«من صام فليصم سمعه»، مقولة يتساءل الكثيرون عن قائلها ومدى صحتها، وهل هناك علاقة بين ارتكاب المعاصي وقبول الصوم.

من صام فليصم سمعه

وقالت الإفتاء في بيانها مقولة «من صام فليصم سمعه»، جاء في الأثر المسؤول عنه ورد في كتب السُّنَّة النبوية المشرفة، ونصه أن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والحاكم في "معرفة علوم الحديث"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وابن المبارك في "الزهد والرقائق".

وتابعت في بيانها مدى صحة مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك": له شواهد من عدة طرق تؤيده وتقويه وإن كانت بعبارات مختلفة.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ» متفقٌ عليه.

وعَنْه أيضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".

قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في "تحفة الأبرار" (1/ 497، ط. أوقاف الكويت): [المقصود من إيجاب الصوم وشرعه: ليس نفس الجوع وعطشه، بل ما يتبعه من كسر الشهوة وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل له شيء من ذلك، ولم تتأثر به نفسه، ولم يكن له من صيامه إلا الجوع والعطش لا يبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نَظَرَ قبولٍ، إذ لم يقصد به مجرد جوعه وعطشه، فيحتفل به ويقبل منه. وقوله: «فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ» مجاز عن عدم الالتفات والقبول والميل إليه، نفى السبب وأراد نفي المسبب] اهـ.

الصيام سحر يقي من هذه الأمراض.. تعرف عليها حكم قطع الصيام بمجرد نية الإفطار بيان معنى مقولة سيدنا جابر: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك"

مما يؤيد مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه ما ذكره الشراح وتواردت عليه النصوص في معناها، وشرح شواهدها: من أن التقرب إلى الله تعالى في الصيام لا يكون بمجرد ترك الطعام والشراب فحسب، وإنما ينبغي حفظ الصيام عن كلِّ ما يُنقصه في الأجر والثواب، أي: صيام الجوارح، فينبغي أن يكف الصائم سمعه وبصره عن المحرمات، وكذا لسانه عن الكذب والغيبة والظلم والعدوان، وغير ذلك من المآثم، بحيث إذا صام المرء عن الطعام والشراب والشهوات صامت معه كلُّ جوارحه عن فعل المحرمات، لا سيما وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بحفظ الجوارح، وأخبرنا أنهم شهود علينا في اليوم المشهود، والحال أن كَفَّ البصر والسمع عن المحرمات، واللسان عن الغِيبة والنميمة والكلام الفاحش -واجبٌ في غير الصوم، فلأن يتأكد وجوبُه في الصوم أولى.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 20].

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (ص: 155-156، ط. دار ابن حزم): [واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كلِّ حالٍ من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم..

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ ... وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنطِقِي صَمْتُ

فَحَظِّي إِذًا مِن صَوْمِيَ الجُوعُ وَالظَّمَا ... فَإِن قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَوْمِي فَمَا صُمْتُ

سر هذا: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلَّا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئًا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته؛ لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنًى يختص به، هذا هو قول جمهور العلماء] اهـ.

أثر ارتكاب المعاصي والذنوب على الصيام

قد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك مما ينقص أجر الصيام وثوابه، وأن الوقوع في مثل هذه الأمور لا يبطل الصوم بالكلية، لكنه ينقصه في الأجر.

قال الإمام الحطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 396، ط. دار الفكر): [ص: (وكف لسان) ش: يعني أنه يستحب للصائم أن يكف لسانه عن الإكثار من الكلام المباح، والكلام بغير ذكر الله سبحانه، وأما كف اللسان عن الغيبة والنميمة والكلام الفاحش فواجب في غير الصوم، ويتأكد وجوبه في الصوم، ولكنه لا يبطل به الصوم] اهـ.

وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 356، ط. دار الفكر): [ينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم، معناه: يتأكد التنزه عن ذلك في حقِّ الصائم أكثر من غيره للحديث، وإلَّا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضًا، ويؤمر به في كلِّ حالٍ، والتنزه: التباعد، فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي فقال: يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه] اهـ.

وقال الإمام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 421، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(قوله: وينبغي له كف اللسان عن الفحش) ما أحسن قول المتولي: يجب على الصائم أن يصوم بعينيه، فلا ينظر إلى ما لا يحل، وبسمعه فلا يسمع ما لا يحل، وبلسانه فلا ينطق بفحش ولا يشتم ولا يكذب ولا يغتب اهـ. وقال في "الأنوار": وأن يصون لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والشتيمة ونحوها وسائر الجوارح عن الجرائم أكثر وأشد مما في غير رمضان؛ لأن الثواب يبطل بها] اهـ.

وقال الشيخ البُهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 488، ط. عالم الكتب): [(ويجب) مطلقًا (اجتناب كذبٍ وغيبةٍ ونميمةٍ وشتمٍ وفُحْشٍ ونحوه).. (و) وجوب اجتناب ذلك (في رمضان، و) في (مكان فاضل) كالحرمين (آكد)..

ولما يأتي: أن الحسنات والسيئات تتضاعف بالزمان والمكان الفاضل. قال أحمد: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري، ويصون صومه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدًا ولا نعمل عملا نجرح به صومنا] اهـ.

وشددت بناء على ذلك: فإن مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ" ثابتة وصحيحة، ولها شواهد من عدة طرق، ومعناها: أنه ينبغي على المسلم أن يصوم بجوارحه، فيكف سمعه وبصره ولسانه عن المحرمات والمآثم؛ لأنها تُنْقِص أجر الصيام وثوابه، وإن كان صومه لا يبطل بذلك.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الصوم إلى الله تعالى رضی الله عنه فی غیر

إقرأ أيضاً:

لو دعيت بحاجة معينة تحصل هل هذا اشتراط على ربنا؟ داعية يجيب

أجاب الدكتور رمضان عبد الرازق، الداعية الإسلامي، عن سؤال ورد اليه خلال فيديو منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، مضمونه : لو دعيت ربنا بحاجة معينة تحصل هل هذا اشتراط على ربنا ؟. 

