بقلم: اللواء د. شوقي صلاح

لعلنا نتفق على أن أهم ما أسفرت عنه نتائج حرب طوفان الأقصى بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أشهر من بدايتها، أن كل الأطراف خاسرة.. فإسرائيل تكبدت خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة منذ نشأتها عام 1948 وحتى الآن، ولم تحقق أي هدف من أهداف الحرب، فلم تقض على قدرات المقاومة، ولم تحرر أسراها ورهائنها بالقوة، وخسرت معركتها الإعلامية على المستويين الدولي والداخلي بامتياز؛ فقد انتفضت شعوب الغرب احتجاجًا على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، كما انتفض جانب كبير من الداخل الإسرائيلي ضد سياسات الحكومة خاصة بالنسبة لملف الرهائن والأسرى، هذا ومن ناحية أخرى، فإن قطاع غزة قد تضرر على المستوى البشري، حيث تجاوز عدد الشهداء -حتى تاريخ كتابة هذه السطور- ما يزيد على الواحد والعشرين ألفًا، ناهيك عن عشرات الآلاف من الجرحى، كما تهدمت عشرات الآلاف من المساكن والمستشفيات والمرافق الأساسية الأخرى في القطاع، لذا فإن أطراف الصراع خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ترى أنه من الضروري إنهاء هذه الحرب قبل اتساع نطاقها.

– هذا، وساهمت مصر وقطر في التوصل لهدنة مع تبادل للرهائن بالمعتقلين في السجون الإسرائيلية، ثم عادت الحرب مرة أخرى، وتقدمت مصر الآن بمبادرة من ثلاثة مراحل.. تنتهي بإنهاء الحرب وتبادل كامل للمعتقلين والأسرى لدى طرفي الصراع، ومع هذا فإن حل الدولتين الذي بات هدفًا استراتيجيًّا لمنع تجدد هذا الصراع مستقبلًا.. يواجه تعنتا إسرائيليًّا، خاصة في ظل وجود حكومة هي الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، لذا فلا تتعجب من القول بأن: اتساع دائرة الصراع هو العامل الجوهري المؤثر إيجابًا على خضوع إسرائيل لخطوة حل الدولتين.. .

* رؤية استشرافية لمسار إنهاء الاحتلال وحل الدولتين

– على غرار الاتحاد الأوروبي – الذي تأسس بناء على معاهدة “ماسترخت” التي دخلت حيز التنفيذ في نوفمبر 1993- ويضم في عضويته 27 دولة، نطرح في هذا المقام فكرة تأسيس اتحاد دولي جديد، نقترح تسميته بـ: “الاتحاد الإبراهيمي- The “Abrahamic Union نواته الأولى دولتا: إسرائيل وفلسطين، وهو اتحاد سياسي له بعد ديني.

– وجدير بالذكر أن هذا الاتحاد الذي يتأسس بعضوية الدولتين المشار إليهما، يمكن أن يضم في عضويته دولاً أخرى.. ونؤكد في هذا السياق على أن هذا الطرح يختلف عن فكرة سبق تقديمها وتم رفضها من دول في مقدمتها مصر، ألا وهي فكرة استحداث “الديانة الإبراهيمية” التي تجمع الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، ففكرة دول الاتحاد الإبراهيمي المشار إليها هو اتحاد سياسي، اقتصادي، عسكري، ثقافي… والبعد الديني يمنحه قوة روحية لا أكثر، ولعل هذا يحقق لإسرائيل هدفًا استراتيجيًّا تسعى جاهدة لتحقيقه، ألا وهو أن تنتهي روح العداء لكل الدول المحيطة بها، فإسرائيل رغم عقدها اتفاقيات للسلام مع دول عربية في محيطها الإقليمي وأهمها مصر، إلا أنه؛ على المستوى الشعبي فإن العداء مازال قائمًا.. لذا فمن مصلحة إسرائيل والعرب تغيير هذا الواقع المرير.  

