وهذا البيرم التونسي العظيم صاحب اللقب الشهير الذي أطلقه على مصر «بهية المحروسة»، شاعر العامية الذي خشيتِ العربية على سحر بيانها من فصاحة عاميته، وهو المناضل القومي الذي خلَّد بأشعاره مغزى القيمة الوطنية للنضال في دفتر الطرب الوطني. كانت مائدة بيرم أثناء ثورة 19 يحضرها نجيب الريحاني ومولانا الشاعر يونس القاضي والشيخ سيد درويش.

وذات يوم كان الريحاني يخصص الإفطار لفرقته، فحضرالثلاثي المشاغب الشهير: بيرم ودرويش والقاضي، وكان البوليس يطاردهم بسبب منشورات الثورة، فقال الريحاني: يعني أحضر مائدة فطار توديني قره ميدان، ده الشيخ سيد درويش تهمة لوحده وكمان بيرم يا سنة سوخة يا ولاد.. يضحك الحاضرون.

وكان لبيرم مائدة بائسة أخرى على قهوة أم كلثوم بعماد الدين، وقبل عيد الفطر بيومين كان عمنا بيرم على باب الله لا يجد حتى حق الدخان، فعلم أستاذ الجيل لطفي بك السيد ما يمرُّ به بيرم وعزَّ عليه حاله فقرر أن يعطي سائقه مائة جنيه كي يعطيها لبيرم، الذي يجلس على القهوة في انتظار مدفع الإفطار، القهوجي كل شوية يطلب الحساب، وبيرم يرد: اصبر شوية النهاردة أم كلثوم جاية هنا، طبعًا القهوجي سخر من بيرم ولم يصدقه.. .بعد دقائق تقف سيارة فخمة وينزل منها سائق مبجل بثياب رسمية يقول: من فضلكم فين أستاذ بيرم؟ فيقول له: نعم، يرد السائق كما فهم من لطفي بك السيد: هذه فلوس من السيدة أم كلثوم جاية لك من الإذاعة. يهلل بيرم من الفرح وطلب تحضير فطار ملوكي كيلو طَرْب وكباب بالسلطات والمخلل والطحينة، فيردّ القهوجي: لو حضرت كوكب الشرق يبقي كل مشاريب حضرتك مجانًا لغاية ما تموت ببلاش.

وبروح مرحة يحضر لطفي بك السيد ويجلس مع بيرم يفطر معه في انتظار حضور الشيخ سيد درويش، وحضور كوكب الشرق. أخفى لطفي بك أنه مَن أرسل النقود، ثم طلب من السائق اصطحاب أم كلثوم لمائدة بيرم، وخلال دقائق وصلت كوكب الشرق فوقف بيرم يبكي من الفرح والسعادة، وحضر الناس في شارع عماد الدين أكبر مائدة حدثت بالصدفة البحتة وكانت تاريخية بمعنى الكلمة.. .. .

فلاش باك.. هكذا يتذكر بيرم حياته في مصر التي يحبها بحنون.. .ثمانية عشر عامًا في باريس كان يفطر وحده على خبز فرنسي عفن كما حكى في مذكراته: سعيت بنفسي إلى (ليون) مدينة صناعة الصلب في فرنسا، تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وهي أيضًا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة.. وصلت لهذه المدينة في عز الشتاء ولأن جيوبي كانت شبه خاوية فقد أخذتُ المسألة من أقصر طرقها، وذهبت إلى أفقر أحيائها، واستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئًا يسمونه حجرة، كانت من الخشب الذي حوَّلته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص، إنها رائحة قريبة من العفن، وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة، وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي ولا أجد ثمن وجبة الإفطار.

