عربي21:
2025-05-06@16:19:19 GMT

عن رواية المتشائل لإميل حبيبي: حين تمضي هذه الغيمة!

تاريخ النشر: 16th, January 2024 GMT

عن رواية المتشائل لإميل حبيبي: حين تمضي هذه الغيمة!

في سرديّته الغريبة في مبناها ومعناها "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيدٍ أبي النحس المتشائل"، الصادرة طبعتُها الأولى بين عامَي 1972 و1974، يقدِّم الأديب الفلسطينيُّ الكبير إميل حبيبي شخصيةً معلَّقةً بين كلّ نقيضَين، فسعيدٌ بطل الرواية شخصٌ خانعٌ مطأطئ الرأس لدولة الاحتلال الصهيوني، لدرجة أنه عينٌ للنظام على الوسَط العربيّ، لكنّه حين أحبَّ وتزوَّج لم ينجذب إلا لنساءٍ معتزّاتٍ بهويّتهنّ العربية، ثائراتٍ على حالة الخنوع هذه نفسِها، فأحبَّ "يُعاد" ثمّ تزوّج "باقية" ثمّ أحبَّ "يُعاد" الثانية ابنة الأولى، وكلّهنّ تجري في عروقهنّ دماء المقاومة الفلسطينيّة، حتى إنّ ابنَه الذي أفرطَ في مداهنة القائمين على الدولة الإسرائيليّة بتسميتِه "ولاءً" قد ورث دماء المقاومة من أمِّه "باقية"، فصار ولاؤه لأرض أجداده! وعلى محورٍ آخَر، نجِد سعيدًا يحدّثنا عن لقب عائلته الغريب، فيقول إنه منحوتٌ من التفاؤل والتشاؤم معًا، ويسوق حكاية جدّه الأكبر الذي التفت وهو على فرسه خارج أسوار المدينة فشاهد ألسنة اللهب فقال "بَعدي خرابُ بصرى!"، ويستمرّ "التشاؤل" في العائلة حتى نَشهد سعيدًا في معظم المواقف يتلقّى الإهاناتِ فيَشكر للقدَر أنه لم يتلقَّ إهاناتٍ أكبر! إلى أن نصِل إلى المحور الأخير الذي نكتشفُه في الصفحات الأخيرة للرواية، حيث نرى أنّ كاتب الرسائل التي تؤلَّف منها الرواية شخصٌ ليس له وجودٌ حقيقيٌّ، وأنّ أقرب شخصٍ إلى هويّته ربما يكون أحد نزلاء مستشفى الأمراض النفسية الكائنة في مكانٍ كان سجنًا رهيبًا زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، واسمُه "سعدي نحّاس أبو الثوم" أو "أبو الشوم"! أي أنّ بطلَنا لا يقتصر تأرجحُه على كَونه معلَّقًا بين الخنوع والمقاومة، وبين التفاؤل والتشاؤم فحسب، بل إنه فوق ذلك معلَّقٌ بين الوجود والعدَم!

السخرية وغاياتُها:
‌لعلّ الملمح الأبرز في أسلوب كاتبنا هو سخريته اللاذعة التي لا تعرف سقفًا، تلك التي يتّكئ عليها لتحقيق غاياتٍ نجدها تأتي من تلقاء ذاتها في ثنايا سرده، وأهمُّها فضح ادّعاءات الاحتلال الصهيوني.

فلا ينسى قارئ الرواية تلك الفقرة من الكتاب الثالث من الرواية "يُعاد الثانية" التي يتشاعَرُ فيها القائد الصهيونيُّ الذي يسميه سعيدٌ "الرجُلَ الكبير" ويسترسل في وصف مُنجَز المستوطنين الصهاينة في بعث الحياة في صحراء فلسطين وتخضيرها، وحين يردُّ عليه سعيدٌ متسائلًا: "ألهذا هدمتُم قُرى اللطرون وعمواس ويالو وبيت نوبا وشرّدتُم أهاليها يا معلمي الكبير؟" لا يجِد القائد – الذي يصحب سعيدًا إلى السِّجن – إلا أن يقول متخلّصًا: "لقد أبقينا على الدير لرُهبانه مَجلبةً للسائحين، وعلى المقابر لذويها إيمانًا بربِّ العالَمين، وورثنا هذا الرَّحبَ بهذه الحرب، والذي فات مات، وهو مثَلٌ أمريكيٌّ من أصلٍ ألماني." وما كان له أن يرُدَّ حَقًّا إلا هكذا، فليس ثَمّ مبرِّرٌ لأفعال التدمير الاستيطانيّة إلا كراهية كلِّ ما هو ليس إسرائيليًّا، خاصةً إذا كان عربيّا. وهذه الكراهية مبثوثةٌ حتى في التعقيب الأخير الذي وضعه كاتبُنا على لسان القائد الصهيوني، فالمثَل العربيُّ القُحُّ "الذي فاتَ ماتَ" أصبح فجأةً أمريكيًّا من أصلٍ ألمانيٍّ، كأنه يستكثر حتى أن يكون للعرَب مثَلٌ أصيل!


