لجريدة عمان:
2025-05-13@17:09:05 GMT

مأساة صديقي الفلسطيني

تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT

أنا أحد الذين عاصروا القضية الفلسطينية منذ بداية الشتات الذي تعرض له الفلسطينيون عقب مأساة حرب ١٩٤٨، التي خاضها العرب بكل أمراضهم وهوانهم وانقساماتهم، وهي قضية نترك ملفاتها للتاريخ الذي سيظل شاهدًا على مأساة الفلسطينيين وعجز العرب عن مقاومة الصهيونية، التي تمكنت من احتلال فلسطين. وأعتقد أن ما يحدث الآن يذكرنا بالمشهد المأساوي منذ هذا التاريخ، فهاهم الفلسطينيون الذي تمسكوا بجزء صغير من أرضهم يتعرضون لمأساة أخرى لا تقل ضراوة عن المأساة التي أعقبت حرب فلسطين ١٩٤٨، مع الفارق حيث نشاهد الآن البيوت والأحياء وهي تنهار على ساكنيها كل يوم في مشهد مروع لا مثيل له في التاريخ الإنساني، وفي ظل حصار من البر والبحر والجو بهدف الدفع بالفلسطينيين لكي يتركوا ما بقي من أرضهم حتى ينجوا بحياتهم، وهي محاولات واضحة لتهجير كل قطاع غزة إلى سيناء.

أنا من الجيل الذي شهد كل الحروب التي خاضها العرب من أجل فلسطين، وشاهد على المآسي الإنسانية، ليس بالقراءة وعبر وسائل الإعلام فقط وإنما لارتباطي بكثير من الفلسطينيين الذين انتشروا في بلاد المهجر، وخصوصا وقد اختار بعضهم مصر للإقامة أو الدراسة، وأتذكر أنني ارتبطت بصديقين تعرفت عليهما أثناء المرحلة الجامعية «شقيقان»، عبد الرؤوف يوسف مصطفى ومصطفى يوسف مصطفى، الأخير كان يزاملني في الدراسة بقسم التاريخ في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، والأول كان يدرس في قسم اللغة العربية وقد التحق بالكلية ١٩٦٨، أما مصطفى فقد التحق بعد شقيقه بعامين وكان يتردد على باعة الكتب في منطقة الأزبكية، وكان مثقفا، شغوفا بالمعرفة، لذا كان ينشر بعض مقالاته وخواطره في صحيفة الجمهورية، وكان يوقّع على كتاباته «ابن السهل الساحلي»، وكثيرا ما كان يكتب عن هذا السهل الواقع على حدود مدينة «طولكرم»، وكنت أمازحه أحيانا قائلا له: أنت يا صديقي تكتب عن سهل لم تشاهده، وعن طولكرم التي لم ترها، ولم تتجول في شوارعها. وكانت إجابته حاضرة في كل مرة قائلا: إنني أعرفها وأستطيع أن أكتب عنها فقد استدعيت صورتها منذ طفولتي المبكرة، حينما كانت أمي تحدثني عنها وعن ساكنيها وحدائقها، وهي صورة لم تفارق مخيلتي أبدا، وخصوصا وأن أمي كانت تحتفظ بمفتاح منزلنا الذي تركناه وهاجرنا إلى الأردن.

توطدت علاقتي بمصطفى وبشقيقه عبد الرؤوف، الذي مسّته غواية الشعر، وكانا يقطنان في المدينة الجامعية «مدينة البعوث الإسلامية»، وأول مرة في حياتي أتناول «المقلوبة»، الأكلة الشهيرة التي ابتدعها الفلسطينيون، والتي كان مصطفى يجيد صناعتها، كما كان مصطفى محبا للصحافة والكتابة، وقد أنشأ مع صديقه اليمني «حسن اللوزي»، الذي كان يدرس في كلية الشريعة والقانون مجلة «النجم الثاقب»، وقد شاركتهما في حوار للمجلة أجريناه مع شيخ الأزهر وقتئذ الشيخ محمد الفحام، وكان حوارا شيقاً مع شيخ جليل درس الفلسفة في جامعة السربون، وأتذكر أنه حدثنا عن حياته في هذه الجامعة العريقة وذكرياته عنها، وأكثر الأساتذة الذين أثروا في حياته، وعن الكتب التي قرأها، وما زلت أحتفظ بنسخة من هذه المجلة حينما لم تكن هناك قيود على النشر، الذي كان متاحا حتى لمن هم في عمرنا، تخرّج مصطفى من الجامعة عام ١٩٧٤، وحصل على وظيفة معلم في اليمن الجنوبي، وانقطعت العلاقات بيننا، وإن كنت عرفت فيما بعد أنه انتقل للعمل بالمملكة العربية السعودية، وقد عاد إلى الأردن، التي اختارها وطنا له ولأولاده.

