القتل للسياسة قتل للسياسة: حدار الدم
تاريخ النشر: 20th, December 2023 GMT
(من يوميات ثورة ديسمبر 27 يناير 2019)
دولة الإنقاذ حالة استثنائية للتعطش للدماء. يكفي أن البشير لم يجد، وخيط دماء شهداء الثورة لم يجف، بداً من الفحيح ب"فلترق كل الدماء" والتعثر في آية القصاص. وأزهقت الإنقاذ أرواح شباب الحركة الإسلامية لرفع معنويات القوات المسلحة التي ضرب اليسار الجزافي وغيرهم عليها عزلة سياسية موجعة خلال حربها مع الحركة الشعبية.
الإنقاذ هي الحكومة حين تصير سَفّاحاً بلا أعراف. ومع ذلك لم تبتدع القتل في السياسة عندنا، ولكنها "بدّعت" كما يقولون. واسهدني هذا القتل في السياسة فتوافرت على دراسته كما تجلى في مذبحة بيت الضيافة ومحاكم الشجرة 1971. وقلت في كتابي "مذبحة بيت الضيافة: التحقيق الذي يكذب الغطاس" (2018) إن القتل فشا فينا، وأضغننا، وحقننا ب "دم تاير" داؤه الفصادة أي كشف الغطاء عن كل المقاتل بتحقيق يشفي الأمة من الثأر.
كثيراً ما قلت عن أحدهم إن القتل للسياسة هو قتل للسياسة. وقتلت الإنقاذ من جم فاستحالت ممارسة السياسة في ساحتها. ومن طلبها صار بين أمرين: أن يلحس كوعه أو يطالعهم في خلاء الله أكبر. واستجابت قوى كثيرة لهذه المطالعة. ومتى سألت عن اختيارها للعمل المسلح قالت ألم تسمع الإنقاذ تستحثنا عليه. وماتت السياسة بالنتيجة في بيئة تعسكرت حتى الثمالة للمستطيع ولغير المستطيع. وضرب الجفاف المجتمع المدني الذي لم يطلبوا منه سوى الفرجة على صراع الديكة العسكرية.
السياسة بالأحرى هي حقن الدماء. وسمعت شعراء الكبابيش يطرون مشائخهم ل "حدار الدم" أي تلافي الاقتتال بالفدية وحقن الدم ألا ينحدر، ألا يسيل. وقال بهذا الفهم نفسه المنظر السياسي الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) الذي عاش في القرن السابع عشر خلال فترة الحرب الأهلية الإنجليزية. فنزعت تلك الحرب الملكية من سدتها، ثم عادت بعدها، وأهرقت دماء وأرواحاً. فقال هوبز إن سيادة السلطة السياسية لا تقع متى لم يخش الناس الموت. ولم تكن خشية الموت فاشية على عهد هوبز. فأهل عصره كانوا ممن يغامرون بحياتهم فداء لعقائدهم مغامرة أدت إلى حروب أوربا المعروفة بحرب "الثلاثين عاماً" وغيرها. وكانت مهمة هوبز الفكرية أن يجادل قومه ليغرس فيهم خشية الموت طلباً لحكم تراض وطني.
وكانت المسيحية هي أكبر عقبة وقفت في وجهه لأنها اعتقدت في خلود الروح. فقد كان استعداد المسيحيين للموت طاغياً وهو ما ينذر بالفتنة المدنية. فليس تقوم للنظام المدني في رأي هوبز قائمة إذا كانت إراقة الدماء على قفا من يشيل. فلو كان للسياسة من معنى فعليها أن تهمش غرائزنا للموت، أو تبطل من مفعولها ما استطاعت. فلابد لنا من توقير الحياة إذا أردنا للمجتمع المدني أن ينشأ ويستتب. ولذا جعل هوبز للدولة، كمحتكر لإدارة العنف، وحدها سلطة الحياة والموت على الناس. ومن رموز ذلك أنه ما يزال لا يُعدم أحد في الدولة بعد حكم القضاء عليه إلا بعد تصديق من الوالي أياً كان. وصار من دارج الحديث قولنا إن عمل السياسة يكف متى ارتكبنا العنف. فالقتل من أجل السياسة هو قتل للسياسة نفسها في نهاية المطاف.