وثَمّ غايةٌ أخرى تتحقق من وراء السخرية هنا، تتمثّل في مُساءلة الموقِف الوجوديِّ لفلسطينيِّي الداخل، فها هو ذا سعيدٌ حين سمع في المذياع خلال حرب الأيام الستّة (حُزيران/ يونيو 1967) النداءَ الذي أهاب بالعرب المهزومين أن يرفعوا الرايات البيضاء على أسطح منازلهم، يقع في حيرةٍ من أمرِه ويتساءل:"أيُّهم يأمره المذيع؟ مهزوم هذه الحرب أم مهزوم رودس؟" ، وهو يعني برودس بالطَّبع من ذاقوا الهزيمة الأولى وقت النَّكبة، في إشارةٍ إلى هدنة رودس 1949 التي توسّطت فيها الأمم المتّحدة بين الكيان الصهيوني من جهةٍ وكلٍّ من مصر والأردن وسوريا ولبنان من جهةٍ أخرى، والتي كرَّسَت خطّ الهدنة الأخضر، وأوكلَت إلى السيادة المصرية والأردنية منع الفلسطينيين من عبور هذا الخطِّ ومن القيام بأية عملياتٍ فدائيّةٍ ضدّ الصهاينة. ثمّ لا يلبث سعيدٌ من باب الاحتياط أن يرفع عَلم الاستسلام على عصا المكنسة فوق سطح بيتِه، كأنّ هزيمتَه كانت في التوِّ واللحظة، قائلًا لنفسه إنّه إن كان مخطئًا فسيحمل جنودُ إسرائيل خطأه على سلامة طويّتِه، ويتبيّن بعد ذلك من صديقه يعقوب أنّ المقصودين بالنِّداء عربُ الضفة الغربية، لا مَن هم مثله من العرب المقيمين في حيفا، وأنّ فِعلَه هذا يَشي بأنه يعتبر حيفا مدينةً محتلّةً ويدعو إلى فصلها عن إسرائيل، ومِن ثَمّ يُقتاد سعيدٌ إلى السِّجن! هكذا يُفصح لنا إميل حبيبي المنتمي ببطاقة هويّته وبعضويّته في الكنيست إلى عرَب 48 عمّا يستشعره من مرارة الهزيمة التي لا تفارقه منذ النَّكبة. إنه مهزومٌ في "وطنِه" الرسميِّ المنتصر، وهو "وطنُه" بحُكم الأوراق الثُّبوتيّة، وهو قد عَلِق فيه بوَصفِه مَعبَرًا بين الحال كما هي عليه، والحال التي يرجوها إميل حبيبي ويرجوها مَن كان مثلَه، دون أن تكون ثَمّ سبيلٌ واضحةٌ إلى تحقيقِها. ولا تفوتنا في هذا الصدَد نفسِه حكايةُ الحمار الذي تلقّى الرصاص عن سعيدٍ حين وقف بينه وبين مَن أطلقوا النار على أبيه من الصهاينة، ما يدفع كاتبَنا إلى عَنونة الفصل الثاني من الكتاب الأول "سعيدٌ يُعلن أنّ حياتَه في إسرائيل كانت فَضلةَ حِمار!" هكذا يبدو أنّ وجودَ سعيدٍ العربيِّ في دولة الاحتلال هو مَحضُ صُدفةٍ، أو اتّفاقٌ قَدَريٌّ لا يخلو من عبثيّةٍ، فقد كان يمكن أن يكون في عَداد الأموات، وما بقاؤه على قَيد الحياة مواطنًا إسرائيليًّا إلّا تأرجُحٌ بين الموت والحياة، وبين الوجود والعدَم.

بين توظيف التُّراث العربيِّ وانتهاكِه:
‌يصطدم قارئ الرواية بتناصّاتِ الكاتب مع التراث العربيّ، وهي من الكثرة بحيث إنّ الإتيان عليها يستحقُّ ويستغرق دراسةً مفصَّلة. لكنّي أرى أنّ إيراد قليلٍ منها هنا يَخدم قراءتنا العَجلى لهذه الرواية المهمة.

في فصل "سعيدٌ ينتسب" من الكتاب الأوّل، يقول: "وبعد النحس الأول في سنة 1948 تبعثرَ أولاد عائلتنا أيديَ عرَبٍ، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لَمّا يَجرِ احتلالُها." هكذا يلوي كاتبُنا التعبيرَ العربيَّ "تفرَّقوا أيديَ سبأٍ" – المُحيلَ أصلًا إلى انتشار السبئيين بعد انهيار سدِّ مأربٍ باليمن – ليلفتنا إلى مرارة النكبة الفلسطينية العربية، فكأنّ الشَّتات الحديث انبعاثٌ لكارثة سبأٍ القديمة. وفي الفصل ذاته يقول إنّ عائلتَه تنتسب إلى جاريةٍ قبرصيّةٍ فرّت مع أعرابيٍّ اسمُه أبجَر، هو من قال فيه الشاعر (ويعني الأمويَّ الأحوصَ الأنصاري): "يا أبجرُ ابنُ أبجرٍ يا أنتَ/ أنتَ الذي طلَّقتَ عامَ جُعتَ"، ثمّ خانت الجاريةُ أبجرَ مع مَن يسميه سعيدٌ "الرغيفَ بن أبي عَمرة" فطلَّقها أبجَر. والشاهد أنّ كاتبَنا قرَّر أن ينتقم من العُروبة الخائنة وخذلانها باتّخاذ هذا الجَدِّ المَهجُوِّ "أبجَر بن أبجَر"، فهو جَدٌّ هَزليٌّ ذو كَرِشٍ ضخمٍ، بدأ خائنًا بفراره مع جارية تيمورلنك، وحين خانَته زوجُه لِما نزلَ به من قحطٍ عربيٍّ طلَّقها، ولا ننسى أنّ "أبا عَمرة" كُنية الجُوع، فالوَقعةُ كلُّها تهكُّمٌ شرسٌ مُرٌّ بالعروبة، دوافِعهُ القحط والخيانة والخذلان معا.


وثَمّ موضعٌ لا يُنسى في هذا السياق، في الفصل السابع من الكتاب الثالث، إذ يعوذ سعيدٌ ويُعاد الثانية (الابنة) بقريةٍ لا يُظهرُنا سعيدٌ على اسمها الحقيقي، ولكنه يستعير لها اسمَ (السُّلَكَة) أمِّ الشاعر الصعلوك الجاهلي (السُّلَيك بن السُّلَكة)، ويُورد من شِعرها في رثاء ابنها بيتَين: "طافَ يَبغي نَجوةً/ مِن هَلاكٍ فهَلَكْ/ فالمَنايا رَصَدٌ/ للفتى حيثُ سَلَكْ." لكن بينما يطوف الجاهليُّ العَدّاء الفاتكُ في البلاد هاربًا من الهلاك حتى يَلقى مصرعَه، نجِد أنّ الحكاية التي يتمحور حولها هذا الفصل والذي يَليه حكايةُ رجُلٍ ضريرٍ من هذه القرية، نزح مع النازحين بعد النَّكبة إلى بلاد العرَب الواسعة، ثمّ تسلَّل بعد قِيام دولة الاحتلال عائدًا إلى قريتِه، وكان هذا غير مرحَّبٍ به مِن السُّلطات الإسرائيلية، فإمّا أن يَبقى العربُ المهزومون في أماكنِهم ويعترفوا بالدولة الجديدة، وإمّا أن يُغادروها إلى الأبد، لكنّ أهلَ القرية حفظوا سِرَّه وزوّجوه، وتعلَّم صناعة الحَصير وكَثُر أولادُه وأحفادُه، ولم يَمُت إلا ليلةَ نزلَ سعيدٌ و(يُعاد) الثانيةُ هذه القريةَ ضيفَين. والشاهد من الحكاية أنّ السُّلَيك الحديث (الفلسطيني) هو نقيض السُّلَيك القديم تمامًا، فهو لم يَطُف في الأرض يَبغي نجوةً من الهلاك، وإنّما التصقَ بقريته ولم يُطِق الاغترابَ عنها، وهو ليس فاتكًا ولا عَدّاءً، بل هو ضريرٌ مُسالِمٌ لا يبغي إلا أن يعيش، لكنّ الجاهليَّ والحديثَ يشتركان في مِقدارٍ من التصعلُك، هو مقدارُ الغُربة، فالجاهليُّ غريبٌ كصعاليك الجاهلية كُلِّهم، والحديثُ غريبٌ لأنّ جيبَه لا يحملُ هُوِيّةً رسميةً، وإن كان قلبُه عامرًا بهُويّته التي أنشأه الله فيها، عربيًّا فلسطينيّا. هكذا أراد لنا كاتبُنا أن نرى عُمق المأساة، مشتبكًا مع وجهٍ آخَر – أراه مَلحَميًّا خلّابًا على قِصَره – من أوجُه الصُّمود الفلسطينيّ.

