لابد أن تصاب بالحيرة وأنت تتابع الشأن العام فى كوريا الشمالية، لا لشىء، إلا لأنها تبدو ممتلئة بالألغاز أكثر مما هى ممتلئة بأى شىء آخر.. من بين الألغاز على سبيل المثال أن كيم يو جونج، شقيقة زعيم البلاد، هى التى تخرج بالتصريحات السياسية الساخنة على العالم، رغم أنها ليست صاحبة منصب محدد فى بلادها، ورغم أنها لا توصف بشىء إلا بأنها شقيقة الزعيم.
أما الزعيم كيم جونج أون نفسه فهو لغز آخر، لأنه لا يظهر فى أى مناسبة إلا ليعلن عن إطلاق صاروخ جديد على سبيل التجربة، وإلا ليقول إن هذا الصاروخ مداه كذا، وأنه قادر على أن يضرب أهدافا فى الولايات المتحدة نفسها، وأن على جيشه أن يكون مستعدًا لتنفيذ أوامره بإطلاق الصواريخ فى الاتجاه الذى يحدده!
يحدث هذا من وقت إلى آخر وبشكل لافت جدًا، رغم أن أحدًا فى العالم لم يمس شيئًا فى بلاد الزعيم، ولا حتى يفكر فى ذلك.. فبلاده منغلقة على نفسها تمامًا، وهى منعزلة معزولة لا يزورها ولم يحدث أن تابعنا زيارة قام بها مسئول كورى شمالى إلى أى بلد، أما الزيارة التى قام بها الزعيم إلى روسيا قبل أسابيع، فلقد كانت من بين زيارات معدودة على أصابع اليد الواحدة قام بها خارج بلاده!
فهناك زيارة أخرى قام بها إلى منطقة الحدود مع كوريا الجنوبية، وكان قد ذهب إلى لقاء مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أيام أن كان فى البيت الأبيض!.. كان ذلك فى يونيو ٢٠١٩، وكان اللقاء فى المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين، وكان ترامب أول رئيس أمريكى تطأ قدماه أرض كوريا الشمالية، وكانت الزيارة بالنسبة للزعيم الكورى الشمالى كيم جونج حدثًا فريدًا رغم أنها لمنطقة الحدود وليست إلى خارج البلاد!
قبلها بسنة كان الرئيسان قد التقيا فى سنغافورة، وكان ذلك هو اللقاء الأول من نوعه بين الرئيس الكورى الشمالى وبين رئيس أمريكى فى السلطة.. ومما قيل وقتها عن تفاصيل اللقاء المدهشة، أن كيم جونج أون اصطحب معه أشياءه الشخصية كلها، بما فى ذلك «الحمّام» الذى سيكون عليه أن يستعمله، وكان المبرر أنه يخشى أن يحصل أعداؤه على أى شىء يخصه، ومن خلاله يستطيعون التعرف على حالته الصحية!
ومن نوادره المنشورة أيضاً أن وزير دفاعه غفا ذات مرة خلال لقاء كان يحضره، فأمر بإعدامه على الفور، ولم تكن النادرة فى أنه أمر بإعدام وزير الدفاع، ولكنها كانت فى أنه أوقفه ثم صوّب عليه من مدفع مضاد للطائرات!
أما شقيقة الزعيم التى لا يعرف أحد موقعها بالضبط فى السلطة، فهى تتبادل مع شقيقها الإطلال على العالم بكل ما هو غريب وعجيب، ومن بين غرائبها وعجائبها الأخيرة، أنها قالت إن جيشها فتح الزناد بالفعل، وأن ذلك جاء ردًا على الجارة الجنوبية التى اشتكت من مناورة بالذخيرة الحية قام بها الجيش الكورى الشمالى بالقرب من الحدود.. أطلقت كيم يو جونج هذا التصريح غير المفهوم، ثم قالت إن جيشها سوف يطلق وابلًا من النيران عند أى استفزاز كورى جنوبى!