رسالة بايدن للحكومة الإسرائيلية: لن نسمح لكم بتهديد أمننا القومي

– لقد وصل الحال بالرئيس بايدن؛ أن طلب من نتنياهو وحكومته الخروج من سدة الحكم في إسرائيل، حيث يُصر الأخير على ارتكاب المزيد من أعمال الإبادة الجماعية لسكان غزة المدنيين وإطالة أمد الحرب، مما يهدد باتساع نطاقها.. وهو ما يضر باعتبارات الأمن القومي الأمريكي، حيث ستصبح القوات الأمريكية المتمركزة في منطقة الشرق الأوسط ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في بؤرة الاستهداف، كما أن مخازن أسلحتها الاستراتيجية الموجودة في إسرائيل ستصبح غير آمنة بالقدر الكافي.. ناهيك عن الاستنزاف الحاد الذي سيصيب قدرات الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل بشأن الأسلحة والذخائر، خاصة وأن اتساع نطلق الصراع سيطول أمده كثيرًا.. ويبدو من تحليل المشهد العسكري الراهن أن دول المنطقة التي يمكن أن تدخل دائرة الصراع قد أعدت العدة تمامًا لمثل هذه المواجهة الكبرى، ولنا في هذا المقام أن نوجه تساؤلين للحكومة الإسرائيلية:

* حال اتساع نطاق الصراع، هل تضمنون فاعلية القبة الحديدية في منع عشرات الألاف من الصواريخ التي ستستهدف في توقيت زمني محدود، أهم وأخطر الأهداف الاستراتيجية في إسرائيل؟؟؟ هذا، وفي توقيت الاستهداف الصاروخي المشار إليه، ماذا تتوقعون من الملايين من سكان غزة والجنوب اللبناني أن يفعلوا ؟؟؟

  

– وطالما أن التساؤلين المذكورين موجهان للحكومة الإسرائيلية، فأرجو ألا يندفع أحد بالقول: “إسرائيل تمتلك أسلحة ردع نووية وهي قادرة على استخدامها حال تهديد أمنها القومي”.. فهذا الادعاء فيه تسرع من زاويتين: الأولى: أن بالمنطقة من يمتلك أيضًا ما يكفي من أسلحة الردع، وإن كانت غير نووية.. والثانية: ما يدريك؛ فربما طورت دولة ما قدراتها النووية لمستوى التصنيع العسكري؛ خاصة بعد ما تم من تعاون عسكري واسع النطاق صاحب الحرب الروسية الأوكرانية… 

– تدعي إسرائيل بأنها تتفاوض من منطلق الطرف الأقوى، القادر على فرض شروطه التفاوضية، بينما نتائج العمليات البرية – حتى الآن- تؤكد تكبدها خسائر فادحة، ولعل أهم أسباب هذه الخسائر، إنما يرجع لعدم احترافية المقاتل الإسرائيلي، فالمَشَاهد التي عرضتها فصائل المقاومة، أقوى دليل على تدني قدراتهم المقاتل الإسرائيلي في مواجهة فصائل مقاومة محدودة الإمكانات من حيث التسليح والتجهيز.. فالمقاتلون الإسرائيليون الذين تم استدعاؤهم لساحات القتال، مدنيون تعلموا فقط الحد الأدنى من مهارات القتال، لمواجهة عناصر مقاومة عقيدتهم: “النصر أو الشهادة”؛ وهذه العقيدة القتالية استطاعت دحر أكثر العناصر احترافية في لواء جولاني الإسرائيلي، وهذا ما يبرر قيام حكومة الحرب بتسريح عشرات الألاف من جنود الاحتياط.. ليعودوا لأعمالهم، فوجودهم في ساحات القتال بلا فائدة تذكر، بينما الاقتصاد الإسرائيلي ينهار…    

– وبهذا، فإن إسرائيل مخيرة بين أمرين – كلاهما مــر-؛ الأول: أن تعاند بالاستمرار في الحرب، ومن المؤكد في هذه الحالة أن نطاق الصراع سيتسع، وعليها أن تتحمل تبعات هذا الأمر، خاصة ما يتعلق بهجرة ملايين المواطنين الإسرائيليين.. ويحضرني في هذا المقام الآية القرآنية الكريمة التي توضح موقف بني إسرائيل من سيدنا موسى عليه السلام عندما طالبهم بالقتال كأمر ألا وهي: قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ” 24 المائدة.

الثاني: البداية الحقيقية لحل الأزمة الراهنة هو تغيير الحكومة الإسرائيلية، لتأتي أخرى أكثر برجماتية، ولا تحمل على عاتقها أوزار الماضي، لتبدأ في أعمال تفاوض تشتمل على حل عادل للقضية الفلسطينية، بما يضمن أمن إسرائيل. وهناك قادة للمقاومة في السجون الإسرائيلية تستطيع إدارة المرحلة، بما يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني، ولا شك أن الإدارة القادمة لعمليات التفاوض تحتاج لإبداع سياسي، وقادة أقوياء وحكماء... 

اللواء د. شوقي صلاح

الخبير الأمني وأستاذ القانون بأكاديمية الشرطة المصرية

 

Tags: أنور الساداتإسرائيلطوفان الأقصىمصر

المصدر: جريدة زمان التركية

كلمات دلالية: أنور السادات إسرائيل طوفان الأقصى مصر فی هذا

إقرأ أيضاً:

صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان

في 25 فبراير/شباط 2024، وبعد أشهر قليلة على بدء العمليات الوحشية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الجندي القوات الجوية الأميركية آرون بوشنِل (25 عاما) أمام سفارة إسرائيل في واشنطن بالولايات المتحدة، وأشعل النار في نفسه، احتجاجا على تواطؤ بلاده وجيشه الصريح مع الإبادة الجارية في غزة، وصرخ "فلسطين حرة" حتى فارق الحياة.

لم يكن بوشنِل الوحيدَ الذي لم يحتمل وطأة الإبادة في غزة، رغم أنها تبعد عنه آلاف الأميال.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دوليlist 2 of 2لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟end of list

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد قرار تسليح إسرائيل المفتوح من قبل إدارة بايدن، قال المسؤول الأميركي جوش بول، المدير السابق للشؤون العامة والتشريعية بهيئة الشأن العسكري-السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، في خطاب على "لينكد إن": "لقد تنازلت عن معاييري الأخلاقية في هذا المنصب مرات لا حصر لها.. وعاهدت نفسي دوما أن أبقى طالما أن الضرر أقل من الفائدة التي أحققها.. لكنني أرحل اليوم لأنني أعتقد أن مسارنا الحالي.. جعلني أصل إلى نهاية تلك المعادلة".

في يوليو/تموز 2024، لحق به المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، مايكل كيسي.. "لقد سئمت الكتابة عن القتلى من الأطفال.. وأن أبذل جهدا باستمرار كي أثبت لواشنطن أن هؤلاء الأطفال ماتوا بالفعل.. كلما ازداد علمك بتلك القضية، واجهتك حقيقة لا مفر منها وهي أن الوضع سيئ للغاية".. هكذا صرّح كيسي في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية.

على حد وصفه، بدأ بعض زملائه يمزح حول عدم جدوى التقارير في التأثير على صناع القرار في واشنطن، الذين فضّلوا دوما الانحياز إلى السردية الإسرائيلية، قائلا إنه لا أحد في الإدارة يقرأ تقاريره ولو وضع فيها نقودا هدية.

منذ بدء طوفان الأقصى قبل عامين، تباينت ردود الأفعال في أنحاء العالم بين التضامن والصمت والتضييق، وظهر بون شاسع بين التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع وبين الرغبة في التضييق على الحقائق وعلى أي محاولة للتضامن من جهة الحكومات الغربية، مما دفع بعض المسؤولين -مثل كيسي وبول- إلى تغليب بوصلتهم الأخلاقية على منصبهم الرسمي.

إعلان

وقد جرى الحديث لفترة في الأسابيع الأولى حول "تناسُب" رد الاحتلال على العملية الفلسطينية، لكن مع استمرار الحرب على غزة اتسعت دائرة المتابعين والمهتمين حول العالم، وتغيّرت القناعات واتجاهات الرأي العام لما شكّله الحدث من اختبار حقيقي للأخلاقيات والقيم والمواقف السياسية التي يعتنقها الكثيرون في المجتمعات الغربية، بالإضافة للاختبار الحقيقي الذي مثّلته هذه الحرب للقوانين الدولية التي تدّعي الحكومات التمسك بها.

بعد مرور شهور، وتأمُّل التأثير الواسع للطوفان، يمكن القول إن صدمة عميقة أصابت الشعوب حول العالم إزاء ما يحدث في غزة من إبادة يومية. فمنذ بداية الطوفان، بدأ كثيرون يكتشفون أن رد الفعل الإنساني الطبيعي تجاه ما يحدث للفلسطينيين -وهو التعاطف والتضامن معهم- غير مقبول أو مسموح به من قبل كثير من الحكومات حول العالم.

وتعزَّز ذلك الشعور حين توالت فصول الحرب على غزة، وازدادت بشاعتها بحيث لم يَعُد يمكن الدفاع عنها أو التبرير لها بوصفها "ردا" على عملية 7 أكتوبر. وفي خضم هذا الواقع، أدركت الكثير من الشعوب أننا في نظام دولي يسمح بارتكاب إبادة جماعية على الهواء، ولا يسمح حتى بالتضامن مع المظلومين.

آلاف الأشخاص يتظاهرون في مدينة شيكاغو بولاية إلينوي الأميركية دعما لغزة في 21 أغسطس/آب 2024 (الأناضول)الصدمة الأولى.. التضامن ليس مسموحا

قبل أن ينقضي شهر واحد على طوفان الأقصى، وأمام قتل الاحتلال آلاف الأشخاص في غزة، بدأت المظاهرات تَعُم العواصم الأوروبية والعالمية، في اليابان والنرويج وهولندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث خرج مؤيدو القضية الفلسطينية مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها لم تمض بسلام. ففي دول كثيرة رفعت الشرطة استعدادها واعتقلت عددا من النشطاء، وتعرّض المتضامنون مع القضية الفلسطينية لمشكلات قانونية.

بدا إذن أن الحكومات الغربية اتحدت في الانحياز السياسي إلى الاحتلال، فقيّدت عدة دول الاحتجاج من أجل فلسطين، واستهدفت الأعلام الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة تعرّض كثير من المتضامنين للطرد من وظائفهم وإلغاء عقودهم.

ومع اتساع دائرة الحرب، ودائرة المعرفة بها أيضا وبالقضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، توالت صور الإبادة والتهجير القسري والمجاعة، وطاردت المشاهدين حول العالم بشكل لا يمكن تجنبه.

بعد عامين من طوفان الأقصى، وبعدما جرت المذابح بالبث الحي والمباشر ودُمِّرت البنية التحتية وانهار النظام الصحي وتلوثت المياه وقُصِفت المساعدات الإنسانية والساعون إليها، ومع مشاهد التهجير وإجبار العائلات على النزوح عدة مرات داخل الأرض المحاصرة بالجوع والجفاف، فإن أكثر ما اتضح للمتابعين حول العالم لم يكُن تجاوز الحد فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الإنسانية، وإنما تجاوز الحد في الإفلات من العقاب.

فلسطينيون يتواجدون في أحد مخيمات النزوح بمدينة غزة، 12 أغسطس/آب 2025 على إثر سياسة جيش الاحتلال الممنهجة في تدمير كافة مقومات الحياة في القطاع المحاصر (رويترز)

تشير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إيتشاسو دومينغيث، إلى أنه بعد شهور من النقاش حول مدى تناسب القصف مع الطوفان، يبدو أن المجتمع الدولي اليوم أصبح مستعدا للاعتراف بالانهيار.

إعلان

ولكن دومينغيث تلتقط أيضا ذلك التحوّل الخطابي الذي جرى في هذه الحرب، والذي يميل إلى إدانة الكارثة الإنسانية في غزة دون النظر إلى الجانب السياسي والعسكري منها، فيُكرِّم الضحايا دون تسمية المسؤولين عن الجريمة، وقد أشارت إلى تداول عدد من وسائل الإعلام لصورة طفل جائع مثلا مع تجاهل صورة الجندي الذي يمنع قافلة المساعدات، أو صورة الساسة الذين اتخذوا قرارات الحرب، وهو استبعاد ليس بريئا على حد وصفها، وينطوي على منطق يُتيح للإبادة أن تتكرّر وللمجرم أن يُفلت من جرمه.

على الهواء مباشرة

هذا التدفق المستمر للأخبار والصور التي توثق المذابح، يواجه شعوبَ العالم بصور صادمة للإبادة الجماعية في غزة. ففي ورقة بحثية نشرتها مجلة "إنترناشيونال جورنال أوف مانجمنت" عام 2024، يستكشف الدكتور محمد بوحجي الأضرار والجروح النفسية والعاطفية للمتابعين لمسار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، ويشير إلى أن متابعة مشاهد الحرب عمّقت الشعور بالعجز والخيانة والذنب والعار، وسبّبت جروحا نفسية في المجتمعات أمام إدراك المتابعين لحجم المعاناة وحجم التواطؤ الذي أدى إلى حدوثها.

وقد عاش البعض أعراض ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب التعرض المتكرر والمستمر لهذه الأحداث، وتجلَّت أعراضها في تقلُّب المزاج والقلق والاكتئاب واضطرابات النوم. هذا بخلاف تراكم طبقات من مشاعر الغضب والأسى لدى من يشاهدون الإبادة، مما يجعل أي سلوك طبيعي يعتاد المرء على القيام به في يومه بمثابة "خيانة" لدماء الشهداء ولمعاناة أهل غزة.

في العصر الرقمي حيث تُنتج المواد البصرية بسهولة، وتتعدّد مصادر الصور من الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية ومن السكان المدنيين في قلب الصراع، ومع التعرّض المتكرر لكل ذلك؛ يمكن أن يحدث ما يُعرف بإرهاق التعاطف (Compassion Fatigue) الذي ينشأ عن مشاهدة مكثفة للألم، فيتحوّل إلى نوع من الخدر العاطفي، ومن ثمّ تنخفض الاستجابة العاطفية مع كل مأساة جديدة نتعرض لها.

ومع ذلك، فإن ما يبدو تبلُّدا عاطفيا ليس شعورا نهائيا، بل محطة قد نمُر بها في الصراعات الطويلة. فما يحدث هو أن صورا أخرى سرعان ما تخترق هذا الحاجز العاطفي، فيتجدد التأثير ويتحرّك الشعور بالغضب، لذا فالحرب لا تتوقف عن إيلامنا ولا تُفقدنا إنسانيتنا كما يبدو لأول وهلة.

لذلك، يمكننا اليوم أن نضيف إلى تعداد ضحايا الحرب على غزة؛ آخرين لم يكونوا في القطاع من شعوب العالم التي تابعت العدوان والإبادة، وتعرّضت لما يُعرف باسم "الجرح الأخلاقي". ويشير هذا المصطلح إلى الصدمة النفسية التي يتعرض لها الجنود بسبب عدم قدرتهم على التوفيق بين قيمهم الأخلاقية وما يرتكبونه من أفعال غير أخلاقية مثل التعذيب أو القتل، والذي يظهر في معدلات مرتفعة من الاكتئاب والانتحار لدى المحاربين القدامى.

لكن الجرح الأخلاقي اليوم يُمكن أن يكون أثرا مُحتملا لمشاهدة الفظائع التي يرتكبها آخرون دون الانخراط في القتال، فهو استجابة إنسانية عميقة للأحداث التي تنتهك الأخلاقيات الراسخة، وتُسبّب جُرحا في الروح والضمير، سواء لدى من ارتكب تلك الأفعال أو حتى لدى من شهدها ولم يمتلك القدرة على وقفها.

وبخلاف اضطراب ما بعد الصدمة الذي يقوم على الشعور بالخوف، فإن الجرح الأخلاقي ينشأ من مشاعر الذنب والعار والغضب، ومن أزمة عميقة في المعنى. إنها أزمة يواجهها اليوم متابعو الحرب، وتتسع دائرة المصابين بهذا الشعور حول العالم بسبب قناعاتهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لوقف الإبادة في غزة. كما ينطوي هذا الجرح الأخلاقي على شعور بالخيانة من سلطات كان يُفترَض أن تكون جديرة بالثقة أو على الأقل أن تفعل شيئا لوقف هذه الحرب، ويمكن لهذا الجرح أن يصيب الأطباء والممرضين والصحفيين وغيرهم حين يشعرون بالعجز عن احتمال معاناة البشر.

إعلان

تُرسّخ مشاهد وصور الإبادة، وحقيقة استمرار الحرب، الاعتقاد بأن العالم مكان بشع ومخيف وغير إنساني، وأن الشر يُمكن أن يتغلّب في النهاية، مما يرسخ شعور الشعوب بأنها "مشلولة" وغير قادرة على الفعل الجماعي لمواجهة ما هو إجرامي وغير إنساني.

كما يزداد هذا الجرج الأخلاقي لدى مواطني بعض الدول التي تقدم مساعدات عسكرية للاحتلال بسبب شعورهم بأنهم متواطئون كدافعي ضرائب، وكذلك بسبب فشل المؤسسات الدولية في وقف شلال الدماء، ما يتسبب في الشعور بانهيار الثقة بالنظام الأخلاقي العالمي.

إن الشعور بأن ظلما جسيما يقع بلا عواقب يولّد إحباطا عميقا، فهو خرق لما تعهّدت الإنسانية بعدم تكراره عقب الحرب العالمية الثانية، وتعود خصوصية التأثير العالمي في حرب غزة بسبب كونها أول إبادة جماعية تُبَث فصولها على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن لمشاهدي الأخبار ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجنبها أو تجاهل وجودها.

"القيد في أيدينا"

يمكن القول إن الادعاءات الأخلاقية الأوروبية فقدت مصداقيتها مبكرا بعد حروب العراق وأفغانستان و"الحرب على الإرهاب".

واليوم بينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي معدلات غير مسبوقة من العنف، تتابع شعوب العالم الحر وخاصة شعوب دول الجنوب العالمي وفي ذاكرتها العبارة الشهيرة التي قالها نيلسون مانديلا: "إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين"، والتي لا تعتبر تضامنا فقط، بل عبارة تحليلية تشير إلى أن الإمبريالية ستستمر في تقييد شعوب دول الجنوب طالما أن بإمكانها حرمان الفلسطينيين من حقوقهم على هذا النحو.

ولكن الأمر يمتد إلى الشمال ذاته أيضا، كما أشار السياسي البريطاني جيمس شنايدر في مقال له، فالسعي كي يتحقّق التحرر الوطني للشعب الفلسطيني بقدر ما يُحارب الإمبريالية في الخارج، فإنه يُرسِّخ أيضا الاستقلال والديمقراطية في الداخل بالنسبة للدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها للدفاع عن غزة، ولهذا السبب يؤكد شنايدر "لسنا أحرارا حقا حتى تصبح فلسطين حرة".

في ورقة نشرتها مجلة "بابليك أنثروبولوجيست" في مايو/أيار الماضي بعنوان "فلسطين منهجا"، أوضحت الكاتبة آنا إيفاسيوك كيف تابع العالم بذهول العنف الإبادي الذي شنَّه الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسجَّلت بداية ملاحظاتها بالقول إنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يعلم عن الإبادة الجارية، في وقت يُدرِك فيه المتابعون أن ما يحدث على الأرض يفوق ما تنقله الصور والأخبار. وأضافت إيفاسيوك أن هذا الصمت واللامبالاة ما كانا ليحدثا لو تعرض له آخرون، لا سيما من ذوي البشرة البيضاء.

وأشارت آنا إيفاسيوك إلى التناقض الذي كشفته نقاشات داخل المجتمع الأنثروبولوجي الأوروبي بعد نشر بيان الجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيين الاجتماعيين (EASA) لإدانة العنف ضد غزة، وكيف رأى كثير من الأنثروبولوجيين أن هناك سردية واحدة في التعامل مع قضية أوكرانيا، في حين تعدّدت السرديات في حالة فلسطين، وأمكن للبعض الوقوف "على الحياد".

وتتساءل آنا في مقالها: "ما هو الحياد في مواجهة الإبادة الجماعية إن لم يكن تواطؤًا؟ وما هو تعريف إسكات من يتحدثون ضد الإبادة إن لم يكن دعم الإمبريالية؟". وختمت آنا مقالها قائلة إن ما يشهده العالم في غزة اليوم يدفعنا إلى نقطة اللاعودة، ونحو فهم ما تتعرض له شعوب العالم يوميا، والعنصرية والاعتراف الانتقائي في التضامن مع ضحايا الصراعات.

ويقول الكاتب الإسباني خافيير خورادو إن مشاهد عشرات الآلاف من الشهداء وبينهم أطفال، وما حدث من تدمير للبنى التحتية، تثير أعمق التساؤلات غير المحسومة في الخيال السياسي الغربي: كيف يمكن الاستمرار في دعم الكيان المحتل وتبني كونه ضحية تاريخية؟ لقد كانت الشهور الماضية للحرب على غزة كاشفة للحقائق بشأن عنف الاحتلال، وكسرت أمام المتابع الأوروبي رواية ظلت لعقود تُبرّر صمت الغرب إزاء الانتهاكات وتؤسس للاستثناء الإسرائيلي.

تشرح رابيا يافوز المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في مقال لها، كيف أن هذا الشعور بالحزن يعني أننا ما زلنا بشرا، وكيف أن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، وإنما بكيفية استجابة العالم لكل هذا الألم. فحين تتفوّق المصلحة السياسية على مبادئ العدالة، ويتعرّض المؤيدون والمتضامنون للقمع، فهذا يشير إلى فوضى عالمية أعمق، بما تُسبّبه من جرح في الوعي المجتمعي العالمي.

إعلان

أما حين يصبح الصمت الخيار الأكثر أمانا فإننا أمام عنف نفسي يُهدّد مجتمعاتنا، ويكشف عن وجه مخيف لعالم اليوم، فهذه "الفظائع" تخلف فراغا أخلاقيا لا يُحتمل، يهدد إحساسنا بتحقق العدالة وبإنسانيتنا نفسها، وتتساءل في النهاية: ما ثمن كبح المشاعر أمام المجازر؟

الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ (يمين) تظهر على متن سفينة تحمل ناشطين ومساعدات إنسانية بتهدف كسر حصار جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في 1 سبتمبر/أيلول 2025 (الفرنسية)ما بعد الصدمة

في مقال له حول أنجع العلاجات للجرح الأخلاقي، أوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، مايكل شوالبي، أن أفضل استجابة لما يجري من حولنا هي التكاتف مع الآخرين كي نحافظ على إيماننا بأنفسنا وبإمكانية أن يكون العالم أفضل وأن يُعرض المجرمون يوما ما للعدالة.

ووفقا لشوالبي، فإن موجات الاحتجاج والمسيرات والبيانات المُندّدة التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتسعى لوقف الحرب ضرورية أيضا، لا لوقف الحرب فحسب، وإنما لإنقاذ هؤلاء الذين يشعرون بالجرح الأخلاقي من الإصابة بالعجز الدائم.

لقد تحوّلت غزة -وهي على أعتاب السنة الثالثة للحرب- إلى مرآة تكشف حقائق مخيفة عن نفاق المجتمع الدولي، والرقابة على ما يمكن قوله حول فلسطين، والضغط الذي يُمارس لإسكات الفلسطينيين أو المتخصصين في إنتاج المعرفة بهذا الشأن، وهو ما يزيد أهميتها كمنهج لكشف زيف العالم "كما يُروى لنا".

اليوم لا يزال العديد من النشطاء والمتضامنين مع غزة حول العالم يواجهون عُنفا يطالبهم بالصمت حتى لا يطالهم العقاب، بينما تُهدِّد الحرب إنسانيتنا ويختار البعض التضامن مع دفع أثمانه، في حين يبقى البعض الآخر رهن الشعور بالعجز ومواجهة الصدمات النفسية التي يُسبّبها إدراكنا أن ثمن هذا التجاهل هو ألا يبقى أحد في أمان.

مقالات مشابهة

  • عامان على الطوفان .. إجماعٌ إسرائيليٌّ: حماس انتصرت بأعنف حربٍ وألحقت بـ إسرائيل أقسى هزيمةٍ عسكريّةٍ
  • ميدو يكشف موقفه النهائي من العودة للتدريب
  • “اليد التي حركت العالم من أجل غزة.. كيف أعاد اليمن كتابة قواعد الحرب البحرية بعد الطوفان؟”
  • أطول حرب وأعنفها.. كيف اختلفت حرب غزة الراهنة عن الجولات السابقة؟
  • أبرز الشخصيات التي اغتالتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر
  • صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
  • قيادي بـ مستقبل وطن: كلمة الرئيس السيسي في ذكرى نصر أكتوبر منهج عمل لمواجهة التحديات الراهنة
  • غريتا ثونبرغ.. السويدية التي تثير هستيريا إسرائيل
  • وزير الدفاع الإسرائيلي: موقف حماس يشكل تحولاً في مسار الصراع
  • وزير خارجية السودان السابق: جيش واحد وإبعاد قادة الحرب للحل السلمي