المتشائل يُدين ذاتَه:
لا يكُفُّ (حبيبي) عن الإيحاء إلينا بإدانة بطلِه الخانع، لكنّ ذروة هذه الإدانة تأتي في الصفحات الأخيرة، لاسيّما في حديثِه مع (يُعاد) الثانية، إذ يسألُها حين تستنكر زغردة نساء الجيران في بيت سعيدٍ القديم: "حتى فرحةُ الزيارة تبخلين بها على هؤلاء السُّجناء؟" فتسألُه مستنكرةً "كيف تأتي الفرحةُ بنِعمة الغازي؟" فيجيبُها "كما يَنضج الطَّعامُ بنِعمة النار." هنا يتّضح لنا أنّ الرجُل قد تماهى تمامًا مع دَور المُواطن ذي الدرجة الثانية، الخانع المُستكين لسُلطة العدُوّ، فيما تتعملَق أمامه (يُعاد)، فتتحدث عن الصهاينة قائلةً فيما بعد: "إذا لم يتغيروا فهي مأساتُهم، أمّا نحن فتغيَّرنا." وتسترسلُ في تعملُقِها فتستنكر اقتراحَ سعيدٍ عليها أن يختبآ، فهي مُصِرَّةٌ أن تستعيد وطنها السَّليبَ، متماهيةً مع اسمِها المحمَّل بهذه الطاقة الثورية (يُعاد).

ثمّ يكرِّس كاتبُنا هذه الإدانة على نحوٍ نهائيٍّ في الجُملة الأخيرة التي يُنطق بها "يُعاد" حين تَرفع رأسَها – أو بالأحرى حين يراها سعيدٌ ترفع رأسَها وهو يطير مع شيخ الفضائيِّين محلِّقًا في وهمِه الكبير – إذ تقولُ: "حين تَمضي هذه الغيمةُ تُشرق الشمس!" هكذا يرى سعيدٌ نفسَه بعَينَي (يُعاد) محضَ غيمةٍ من وهمٍ كبيرٍ، تَحجُب نُور الشمس، فكأنّ خنوعَه وصمتَه المُطبِق هما ما يفصل النصرَ عن المقاومة.

لقد كان واضحًا من هذا الفصل الختاميّ ذي الحِوار المغزول بأناةٍ أنّ كاتبَنا يعوِّل كثيرًا على أجيالٍ عربيةٍ قادمةٍ، ستنفضُ عنها الصمتَ والخُنوع وتثورُ حقَّ الثورة في وجه المحتلّ البغيض. ولعلّنا إذا تأمَّلنا الواقع العربيَّ الحاليَّ يقع في نفوسِنا أنّ عربَ الأقطار العربية يشاركون عربَ الداخل (مواطني دولة الاحتلال) المأساةَ نفسَها، فالكِيانُ السرَطانيُّ قد زُرِع في قلب أرضِهم وتغيَّرَت بوجودِه مُعطَياتُ عالَمِهم بالكامل. ولا يبدو أنّنا تزحزحنا كثيرًا عن النُّقطة التي ختمَ بها كاتبُنا روايتَه، فأفضلُ ما نقولُه الآنَ أن تكون أصواتُنا رَجع صدى ما قالَته (يُعاد): "حين تمضي هذه الغَيمةُ تشرقُ الشمس!"