كأن هذا العالم الملتهب فى كل مكان ينقصه الزعيم أو تنقصه شقيقة الزعيم، أو كأن العالم تنقصه هذه الألعاب النارية التى كلما أحس الزعيم أو شقيقته بالملل راحا يتسليان بها!
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: خط احمر ا شقيقة الزعيم قام بها
إقرأ أيضاً:
بين رثاء الأندلس ومأساة غزة
تمثل قصيدة رثاء الأندلس لأبى البقاء الرندى، التى ألفها عام 1267 م، صرخة تاريخية خرجت من أعماق عصر الانهيارات، يوم تداعت المدن الإسلامية مدينة بعد أخرى، وانطفأت مآذن قرطبة وإشبيلية، وسقطت حصون المسلمين تحت ضربات الجيوش القشتالية. كان الرندى شاهداً على زمن تتقوض فيه الحضارة التى امتدت ما يقرب من ثمانية قرون (711-1492 م)، فكتب نونيته الخالدة ليؤرخ للحظة السقوط، وليذكر الناس بأن ما يبدو ثابتاً قد ينهار، وأن غفلة الأمم أخطر من أسلحة الأعداء.
وهذه القصيدة لم تكن مجرد تأبيناً للفردوس المفقود، بل كانت بياناً إنسانياً وسياسياً فى آن واحد؛ استنهاضاً للهمم، وفضحاً لصمت المتخاذلين، وإدانة لتشتت المسلمين الذى مهد للطامة الكبرى. والقصيدة، فى جوهرها، تحذير من التواطؤ بالصمت، ومن ترك المظلومين وحدهم يصرخون دون مجيب.
يا رب أم وطفل حيل بينهما/ كما تفرق أرواح وأبدان
طفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت/ كأنما هى ياقوت ومرجان
ومن هنا تأتى صلتها العميقة بما يجرى اليوم فى غزة. فالمأساة التى وصفها الرندي— سقوط المدن، وانهدام الأسوار، وخراب دور العبادة، وتحول أهل العزة إلى مهجرين ومقهورين— تجد لها صدى مريراً فى الجراح الفلسطينية المعاصرة. حرب الإبادة التى يشنها الجيش الإسرائيلى فى غزة، والقتل والتدمير والتشريد، يعيد إلى الذاكرة صورة الأندلس حين تحولت ديارها إلى أطلال، وحين صار أهلها بين قتيل وأسير ولاجئ كما أن صرخة الرندي:
أعندكم نبأ من أهل أندلس/ فقد سرى بحديث القوم ركبان؟
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم/ قتلى وأسرى فما يهتز إنسان؟
هى ذاتها الصرخة التى تنبع اليوم من بين ركام غزة، حيث يباد الأبرياء على مرأى من عالم يقف فى معظم أجزائه متفرجاً أو متواطئاً.
إن رثاء الرندى ليس مجرد نص تاريخى، بل مرآة نرى فيها وجوه المآسى المتكررة. إنه تذكير بأن الشعوب يمكن أن تحاصر حتى اليأس، وأن الظلم إذا لم يجد من يوقفه تمدد حتى يصير قدراً. ولعل أعظم ما فى صوته أنه يثبت أن الذاكرة العربية— بما تحمله من خسارات كبرى— لا تزال قادرة على أن تقرأ حاضرها من خلال ماضيها.
وفى نهاية نونيته كتب الرندى كمن يودع ويشهد: «فاسأل بلنسية ما شأن مرسية…» واليوم، وكأن القصيدة تكتب من جديد: فاسأل غزة ما شأن المدن التى تتفرج عليها، وما شأن هذا العالم الذى يكتفى بالعد بينما تتضاعف الخسائر؟
هكذا تلتقى الأندلس وغزة فى مأساة واحدة، فكلتاهما نزيف لم يلتئم، وصدى صرخة ما زال يتردد عبر القرون. ومن يقف أمامهما يرى الحقيقة العارية: هكذا يعلمنا التاريخ أن الظلم إن لم يواجه عاد مثل حرب مدمرة لا تتوقف إلا حين ينهض من يقاومها.