خلع هوبز فقه الدولة من فقه الدين لأنه رأى أنه لا قيام لمجتمع سياسي في ظل خصومة الدين وملله ونحله. ولكنه كرس الحاكم سلطاناً مطلقاً حرّم الثورة عليه ليؤمن المجتمع من غائلة الفتنة والتقاتل. ويذكرنا هذا الاستئصال لمعارضة الحاكم ببعض أهل السنة على أيامنا هذه الذين خرجوا يروجون لأحاديث نبوية تنهي عن مس الحاكم الذي سيأتينا في شكل شيطان يضربنا ويقلع حقنا ولا نقول "بغم". ووجد هوبز معارضة من معاصره جون لوك (1632-1704) الذي جوز معارضة الحاكم وخلعه.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
خور عبد الله ليس ملفاً مغلقاً: رد على مقال “السياسة” الكويتية
22 مايو، 2025
بغداد/المسلة: طالب محمد كريم
في مقاله المنشور مؤخراً بصحيفة “السياسة” الكويتية، شنّ الكاتب حسن علي كرم هجوماً لفظياً مبطناً على الأصوات العراقية الرافضة لاتفاقية “تنظيم الملاحة في خور عبد الله”، واصفاً المنتقدين بـ”الحاقدين”، و”المرضى نفسياً”، بل و”الجهلة الذين يملؤون عقول البسطاء بالأكاذيب”.
ورغم أن المقال لا يقدم حججاً قانونية جديدة، إلا أنه يعكس نموذجاً من الخطاب السياسي الذي يرفض الحوار، ويستبدله بلغة الاستعلاء والتحقير.
إن الطعن في الاتفاقية الذي تقدّم به نواب عراقيون، وأيّده القضاء الدستوري، لا يخرج عن كونه إجراءاً قانونياً يستند إلى الدستور العراقي، لا إلى عقدة نفسية. فالمحكمة الاتحادية العليا أبطلت التصويت البرلماني على الاتفاقية استناداً إلى المادة (61/رابعاً) التي تشترط تصويت ثلثي أعضاء مجلس النواب على الاتفاقيات ذات الطابع السيادي، وهو ما لم يتحقق في تصويت 2013.
إن محاولة اختزال الموقف العراقي في حالة “نكران للقرارات الدولية” أمر مجافٍ للحقيقة، فالعراق لا يطعن في قرار مجلس الأمن رقم 833 لعام 1993 من حيث صدوره، بل في ما تلاه من اتفاقيات ثنائية جرى تمريرها بطريقة غير دستورية. والاتفاقية محل الطعن لا تتعلق بترسيم الحدود وفق القرار الأممي، بل بتنظيم الملاحة – وهو تنظيم جرى بشروط غير متكافئة، وبموافقة سياسية أُخذت في ظرف سياسي غير ناضج.
الأدهى أن الكاتب نفسه يعترف – ضمنياً– بخلل التوازن، حين يورد أن الخور قُسّم بحيث كان الجزء العميق من نصيب الكويت، بينما حصل العراق على الجزء الضحل مع “وعد بتعميقه”. كما يؤكد أن ميناء مبارك بُني على طرف الخور مباشرة، في حين أن ميناء الفاو العراقي لا يطل عليه، ما يضع العراق أمام تهديد استراتيجي حقيقي يتعلق بسيادته البحرية ومشروعه الاقتصادي.
فهل المطالبة بإعادة التفاوض، أو الاعتراض على آلية التصديق، هي شتيمة؟ وهل الدفاع عن السيادة الوطنية صار نوعاً من “الجهل” أو “التحريض”؟
ما نحتاجه اليوم، ليس نصوصاً تستدعي الغزو في كل مرة يختلف فيها العراقي مع الكويتي، بل نحتاج لغة تتحدث بمسؤولية، تتعامل مع الجار باحترام، لا بوصاية. فإن كنتم تثقون بعدالة قرارات مجلس الأمن، فنحن نحتكم إلى عدالتنا الدستورية أيضاً.
الاعتراض العراقي ليس مرضاً، بل تعبير عن وعي سيادي، يُريد أن يعيد ترتيب أوراق الدولة على أسس قانونية رصينة.
ولا يجوز لأي خطاب إعلامي أن يضع الموقف السيادي في مقابل الشعور بالذنب التاريخي، أو يستبدل المنطق السياسي بالتقريع الأخلاقي.
لسنا بلا ذاكرة، ولسنا ضد العلاقات المتوازنة، ولكننا – أيضاً– لسنا بصمتنا شركاء في خنق أنفسنا.
ختاماً: نمد يد الحوار من موقع السيادة لا من موقع الخضوع، وندعو العقلاء من الشعبين إلى استئناف الحديث بلغة القانون والتاريخ لا بلغة التحقير والتشهير.
العراق بلد الذاكرة الطويلة، والسيادة لا تُقايض بالخرائط، ولا تُكمم بالاتهامات …
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts