من صام فليصم سمعه وبصره.. من قائلها وأثر ارتكاب المعاصي والذنوب على الفريضة
تاريخ النشر: 4th, February 2024 GMT
«من صام فليصم سمعه»، مقولة يتساءل الكثيرون عن قائلها ومدى صحتها، وهل هناك علاقة بين ارتكاب المعاصي وقبول الصوم.
من صام فليصم سمعهوقالت الإفتاء في بيانها مقولة «من صام فليصم سمعه»، جاء في الأثر المسؤول عنه ورد في كتب السُّنَّة النبوية المشرفة، ونصه أن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والحاكم في "معرفة علوم الحديث"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وابن المبارك في "الزهد والرقائق".
وتابعت في بيانها مدى صحة مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك": له شواهد من عدة طرق تؤيده وتقويه وإن كانت بعبارات مختلفة.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ» متفقٌ عليه.
وعَنْه أيضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في "تحفة الأبرار" (1/ 497، ط. أوقاف الكويت): [المقصود من إيجاب الصوم وشرعه: ليس نفس الجوع وعطشه، بل ما يتبعه من كسر الشهوة وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل له شيء من ذلك، ولم تتأثر به نفسه، ولم يكن له من صيامه إلا الجوع والعطش لا يبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نَظَرَ قبولٍ، إذ لم يقصد به مجرد جوعه وعطشه، فيحتفل به ويقبل منه. وقوله: «فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ» مجاز عن عدم الالتفات والقبول والميل إليه، نفى السبب وأراد نفي المسبب] اهـ.
مما يؤيد مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه ما ذكره الشراح وتواردت عليه النصوص في معناها، وشرح شواهدها: من أن التقرب إلى الله تعالى في الصيام لا يكون بمجرد ترك الطعام والشراب فحسب، وإنما ينبغي حفظ الصيام عن كلِّ ما يُنقصه في الأجر والثواب، أي: صيام الجوارح، فينبغي أن يكف الصائم سمعه وبصره عن المحرمات، وكذا لسانه عن الكذب والغيبة والظلم والعدوان، وغير ذلك من المآثم، بحيث إذا صام المرء عن الطعام والشراب والشهوات صامت معه كلُّ جوارحه عن فعل المحرمات، لا سيما وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بحفظ الجوارح، وأخبرنا أنهم شهود علينا في اليوم المشهود، والحال أن كَفَّ البصر والسمع عن المحرمات، واللسان عن الغِيبة والنميمة والكلام الفاحش -واجبٌ في غير الصوم، فلأن يتأكد وجوبُه في الصوم أولى.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 20].
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (ص: 155-156، ط. دار ابن حزم): [واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كلِّ حالٍ من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم..
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ ... وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنطِقِي صَمْتُ
فَحَظِّي إِذًا مِن صَوْمِيَ الجُوعُ وَالظَّمَا ... فَإِن قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَوْمِي فَمَا صُمْتُ
سر هذا: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلَّا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئًا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته؛ لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنًى يختص به، هذا هو قول جمهور العلماء] اهـ.
أثر ارتكاب المعاصي والذنوب على الصيامقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك مما ينقص أجر الصيام وثوابه، وأن الوقوع في مثل هذه الأمور لا يبطل الصوم بالكلية، لكنه ينقصه في الأجر.
قال الإمام الحطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 396، ط. دار الفكر): [ص: (وكف لسان) ش: يعني أنه يستحب للصائم أن يكف لسانه عن الإكثار من الكلام المباح، والكلام بغير ذكر الله سبحانه، وأما كف اللسان عن الغيبة والنميمة والكلام الفاحش فواجب في غير الصوم، ويتأكد وجوبه في الصوم، ولكنه لا يبطل به الصوم] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 356، ط. دار الفكر): [ينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم، معناه: يتأكد التنزه عن ذلك في حقِّ الصائم أكثر من غيره للحديث، وإلَّا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضًا، ويؤمر به في كلِّ حالٍ، والتنزه: التباعد، فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي فقال: يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه] اهـ.
وقال الإمام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 421، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(قوله: وينبغي له كف اللسان عن الفحش) ما أحسن قول المتولي: يجب على الصائم أن يصوم بعينيه، فلا ينظر إلى ما لا يحل، وبسمعه فلا يسمع ما لا يحل، وبلسانه فلا ينطق بفحش ولا يشتم ولا يكذب ولا يغتب اهـ. وقال في "الأنوار": وأن يصون لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والشتيمة ونحوها وسائر الجوارح عن الجرائم أكثر وأشد مما في غير رمضان؛ لأن الثواب يبطل بها] اهـ.
وقال الشيخ البُهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 488، ط. عالم الكتب): [(ويجب) مطلقًا (اجتناب كذبٍ وغيبةٍ ونميمةٍ وشتمٍ وفُحْشٍ ونحوه).. (و) وجوب اجتناب ذلك (في رمضان، و) في (مكان فاضل) كالحرمين (آكد)..
ولما يأتي: أن الحسنات والسيئات تتضاعف بالزمان والمكان الفاضل. قال أحمد: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري، ويصون صومه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدًا ولا نعمل عملا نجرح به صومنا] اهـ.