أما عبدالرؤوف فحكايته تطول، ومأساته كانت فوق طاقة البشر، فعلى الرغم من أنه التحق بالجامعة ١٩٦٨، إلا أنه لم يكن حريصا على الدراسة، فقد كان ينظم الشعر، ويجوب منتديات الشعراء والمثقفين في أنحاء القاهرة، وكان مرتبطا بمنظمة التحرير الفلسطينية، لذا عمل بإذاعتها بالقاهرة، وتزوج من ابنة أحد الفلسطينيين المقيمين في مصر، وتعثر في دراسته لدرجة انه لم يتخرج إلا في عام ١٩٧٩، وظل لثلاث سنوات يعيد امتحان مادة «الصرف»، وكانت علاقتي بعبد الرؤوف قد انقطعت بعد سفر شقيقه إلى اليمن، حتى فوجئت في شهر مايو من عام ١٩٧٩، حيث كنت أعمل مدرسا مساعدا في الكلية بحضور عبد الرؤوف لأداء الامتحان وبرفقته ضابط وجنديان، وقد قيدت يداه بقيد حديدي، ذهبت إليه في غرفة الأمن وهالني ما شاهدته، وطلبت من الضابط أن يفك قيده، وبعد رجاء وافق، وأرسلت أحد العمال ليحضر له إفطارا وسجائر، فقد كان مدخنا شرها، بعدها دخل قاعة الامتحان، وقد عرفت من شقيق زوجته طبيعة المشكلة التي يمر بها عبد الرؤوف، بعد أن حصلت على نسخة مصورة من قرار الاتهام الموجه له، والذي كان منحصرا في انخراطه في تنظيم يستهدف المصالح الإسرائيلية في القاهرة، وهو اتهام لم أر عليه دليلا قاطعا، إلا أن القضية أحيلت إلى محكمة أمن الدولة العليا، التي قضت بحبسه خمسة عشر عاماً، قضاها عبد الرؤوف كاملة.

في منتصف التسعينات وبينما كنت في إحدى ردهات الكلية إذا بعبد الرؤوف أمامي وجها لوجه، لم أتعرف عليه في البداية بعد أن سقط شعره وفقد أسنانه وملأت التجاعيد وجهه، وبدا رجلا كهلا لا علاقة له بعبد الرؤوف الذي أعرفه، احتضنته وبكيت، وبكى معي في مشهد مؤثر للغاية، تبين لي أنه حضر إلى الكلية بعد أن حصل على شهادة التخرج بعد أن أمضى في الكلية ما يقرب من ربع قرن! وكان رهن الاحتجاز في سجن القلعة حتى تتمّ إجراءات ترحيله إلى الأردن، حكى لي عبد الرؤوف عن مأساته الأكبر فعند سجنه كان لديه أربعة أبناء، جميعهم لم يلتحقوا بالدراسة، ولم ينالوا أي قسط من التعليم وقد أصبحوا شبابا لم يتعلموا ولم يمتهنوا أية مهنة، بحجة أن والدهم فقد إقامته منذ سُجن، وهو شرط الالتحاق بالمدرسة.

إنها مأساة تفوق مأساة عبد الرؤوف الشخصية، أعتقد أنني حاولت منذ أن عرفت بأزمة عبد الرؤوف وقبل الحكم عليه، فقد لجأت إلى الكثيرين في محاولة لإنقاذ هذا الشاب بادئا بالصحافة، لكن جميعها رفضت الخوض في الموضوع، ولجأت إلى الأستاذ خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع وقتئذ، وإلى الأستاذ إبراهيم شكري رئيس حزب العمل، حاملاً إليهما أوراق هذا الشاب، وطلبت منهما التدخل، إلا أنهما اعتذرا وخصوصا وأن الظروف السياسية وقتئذ كانت ملتبسة.