والتحق بيرم بالعمل في أحد مصانع الحديد والصلب، ولكنه تركه بعد أن سقطت على فخذه قطعة حديد كبيرة، إلا أنه استطاع أن يحصل على شهادة حُسن سير وسلوك، وهي الشهادة التي سوف تسهل له العمل في فرنسا. والواقع أن بيرم لم يستطعِ الحصول على عمل جديد في مدينة ليون بسهولة، فهي مدينة لا تحبذ اشتغال الأجانب، ولهذا بدأ يقتصد في وجبات طعامه، فجعلها وجبة واحدة في اليوم، ثم اختصرها إلى وجبتين في الأسبوع، وكان كلما أراد أن ينسى آلام بطنه الخاوية، جلس ليستجمع ذكرياته عن مدينة الإسكندرية، وحياته في مصر بين الأهل والأصدقاء، وحفلات الإفطار مع الشيخ سيد درويش في كوم الدكة. وتنضب جيوب بيرم من النقود، وهو مازال يبحث عن عمل في المدينة التي لا تمنح طعامها إلا لمَن يعمل، ويدخل في مرحلة الجوع الكامل، إنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام، والجوع في مدينة درجة حرارتها تحت الصفر شيء قاتل لا يستطيع أن يصفه لنا إلا مَن ذاق قسوة التجربة بكل ما فيها من ألم وعذاب.. هكذا كان شهر رمضان في باريس: صيام بلا إفطار.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: سيد درويش بيرم التونسي نجيب الريحاني سید درویش أم کلثوم

إقرأ أيضاً:

الاتحاد العام التونسي للشغل يعقد اجتماعاً استثنائياً في ظل توتر متصاعد مع السلطة

يعقد الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في البلاد، الاثنين اجتماعا استثنائيا للهيئة الإدارية، وذلك على خلفية الهجوم الذي تعرّض له مقر الاتحاد الأسبوع الماضي على يد أنصار الرئيس قيس سعيد، تحت شعار "لا ميليشيات ولا روابط، الاتحاد ثابت". 

ويأتي هذا الاجتماع في ظل أجواء من التوتر والاحتقان المتصاعد، وسط دعوات لاتخاذ قرارات قد تشمل التصعيد، وحتى الإضراب العام، حيث أعلنت الهيئة أن "كل السيناريوهات واردة".

وقد شهد محيط مقر الاتحاد تجمعاً لعدد من النقابيين الذين رفعوا شعارات منها: "حريات حريات، دولة البوليس فات"، "الاتحاد لا يُهان"، و"شغل، حرية، كرامة وطنية"، تعبيرا عن رفضهم للاعتداءات ومحاولات التشويه.

وفي تعليق له على الهجوم الذي طال مقر الاتحاد الخميس الماضي، أكد الرئيس التونسي قيس سعيد أن "نيّة المحتجين لم تكن الاعتداء أو الاقتحام كما تُروّج لذلك ألسنة السوء"، مشيراً إلى أن "الشعب لم تعد تخفى عليه أدق التفاصيل"، في محاولة لتهدئة الأوضاع.

في المقابل، شدد الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، خلال مؤتمر صحافي، على أن الاتحاد "منظمة وطنية عريقة ولا يمكن لأي طرف احتكار الوطنية"، معتبراً التشبيهات التي وصفت المعتدين على مقر الاتحاد بمجموعات "روابط حماية الثورة" في 2011، "تشويهاً مردوداً عليه"، وربما يدل على وجود "تنسيق في هذه المسألة". 




وأوضح أن النقابيين مُنعوا من العبور نحو ساحة محمد علي في ذلك اليوم، بينما "هيّأت قوات الأمن كل الظروف لتواجد المعتدين أمام مقر الاتحاد"، مؤكداً أن "ساحة محمد علي لن تكون مباحة لأي كان".

وأضاف الطبوبي أن الاتحاد "نأى بنفسه عن المشاركة في الحوار السياسي عندما دُعي لذلك، ومنح العمال حق الاختيار في الاستفتاءات والانتخابات إيماناً بالتنوع". 

وأشار إلى أن الوضع تغير مع تشكيل حكومة الرئيس قيس سعيد بعد 25 تموز/يوليو 2021، حيث "جرى ضرب الحق النقابي ومصداقية التفاوض". 