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية أدب المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من الکتاب التی ی هکذا ی

إقرأ أيضاً:

سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف”

سجال ودي مع نقاد رواية "إعدام جوزيف"
مرآة لأزمات السودان ومادة لسجال لا ينتهي (٢/٥)

بقلم الصادق علي حسن

نقلت في مقالنا السابق (١) ما ذكره د ضيو كاتب رواية إعدام جوزيف في سجاله الودي مع نقاده وقد ارجع ضمن سجاله الودي مع نقاد كتابه ما يليني وهو ما تناولته عن الرواية بالنقد ،وقد احتفى ضيو بكل مساهمات نقاده ولم يتبرم منها وهذه في حد ذاته محمدة ، وفيما يليني ذكر الآتي (أجزم بأن انطلاق الأستاذ الصادق علي حسن لسببين أولهما خلفيته القانونية بحيث يمليه الواجب للتصدي للظلم والاضطهاد والتمييز العنصري إينما حل ورواية جوزيف خرجت من هذا الرحم) والسبب الثاني وقال عنه يأمل ان يكون خاطئا فيه- وهو (ميول الصادق علي حسن الواضح لحزب الأمة ومحاولاته العنيفة لمواجه كل ما يرد عن دور حزب الأمة فيما يحدث في من تدهور للعدالة . ظل الأستاذ الصادق يكرر في مقالاته اهمية تنفيذ ما يعرف بالقواعد التاسيسية للدولة السودانية كمرجعية لوحدة السودان بعد خروج المستعمر الانجليزي المصري وهي اربع قواعد من ضمنها استحقاق الجنوب للحكم الفيدرالي ) ثم تحدث عما لحق بالجنوبيين من (تجريم ووصف بالخيانة العظمى) وقال في تساؤل استنكاري (إذن اين موقف حزب الأمة) وذكر عدة وقائع منها اتفاقية اديس ابابا والحكم الاقليمي وتوقيع الصادق المهدي المصالحة مع النميري في ١٩٧٧م واحداث الضعين التي قتل فيها حوالي مائتي مواطن جنوبي سوداني حرقا في عربات السكك الحديد وعندما قام اثنان من أبناء الشرفاء الدكتوران "سليمان بلدو و عشاري" تعرضا لمضايقات جعلتهما يخرجان من السودان باسرتيهما خوفا على أرواحهم )، ويرى ضيو بأن لا مجالا لتبرئة حزب الامة والحبيب الراحل الصادق المهدي من مأساة اهل جنوب السودان ودفعهم للانفصال عن السودان ) .
بالنسبة للسبب الأول لا أود أن اتناول حيثياته واقدر له ما قال عني وأعتقد بان مناهضة التمييز بكافة اشكاله وانواعه من واجبات الكافة وليس العاملين بالمهن القانونية وحدهم ، ومسؤولية على عاتق كل صاحب ضمير إنساني حي خاصة لمن يرفع شعارات العمل في مجالات حقوق الإنسان.
بالنسبة للسبب الثاني . لم أظهر في قراءاتي النقدية لكتاب حكاية إعدام جوزيف ميلا لحزب الأمة مع أنني كنت حزب الأمة بالنشاة ،ووجدت هذا الحزب بمنزل الأسرة وكان بعض من اعمدتها هم من اسسوا هذا الحزب بمدينة نيالا وشيدوا مسجد الأنصار الاقدم بمدينة نيالا في مقر المسجد العتيق الحالي بنيالا والذي كان خلاوة للفقيه الأنصاري الفكي محمود كذلك احفاد هذا الفقية ساهموا في نشر تعاليم الدين بمدينة الفاشر واسسوا مسجد الأنصار الرئيس بمدينة الفاشر ،ويعتز الكاتب بفترته نشاطه في حزب الأمة ،هذه الفترة التي اكسبته علاقات اجتماعية متعددة، مع ان الكاتب نفسه تخلى عن حزب الأمة منذ أكثر من (١٥ سنة) وكتاباته عن القواعد التأسيسية المنشئة للدولة السودانية لا علاقة لها بإنتمائه السابق لحزب الأمة، فقواعد التأسيس المذكورة هي قواعد تأسيس الدولة السودانية وليست قواعد تأسيس حزب الأمة، كما ولو فحص د ضيو مطوك