أمضى عبد الرؤوف خمسة عشر عاما، أفقدته حياته ومستقبله وأبناءه، كما فقد ذائقة الشعر الذي أحبه، ومضت السنوات وكان عبد الرؤوف دائما حاضرا في قلبي وفي عقلي، وبينما كنت في زيارة عمل إلى اليمن التقيت بالصديق المرحوم حسن اللوزي، زميلنا القديم والذي كان وزيرا للثقافة، وسفيرا لبلاده في عدة دول، ثم انتهى به الأمر عضوا في مجلس النواب، تحدثت معه عن صديقنا المشترك عبد الرؤوف، وفاجأني بأنه كان سفيرا لبلاده في الأردن، والتقى بعبد الرؤوف عدة مرات في بيته، وأفاض في الحديث عن مأساته التي انفطر لها قلبي، فأولاده الأربعة تطاردهم الشرطة في جرائم لا يجوز الحديث عنها، وعبد الرؤوف طريح الفراش بعد أن فقد ذاكرته، ويعيش مأساة إنسانية لا طاقة لأحد عليها، وحينما قلت له أن عبد الرؤوف كان يعمل في إذاعة فلسطين وكان معروفا لمعظم قادة فتح.. ألم يتذكره أحد؟ صمت حسن اللوزي ولم يعلق!

وهكذا انتهت حياة شاب كان مفعما بالحياة، محبا للشعر والأدب، شغوفا بالثقافة، ورغم ذلك لم يحظ من الحياة إلا قسوتها ومرارتها، ولعل عبد الرؤوف يعد واحدا من آلاف الشباب الذين دفعوا حياتهم من أجل فلسطين، ولم ينل حتى مجرد العناية من المنظمة التي أفنى حياته من أجل قضيتها الأولى «فلسطين» ما يزال عشرات الآلاف يستشهدون كل يوم من أجل قضيتهم الكبيرة. تحية إلى عبد الرؤوف يوسف إذا كان على قيد الحياة، ورحمه الله إذا كان فارق دنيانا التي لا تستحق الحياة فيها.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: عبد الرؤوف الذی کان من أجل بعد أن

إقرأ أيضاً:

صرخات من غزة تلخص مأساة الجوع في القطاع المحاصر

في مخيم مترب قرب الجندي المجهول وسط مدينة غزة، وقف أبو علاء الستيني، يضع بقايا الخبز اليابس بعناية فوق سطح خيمته المهترئة، تحت أشعة الشمس الحارقة. لم تكن تلك طقوسًا بدوية ولا عادة ريفية، بل محاولة يائسة لتحويل ما تبقى من طعام إلى لقمة قابلة للمضغ، تواسي بطونًا لم تذق شيئًا منذ أيام.

الخبز اليابس على سطح الخيمة «أضع بقايا الخبز الناشف على سطح الخيمة في الشمس لكي يصبح طريا ولينا، نعرف نأكله»، قالها الرجل بصوت متقطع ونظرة لا تخلو من خجل الكرامة الجائعة. ثم أردف خلال حديثه لـ«عُمان»: «لا يوجد خبز يا عمي، المخابز كلها أغلقت، وانقطع الطحين أيضًا، والموجود فاسد، وسعر الكيس منه 300 دولار. من أين نأتي بهذا المبلغ؟».

كانت الخيمة المحيطة به تأوي أسرته المكونة من سبعة أفراد، بينهم ثلاثة أطفال. الخبز اليابس هو وجبة الإفطار والعشاء، أما الغداء، فقد غاب منذ زمن، أو أتى في صورة «دقة» وزيت قلي، إن وُجد الزيت أصلًا.

«والله حينما نأكل هذا الخبز اليابس تتوجع بطوننا، ويجيب للعيال إسهال، لكن شو نعمل؟ يا هو يا نموت من الجوع»، أكمل بنبرة فيها استسلام وقهر، كما لو أن الحصار قد قضى على آخر محاولاته للصمود.

تأملنا وجه أبي علاء المكسو بالتجاعيد، ليس بفعل الزمن وحده، بل بفعل القهر المزمن، والسهر على بطون أطفاله الفارغة. لا دواء هنا، ولا غذاء، ولا أفق، فقط خبز يابس وشمس حارقة، وأمل باهت في أن تفتح المعابر يومًا ما.

حصار المعابر والمخازن الخاوية منذ إغلاق المعابر في الثاني من مارس 2025، لم تدخل إلى غزة أي مساعدات غذائية كافية، سوى شحنات محدودة ومتناثرة لا تفي بحاجات مليونين ونصف من البشر، نصفهم من الأطفال. ومع دخول الأسبوع العاشر من الإغلاق، بدت المجاعة أكثر قسوة ووضوحًا، لا في التحليلات الأممية، بل في وجوه الأمهات وأجساد الأطفال الهزيلة.

قال مكتب «المطبخ العالمي المركزي»، الذي يدير مئات التكايا ونقاط التغذية في القطاع: إن مخزونه من المواد الغذائية نفد بالكامل منذ منتصف أبريل، وإن أكثر من 85% من مطاعمه الخيرية أغلقت أبوابها، لعدم توفر الطحين والزيت والبقوليات.

«كنا نوزع أكثر من 100 ألف وجبة يوميًا، الآن بالكاد نُعدّ 5 آلاف، ولا تكفي سوى لجزء صغير من العائلات»، قال أحد مسؤولي المنظمة الدولية لـ«عُمان»، مؤكدًا أن استئناف توزيع الطعام مرهون بفتح المعابر البرية، لا سيما معبر كرم أبو سالم.

أما التكايا المحلية، التي طالما شكلت طوق نجاة لأفقر العائلات، فقد توقفت هي الأخرى عن العمل في غالبية المخيمات. «نحاول أن نُبقي الأمل حيًا، نطبخ ما تبقى من العدس أو الأرز، لكن حتى هذه المواد لم تعد موجودة»، قال عبدالهادي سرور مسؤول إحدى التكايا في منطقة النصيرات.

قمامة الطحين المدود في مشهد يلخص حجم الانهيار الإنساني، روت أم شروق شاهين، نازحة من خزاعة إلى خان يونس، كيف وجدت كيس طحين في مكب النفايات القريب، فأخذته إلى خيمتها، ونخلته علّها تُخرج منه ما يصلح للعجن.

«نخلت لأبنائي البنات، كيس طحين والله العظيم مدود، عثرت عليه في القمامة، مسكت الطحين والدود والسوس والصراصير والفئران يسرح فيه»، قالت وهي تغالب دموعها، مشيرة إلى صحن من البرغل بجوار الخيمة.

وتضيف بانكسار خلال حديثها لـ«عُمان»: «مش لاقية رغيف الخبز أطعمه لبناتي. استيقظوا جائعين، مش لاقيين اللقمة، حطيت لهم صحن برغل».

الحكاية ليست نادرة. فكثير من العائلات باتت تفتش في القمامة عن كيس من العدس أو علبة طماطم منتهية الصلاحية. في أحد المخيمات قرب الزوايدة، شاهدنا أطفالًا يقلبون الحاويات، ويبتسمون عند العثور على قطعة معلبة أو كسرات خبز يابسة.

بقايا الطعام على الأرض في أحد أزقة مخيم البريج، وقف طفل في العاشرة من عمره، يحمل كيسًا بلاستيكيًا، يجمع فيه ما يتساقط من أرز وعدس على الأرض أمام أحد مراكز التوزيع. كان الأطفال يتدافعون بين الأرجل، يلقطون ما يمكن التقاطه، ولا يبالون بالتراب أو الذباب.

«وجدنا شوية رز سقط على الأرض، ولقينا مغرفة فيها عدس قديم، ووضعناهم في الكيس»، قال حسن أحمد، الذي فقد والده في القصف على المغراقة، ويعيش مع أمه وثلاثة إخوة. مضيفًا لـ«عُمان»: «أمي بتسلقهم بالليل، لكي نأكل الصبح».

قرب تكية خيرية في خانيونس، شاهدنا أطفالًا يتجهون إلى أواني الطبخ الفارغة، يمسحون بقايا الطعام بأيديهم، ويلعقونها، وبعضهم يضعها في قطعة ورق أو كيس نايلون. «بقعد انتظر لما يخلصوا الأكل، وأشوف شو يبقى على القدر، مرات بلاقي عدس، مرات بلاقي رز، مرات أجد...»، قالت طفلة تُدعى هديل (8 أعوام)، ترتدي عباءة بالية وممزقة عند الأطراف.

شهادات البطون الخاوية أم محمد بدوان، نازحة خمسينية من الشجاعية، تقول إن الناس كانت تعيش على أطعمة التكايا، لكن حتى هذا الخيار لم يعد متاحًا. «الناس هنا وضعهم صعب كثير. لولا التكيات الخيرية لماتوا جوعًا. حتى التكية أيضًا بتساعدش معاهم؛ لأنه في عندك أطفال في عندك مرضى كبار في السن بدهم أكل صحي».

وتضيف لـ«عُمان»: «أنا ابني مريض سكري، شو أطعمه؟ ما في حليب، ما في فواكه، ما في خبز، حتى الخضار ما شفناها من أسابيع. بنطبخ كل أسبوع مرة عدس، والباقي خبز ناشف وملح».

أما أم تامر لبد، نازحة أربعينية في النصيرات، فكانت أكثر صراحة: «بين المغرب والعصر نأكل طعمية، أو ما نستطيع عليه، فاكهة مقطوعة، خضار مقطوعة، حليب غير موجود، لا يوجد أي حاجة تسد».

تشير لـ«عُمان»: «نأكل على الغداء دقة وخبز ناشف، إذا تواجد الخبز أيضًا، ولما بنلاقيش خبز نأكل دقة وزعتر، ويبقى يوم عيد لما نلاقي شوية أرز وعدس عند الجيران».

وفي الشمال، حيث القصف لا يهدأ، تقول أم رامي بارود، نازحة من بيت لاهيا، إنها كانت تطبخ لأطفالها من الطحين الفاسد الذي حصلت عليه من إحدى الجمعيات. «فيه ريحة عفن، بس شو نعمل؟ نغربله، ونشيله من الدود، ونخبز على الطابون».

الأطفال في قلب المجاعة ليست وجوه الأطفال وحدها من نحلت، بل ضحكاتهم، وألعابهم، وأحلامهم الصغيرة. في مخيمات الوسطى، أصبح جمع بقايا الطعام لعبة جديدة، تشبه البحث عن الكنز. يحملون أكياسهم الصغيرة، ويتجولون بين الخيام، يسألون: «عندكم أكل زايد؟».

إبراهيم نصار، طفل في التاسعة من دير البلح، قال لـ«عُمان»: «أنا بجمع بواقي الخبز من الناس، أمي بتطحنهم وبتسويهم شوربة». فيما كانت أخته سارة (6 سنوات) تحضّر علبة معدنية فيها بقايا أرز: «هذا من دار خالتي، ما أكلوه كله».

وحين سألنا أحد الأطفال: «شو نفسك تأكل؟»، أجاب بصوت خافت: «تفاحة... بدي تفاحة حمراء، متل اللي كنت أشوفها بالروضة».

جوعٌ يتوحش وأبوابٌ مغلقة في تقريرها الأخير، قالت منظمة الصحة العالمية: إن هناك مؤشرات واضحة على تفشي سوء التغذية الحاد بين أطفال غزة، وإن الآلاف منهم مهددون بالموت إن لم تُفتح المعابر فورًا، وتُستأنف المساعدات الغذائية والطبية بشكل آمن ومنتظم.

المعابر مغلقة، والمجتمع الدولي يكتفي بالإدانات والقلق. أما الواقع، فهو عائلات تحرق أثاثها لطهي العدس، وأطفال يقتاتون الأرز والعدس من مكبات القمامة، وشيوخ يتحايلون على يُبس الخبز في عين الشمس.

في هذه الأرض المحاصرة، صار الجوع سلاحًا جديدًا، يُستخدم بلا ضجيج، ويقتل بصمت. لا نيران، لا دخان، فقط بكاء خافت في الخيام، وأنين بطون تأكل بعضها بعضًا.

مقالات مشابهة

  • هبة من البرازيل إلى لبنان
  • مأساة زفاف كركوك.. حصيلة الضحايا ترتفع والمرور تروي ما حدث
  • كاسترو: جيسوس صديقي ولديه خرافة في المباريات .. فيديو
  • موكب زفاف يتحول إلى مأساة بكركوك.. مصرع سائق حرقاً وإصابة أربعة من عائلته
  • دورا مدينة التلال الكنعانية التي لا تنحني.. حكاية الأرض والمقاومة والتجذر الفلسطيني
  • فرحة الصعود تتحول إلى مأساة: إصابات خطيرة في احتفالات هامبورج
  • مأساة غير مسبوقة.. هكذا يعيش النازحون في قطاع غزة (شاهد)
  • صرخات من غزة تلخص مأساة الجوع في القطاع المحاصر
  • انطلاق فعاليات الأسبوع الثقافي بمكتبة مصر العامة احتفالاً بمرور 30 عاماً على تأسيسها
  • إغلاق التكايا.. مأساة جديدة تفاقم المجاعة في غزة