ولفت إلى أن الاتحاد كان السباق في تسوية العديد من الملفات الاجتماعية، مشدداً على أنه "لن يقبل أن يُحدد له مربع أو أن تكون المفاوضات غير جادة"، مؤكداً أن فترة النقاش حول المفاوضات الاجتماعية "معطلة، في ضرب واضح للحق النقابي وللمفاوضات"، وأنهم "دعاة حوار مسؤول وجاد".


من جانبه، أكد الناطق الرسمي باسم الاتحاد، سامي الطاهري، في تصريحات لـ"عربي21"، أن "القضية أصبحت مسألة شرف وكرامة"، وأن النقابيين يرفضون اتهامات الفساد الموجهة إليهم سواء من رأس السلطة أو الحكومة أو غيرها، مشدداً على "حق النقابيين في الدفاع عن كرامتهم". وطالب الطاهري كل من يملك ملفات فساد أن يتوجه للقضاء، محذراً من "المحاكمات الشعبية". 

وأوضح أن الهيئة الإدارية "منعقدة الاثنين بصفة طارئة واستعجالية ولديها كل الخيارات للرد بما فيها الإضراب العام"، معتبراً أن "حملة التشويه ضد الاتحاد ممنهجة، وتنفذها غرف عملت مع عدة حكومات واليوم مع سلطة قيس سعيد".

وحذر الطاهري من "التصادم والحرب الأهلية"، وقال إن "التجييش من قبل رأس السلطة والعودة لمربع العنف مرفوضان"، داعياً إلى ضبط النفس وتهدئة الأوضاع.

وخلال افتتاح الاجتماع، أكد الطبوبي أن "من له ملف عليه أن يلجأ إلى القضاء"، وأن الاتحاد "ليس فوق المحاسبة". 

وشدد على أن "ساحة مقر الاتحاد لن تكون مباحة لأي جهة"، وأن السلطة "تتحمل المسؤولية عن الحادثة الأخيرة التي أرادوها أن تكون الخميس الأسود، بعدما أُعطيت الأوامر فجأة برفع الحواجز التي كانت تحيط بالمقر، مما سمح لمجموعات إجرامية بالوصول إليه".

يُذكر أن الهيئة الطارئة شهدت رفع شعارات قوية ضد سلطة الرئيس قيس سعيد، منها "يا عساس الطليان، أي حارس حدود إيطاليا، الاتحاد لا يُهان"، و"حريات حريات، لا قضاء التعليمات"، و"حريات دولة البوليس فات".

ويأتي هذا التصعيد في ظل توتر حاد يشوب العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة، رغم أن الاتحاد كان من الداعمين والمسندين لمسار سعيد في مراحل سابقة. 




مقالات مشابهة

  • الاتحاد العام التونسي للشغل يعقد اجتماعاً استثنائياً في ظل توتر متصاعد مع السلطة
  • نجوى كرم تشعل مسرح قرطاج الأثري مع الجمهور التونسي
  • وفاة الفنان التونسي الفاضل الجزيري بعد صراع مع المرض
  • تكريم اسم الفنان لطفي لبيب والإعلامي عمرو الليثي بمهرجان إبداع للشباب- (25 صورة)
  • في المشاركة الأولى لـ معلول.. الصفاقسي يخسر في الدوري التونسي
  • بهية الحريري: كل التضامن مع المؤسسة العسكرية وأسر الشهداء
  • بعد الفجر ودون إفطار..شيخ الأزهر يستذكر تجربته مع حفظ القرآن في الكُتَّاب
  • الصفاقسي التونسي ينجح في قيد علي معلول والصفقات الجديدة
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: إذ تستعيد هذه الخطوة نهج المؤتمرات التي سعت لتقسيم سوريا قبل الاستقلال فإن الحكومة السورية تؤكد أن الشعب السوري الذي أفشل تلك المخططات وأقام دولة الاستقلال سيُفشل اليوم هذه المشاريع مجدداً ماضياً بثقة نحو بناء ا
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: هذا المؤتمر خرق للاستحقاقات التي باشرت الحكومة السورية في تنفيذها بما في ذلك تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وبدء أعمالها، ومسار الحوار الوطني الذي أطلقته الحكومة السورية في شباط الماضي والمستمر حتى إيصال البلاد إ