ما كتبه الكاتب (الصادق) في مقالاته لأدرك ما يعنيه بماهية قواعد التأسيس . لقد شكل الحاكم عام السودان السير جورج هاو لجنة دولية للخروج بتوصيات حول مستقبل الأراضي الخاضعة لدولتي الحكم الثنائي والتي أخذت إسم السودان بعد إجازة قواعد التأسيس الخمس " أربع منها في ١٩ / ١٢/ ١٩٥٥م" و"الخامسة في ٣١/ ١٢/ ١٩٥٥م" ، لم يكن في السودان وقتذاك أي خبير في الفقه الدستوري كما والذين عملوا من الوطنيين من قضاة ومحامين كانوا خبراء في القانون الجنائي والمدني المأخوذ من القانون الهندي والمتأثر بالقانون الإنجليزي، لذلك حينما باشرت اللجنة الدولية برئاسة ستانلي بيكر أعمالها كان من ضمن أعضائها من اعتقد بان نتائجها لن تفضي لاستقلال السودان واستقال منها القانوني الأشهر محمد أحمد محجوب واحد اهم رواد الصحافة السودانية أحمد يوسف هاشم (ابو الصحف) والذي كتب بأن الحاكم العام يريد من خلال توصيات اللجنة المذكورة تنصيب نفسه ملكا على السودان . إن وضع الدساتير تحتاج إلى خبرة ومعرفة من جهة الصياغة الفنية أما إقرارها لتكون ملزمة فهو ما يلي جانب الإرادة الشعبية الوطنية متى أقدمت على إقرارها عن علم بمضامينها وكان الافذاذ من جيل المحجوب وزروق واحمد يوسف هاشم وغيرهم لم تتاح لهم اكتساب الخبرة في الفقه الدستوري والذي كان يقوم على اتفاق صلح وستفاليا ١٦٤٨م والمعاهدات الأوربية المنشئة للشخصية القانونية للدولة القطرية المحمية بالقانون الدولي ،وكان ما تم وضعه بواسطة لجنة استانلي بيكر عبارة عن توصيات حول كيفية تأسيس دولة في الأراضي الخاضعة لدولتي الحكم الثنائي، وكان هنالك تنازعا بين هويتين هما هوية الولاية العثمانية في مصر والتي تمثل مرجعية الأوضاع القانونية التي نشأت في عام ١٨٢١م والمحمية بالقانون الدولي القديم القائم على توازن القوة خارج نطاق القانون الدولي الأوروبي من جهة وهوية الدولة المهدية التي نشأت بعد إنضمام الدولة العثمانية لإتفاقية دول المعاهدة الأوروبية بباريس في عام ١٨٥٦م إيذانا بإندماجها في منظومة القانون الدولي المعاصر، وإكتسبت بذلك الشخصية القانونية الدولية ووفقها تكون جميع الأراضي التابعة لها بعذ هذا التاريخ ضمن الإقليم الجغرافي والمحمية بالقانون الدولي ،وهوية الدولة المهدية تكونت بالوجود الفعلي منذ انتصار المهدية ومقتل غردون باشا (١٨٨٥- ١٨٩٩م) تاريخ سقوط الدولة المهدية ولكنها كدولة قامت داخل نطاق الإقليم الجغرافي للدولة العثمانية. لم يكن لها أي وجود قانوني طوال حياتها وإلى السقوط رغم وجودها الفعلي وذلك وفقا لمفهوم القانون الدولي المعاصر القائم على السيادة للدولة ذات الشخصية القانونية الدولية التي إنضمت لإتفاقية دول المعاهدة الأوربية . في ظل الاستعمار الثنائي نشأت النخب والتي كانت تعبر عن نفسها من خلال الهوية العثمانية التي ظلت سائدة لعدة قرون في مصر وفي جنوب مصر الحركات الوطنية التي نشأت مثل ثورة اللواء الأبيض كانت في إطار هوية الخديوية المصرية. إن تعقيدات تقرير مصير الأراضي الخاصعة لدولتي الحكم الثنائي كانت تحتاج إلى خبرة دولية ومعرفة والمام بالقانون الدولي ونجح ستانلي بيكر ولجنته في وضع افضل مشروع لتأسيس دولة في الأراضي السودانية وصدر القانون المنشئ لبرلمان ١٩٥٣م، وكانت توصيات لجنة ستانلي عبارة عن أسس كيفية التعاقد