوا معاً، وبتلاحمهم أداء المهمة التى خلقهم الله من أجلها، وهى إعمار الأرض والبقاء على ثبات وتماسك مؤسسات الدولة، فهل نفعل هذا حالياً؟ أم أننا قد اختزلنا حب الوطن فى قلوبنا فى مجرد الشكل وابتعدنا عن المعنى الحقيقى لهذا الحب فلم يعد للود والتراحم بين سكان هذه الأرض وجود، وتبارى الأشقاء فى العداء لبعضهم وأسرفوا فى الأنانية فأصبح شعار البعص (أنا ومن بعدى الطوفان)؟
فكيف ندعى حب الوطن وقد تفننا فى السنوات الأخيرة فى الإساءة إلى بعضنا البعض وسادت روح النقد والتخوين وتوجيه الاتهامات جزافاً دونما أى موضوعية أو أدلة بشكل غير مألوف، فمن ليس معى فهو ضدى، ومن لا يوافقنى فى الرأي يصبح عدواً لى، ومن لا مصلحة لى معه يصبح فاسدًا ويستحل شرفه وعرضه، فيهان ويشهر به على الصفحات والمواقع؟
ماذا لو عادت الأخلاق كما كانت عليه قبل سنوات أو عقود ليست بالبعيدة؟ ولماذا أصبح هدف الجميع اليوم هو تثبيط الهمم والتشكيك فى أى عمل إيجابى يقدم لصالح الوطن وأبنائه؟ ولماذا تميزنا مؤخرًا فى قدرتنا الهائلة على إطفاء جذوة أى بقعة ضوء تبدأ فى التوهج تحت سماء الوطن؟ لماذا نحارب النجاح وننسى أن التنافس والغيرة فى النجاح شىء مطلوب وطيب لبناء الأوطان؟.. لماذا نقف بالمرصاد لكل من يقدم فكر جديد أو جهد مضاعف يميزه عن الآخرون؟ هل هى سنوات الفقر الإبداعى التى فرضت علينا هذا الواقع الأليم؟ أم أن هذا الوطن بالفعل قد أصبح بحاجة ملحة لثورة أخلاقية وفكرية متكاملة الأركان تعيد ترسيخ القواعد والأخلاق الاجتماعية التى تربى عليها السابقون فتميزوا وأبدعوا وهانت عليهم أرواحهم، وما يملكون فى سبيل الوطن.
إننا الآن أحوج ما نكون إلى عودة هذه المسميات التى كادت أن تندثر من مجتمعنا مثل الحب والإخاء، وإيثار مصلحة الوطن على المصالح الشخصية، ومساندة كل من يحاول أن يقدم جديدًا، وعدم محاربة نجاح الأشخاص لأنه فى النهاية هو نجاح للوطن بأكمله.. حفظ الله بلادنا الطيبة من تقلبات الأيام.. حفظ الله الوطن.