وشددت بناء على ذلك: فإن مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ" ثابتة وصحيحة، ولها شواهد من عدة طرق، ومعناها: أنه ينبغي على المسلم أن يصوم بجوارحه، فيكف سمعه وبصره ولسانه عن المحرمات والمآثم؛ لأنها تُنْقِص أجر الصيام وثوابه، وإن كان صومه لا يبطل بذلك.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الصوم إلى الله تعالى رضی الله عنه فی غیر
إقرأ أيضاً:
تقرير تاريخي يكشف ارتكاب بريطانيين إبادة جماعية بحق السكان الأصليين في أستراليا
في كشف تاريخي غير مسبوق، خلصت لجنة "يورّوك للعدالة" في أستراليا إلى أن المستوطنين البريطانيين ارتكبوا إبادة جماعية بحق السكان الأصليين في ولاية فيكتوريا، بعد عقود من الإنكار الرسمي والإهمال التاريخي.
التقرير الذي أصدرته اللجنة هذا الأسبوع يُعد الأول من نوعه في البلاد، حيث وُصف بأنه "محطة مفصلية" في مسار الاعتراف بالجرائم المرتكبة ضد الشعوب الأصلية، والمضي نحو عملية مصالحة وطنية شاملة.
تدمير ممنهج للسكان والثقافة
بحسب ما ورد في التقرير، فإن ما بين عامي 1834 و1851، انخفض عدد السكان الأصليين في فيكتوريا من نحو 60 ألفاً إلى 15 ألفاً فقط، نتيجة لموجة واسعة من العنف والقتل الجماعي، وانتشار الأمراض، والاعتداءات الجنسية، وعمليات الإقصاء، ومحو اللغة والثقافة، وتخريب البيئة، وسحب الأطفال من عائلاتهم، ومحاولات "الاستيعاب القسري".
وخلص التقرير إلى نتيجة حاسمة جاء فيها: "لقد كانت هذه إبادة جماعية بكل المقاييس."
أكثر من 100 توصية للتعويض
استند التقرير إلى أكثر من شهرين من جلسات الاستماع العلنية، و1300 شهادة وطلب مكتوب، وشمل أكثر من 100 توصية وُصفت بأنها تهدف إلى "جبر الضرر" الناتج عن الغزو والاحتلال.
وقد دعت اللجنة إلى الاعتراف الرسمي بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تعرّض لها السكان الأصليون، بما في ذلك النظر في تقديم تعويضات مادية ومعنوية.
ومن أبرز التوصيات:
- إصلاح شامل للنظام التعليمي ليتضمن رواية السكان الأصليين عن تاريخ البلاد وتقاليدهم.
- الأعتذار الرسمي من الحكومة لجنود السكان الأصليين الذين قاتلوا في الحربين العالميتين، وحُرموا بعد عودتهم من الامتيازات التي مُنحت للجنود الآخرين، مثل منح الأراضي.
- زيادة تمويل قطاع الصحة الخاص بالشعوب الأصلية، ومكافحة العنصرية "المتفشية" في النظام الصحي الرسمي.
- سياسات واضحة لتوظيف المزيد من الكوادر الطبية والإدارية من السكان الأصليين في المؤسسات الصحية.
رغم الطابع التوافقي العام للتقرير، أفادت اللجنة أن ثلاثة من أعضائها الخمسة وهم “سو-آن هانتر، وماجي والتر، وأنطوني نورث” لم يوافقوا على إدراج بعض "النتائج الرئيسية" في النسخة النهائية، دون أن يتم توضيح النقاط محل الخلاف بشكل علني. ويعكس هذا الخلاف تعقيد الملف وتعدد الروايات والقراءات المتعلقة بماضي أستراليا الاستعماري.
الحكومة تتعهد بدراسة النتائج
وفي أول تعليق رسمي، تعهدت حكومة ولاية فيكتوريا التي يقودها حزب العمال بدراسة التقرير "بعناية"، حيث قالت رئيسة الحكومة جاسينتا ألان إن "النتائج تُسلّط الضوء على حقائق مؤلمة يجب مواجهتها بشجاعة ومسؤولية".
من جانبها، وصفت جيل غالاغر، وهي مديرة أكبر هيئة تمثيلية لشؤون صحة ورفاه السكان الأصليين في فيكتوريا، ما توصل إليه التقرير بأنه "حقيقة لا يمكن إنكارها"، قائلة: "نحن لا نحمّل أحداً من الأحياء اليوم مسؤولية هذه الفظائع، لكن من واجبنا جميعاً أن نتحمل مسؤولية الاعتراف بهذه الحقيقة والعمل على التصالح معها".
وتُعد لجنة يوروك أول هيئة رسمية على مستوى الولايات الأسترالية تتبنى نهج "قول الحقيقة" حول ما ارتُكب من انتهاكات بحق الشعوب الأصلية، لكن النقاش بشأن إجراء تحقيقات مماثلة لا يزال متعثرًا في ولايات ومقاطعات أخرى.
ففي كوينزلاند، ألغت الحكومة الجديدة من حزب "التحالف الليبرالي الوطني" مشروع تحقيق مشابه بعد فوزها بالانتخابات، ما يعكس هشاشة الالتزام السياسي بقضية المصالحة الوطنية، وتباين المواقف الحزبية تجاه ماضي البلاد الاستعماري.
جدل متجدد بعد فشل الاستفتاء
كما يأتي التقرير بعد أشهر قليلة من فشل الاستفتاء الدستوري الذي جرى في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والذي كان يهدف إلى إنشاء هيئة وطنية تُعرف باسم "الصوت"، تتيح للسكان الأصليين تقديم المشورة للبرلمان بشأن التشريعات والسياسات التي تخصهم.
وقد صوت غالبية الأستراليين ضد التعديل، في انتكاسة كبيرة لحراك الاعتراف السياسي بالشعوب الأصلية.
ويفتح تقرير لجنة يورّوك الباب أمام مرحلة جديدة في النقاش الوطني حول كيفية التعاطي مع إرث الاستعمار، وتعويض الضرر التاريخي الممنهج.