الحكمي بين السودانيين مثل المحامي الذي يقوم بصياغة مذكرات التعاقد بين الأطراف وليس بالضرورة متابعة ابرامها ، وحتى لو ساعد المحامي في مباشرة ابرام العقود فإن الخبرة الفنية في الصياغة لا تمثل إرادة المتعاقدين ولا تحل محلها ،وفي عهد الدولة الحديثة قامت دول وفي إجراءات التأسيس استعانت بمن لهم خبرة ودراية بالقانون الدستوري كما وليس بالضرورة مشاركة الخبراء لكتابة الدستور بل للإشهاد عليه كوثيقة سامية تمثل التعاقد الحكمي للأجيال المتعاقبة في الدولة بمثل مشاركة د حسن الترابي في الاشهاد على وضع دستور دولة الإمارات كالعديد من حملة شهادات القانون الدستوري ، فالمشاركة قد لا تكون بالضرورة للصياغة ،ولكن المشكلة في الشعب السوداني الذي يعتمد على المشافهة والحكي . اوصت لجنة ستانلي بيكر بكيفية التأسيس والحكم الذاتي وانتهى دورها وتم تبني توصيات اللجنة المذكورة وبموجبها قامت الإنتخابات تحت إشراف لجنة دولية مستقلة تماما عن تدخل سلطة الحاكم العام في الإنتخابات وتم تشكيل حكومة للحكم الذاتي مرجعيتها التفويض الإنتخابي لشعب السودان ووضع النواب المنتخبون قواعد تأسيس الدولة السودانية وصارت هذه القواعد ملكا للشعب السوداني الذي وضعه وعدم فهم قواعد التأسيس في غير هذا السياق يعني العودة بالبلاد إلى ما قبل إجازة قواعد التأسيس واوضاع الهوية العثمانية المحمية بالقانون الدولي والمهدية التي تعتبر في القانون الدولي مجرد خروج على الشرعية الدولية .
د ضيو ذكر بأن (أستاذ الصادق علي حسن لم يتعرف على حقيقة "المجاهدين" أو "قوات الدفاع الشعبي" في عهد البشير . وان هذه القوات كانت موجودة قبل انقلاب الاسلاميين على السلطة بإسم آخر "المراحيل" خاصة في جنوب دارفور وغرب كردفان ولكن تم تطويرها بعقيدة قتالية جديدة تضع الجهاد في الصدارة في عهد الاسلاميين وقد تناولنا الأمر في المشهد الثاني لرواية "إعدام جوزيف").
سأواصل الحديث حول ما اثاره د ضيو وعن ربط المراحيل بحزب الأمة ،وعدم الدقة في ذلك الربط ، ليس ذلك من أجل تبرئة حزب الأمة ولكن من أجل الحقيقة المجردة فالقبائل الرعوية في حزام التماس ظلت تحمل السلاح وتتسلح وهي تتنقل في حلها وترحالها، وحتى إذا كانت هنالك مجموعات من الرحل تم توظيفها في القتال مع الجيش في عهد الديمقراطية الثالثة ، فهذه مسؤولية المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وليست مسؤولية حزب الأمة أو رئيسه الصادق المهدي .  

مقالات مشابهة

  • كاتب فلسطيني: نتنياهو يسعى إلى حرب طويلة بلا سقف زمني
  • شركة الصبّاح تختار ١٥ رواية من معرض أبو ظبي الدولي للكتاب لتحويلها إلى أعمال درامية وسينمائية
  • بعد نجاح ازاي حبيبي.. أصالة تجدد تعاونها مع الملحن على أباظة
  • تأييد حبس كاتب بهتك عرض طالبة داخل مدرسة ببورسعيد
  • سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف”
  • مفتي الجمهورية: الصحافة عين الأمة التي لا تغفل وصوتها الذي لا يهادن
  • ” حرب الوعي في زمن الذكاء الصناعي: من يربح رواية فلسطين”
  • إدارة ترامب تمضي في خطة لتقليص وظائف الاستخبارات الأمريكية
  • زوجة جالينو تحتفل بفوزه بطريقة رومانسية: يا حبيبي نحن أبطال آسيا
  • تقرير دولي: عُمان تمضي بخطى واثقة نحو التحول الاقتصادي الشامل وفق "رؤية 2040"