ليرد “عبد الرازق”، قائلاً:" ليس اشتراط على الله تبارك وتعالى، أطلب من ربنا ما تريد بحاجة معينة، فكثير من الأنبياء طلبوا أمور معينة، دعا سيدنا سليمان ربنا عز وجل وقال {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، ودعا سدينا زكريا ربه قال { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}، وسيدنا إبراهيم عندما دعا المولى جل شانه قال { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}.

وتابع: أطلب وأدعو الله بأدعية معينة، اطلب اللى نفسك فيه اطلب المستحيلات، لو انت مش قادر هو على كل شيء قدير، ولكن إن أعطاك فأنت راضٍ وإن لم يعطك فأنت راضٍ، فالخيره فيما اختاره الله فانا اطلب ما اريد وهو يعطيني ما يريد وانا راضٍ بما يريد.

دعاء المطر والرعد والبرق.. 10 كلمات يقضي الله بها حاجتكدعاء لقضاء الحوائج لا يُرد في الثلث الأخير .. ردده وقت الاستجابة
سرار استجابة الدعاء

قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن تحري أوقات وأماكن وأحوال نفحات الله لاستجابة الدعاء ضرورة على كل مسلم، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله نفحات، فتعرضوا لنفحات الله».

وبيّن الدكتور علي جمعة، في تصريحات سابقة له، أن هذه النفحات الإلهية تتوزع في مواطن متعددة، على النحو الآتي:

أولاً من حيث الزمان: هناك أوقات مباركة يستحب فيها الإكثار من الدعاء والعبادة، مثل ثلث الليل الأخير، وليلة القدر، والعشر الأوائل من ذي الحجة، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وليلة النصف من شعبان، وليلة الإسراء والمعراج، وغيرها من الأزمان التي تفتح فيها أبواب الرحمة وتُستجاب فيها الدعوات.

ثانيا من حيث المكان: تضاعف الأعمال الصالحة وتُرجى الإجابة في المساجد، والأماكن الطاهرة، والحرمين الشريفين، فهي بقاع اختصها الله ببركة ومكانة عظيمة.

ثالثًا من حيث الأحوال: تتجلى النفحات عند نزول المطر، أو وقت الشدة والضرورة، أو حين يتعرض الإنسان للظلم، أو عندما يعلو الهم والرجاء في القلب، فهذه أحوال تفتح باب القرب من الله وتُلين القلب للدعاء.

رابعًا من حيث الأشخاص: حث الإسلام على طلب الدعاء من الصالحين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لسيدنا عمر رضي الله عنه: «أشركنا يا أخي في دعائك»، فدعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجاب.

أفضل سورة لاستجابة الدعاء قبل الفجر

ورد في أفضل سورة لاستجابة الدعاء قبل الفجر ، أن العلماء وجدوا معادلة أو خطة للدعاء من الله تعالى، في سورة الأنبياء، حيث إن شفرة استجابة الدعاء، في سورة الأنبياء، في قول الله تعالى "فَاسْتَجَبْنَا"، وتكررت 4 مرات في أربع آيات، بعد حدث جلل وضيق عظيم، في الآيات رقم ٧٦ و٨٤ و٨٨ و٩٠، العلماء لفت نظرهم هذا واعتبروا أرقام هذه الآيات هي تليفون إجابة الدعاء من الله عز وجل".

وجاء في الآيات التي ذكر فيها قوله تعالى: "فَاسْتَجَبْنَا"، وهي قول الله تعالى: «وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ » (٧٦ الأنبياء)، و«فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ» (٨٤ الأنبياء)، «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ » (٨٨ الأنبياء)، «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ» (٩٠ الأنبياء)، حيث إن هذه الآيات تدل على أن الأنبياء تعرضوا للبلاء.

واستجاب الله تعالى لهم، وليس معنى إصابة الإنسان بالابتلاءات دليلًا على أنه غير صالح، فالله تعالى إذا أحب عبدًا سمع من مناجاته، فعلينا الإكثار من الدعاء والتوبة وإخراج الصدقة، فسورة الأنبياء تتحدث عن الأنبياء، وتتحدث عن الابتلاءات والأمراض، والكروب التي تعرضوا لها، وكانوا يدعون الله تعالى يفرج عنهم.

طباعة شارك الدعاء استجابة الدعاء استعجال اجابة الدعاء

مقالات مشابهة

  • حكم إسناد سبب نزول المطر إلى كثرة البحار والأنواء.. الإفتاء تجيب
  • نواف العجارمة ينعى وفاة شقيقته
  • لو عاوز تحلم بحد مات تعمل إيه؟.. داعية إسلامى يوضح الطريقة
  • لو دعيت بحاجة معينة تحصل هل هذا اشتراط على ربنا؟ داعية يجيب
  • حكم الوضوء بماء المطر وفضله.. الإفتاء توضح
  • علي جمعة: العفاف الظاهر يؤدي إلى الباطن وفقدان أحدهما يعني فقد الآخر
  • علي جمعة: طريق الإنسان مقيد بـ «الذكر والفكر» لله تعالى
  • هل يجب على المرأة خدمة زوجها؟ عالم أزهري يجيب
  • علي جمعة: التواضع أصل العفاف الباطني.. والجهاد الأكبر يبدأ من تهذيب النفس
  • شهر الخير والبركات.. موعد رمضان 2026 وعدد ساعات الصيام